- المشاهدات: 71
- الردود: 2
تأليف: نهلة الناقة
في بلدتنا الريفية المتمدنة يمكنك رؤية شجرة الصفصاف خاصتنا من كل اتجاه، بل ويمكنك أن ترى الناس وهم يتوافدون عليها، لا للجلوس والاستمتاع بظلالها، ولكن لمقابلة "العم ياسين"!
"العم ياسين" رجل ستيني سرى الشيب في رأسه منذ عقد فائت، لا نتذكر على وجه التحديد متى بدأ يجلس تحت شجرة الصفصاف ولا متى جاء إلى بلدتنا من الأساس. وكأننا استيقظنا مرة فوجدناه هكذا ولم نتساءل ولم نعقب، فقط تقبلناه هنا بهيئته وشخصيته وروعة أسلوبه في الكتابة.
نعم، نسيت أن أخبركم أهم خبر عن "العم ياسين" إنه كاتب رسائل بلدتنا. نعم نعم أعلم أننا لسنا في عهد المماليك حتى نرسل لبعضنا رسائل ورقية، لكنكم لم تتذوقوا جمال كلمات وتعبيرات "العم ياسين"، لم تجربوا أن تتحول مشاعركم وذكرياتكم إلى كلمات تروى وقصائد تلقى فيتصدع منها جدار الزمن.
فمثلا ها هي "الأخت صفية" تزوجت من شاب فلسطيني وعاشت معه عامين في مصر، ومنذ عام مضى قررا أن يستقرا في غزة، خاصة بعد أن أنجبت طفلتهم الأولى، ولكن "الأخ عامر" زوجها – أراد أن يذهب أولا ليجهز لهما المنزل ويمهد لذهابهما هناك. ولا تريدون معرفة الباقي خاصة وأنه ذهب قبل أحداث 7 أكتوبر بأسبوع واحد، وانقطعت أخباره، وترك خلفه الأخت صفية ورضيعتها مثقلتان بأحزانهما. وكل أسبوع تأتي "الأخت صفية" إلى "العم ياسين" ليكتب لها رسالة لزوجها، ثم تأخذ منه الرسالة وتقرأها بضع مرات ثم تضعها في صندوق البريد على عنوانه في غزة لعلها تصله في يوم قريب.
عندما تتوجه نحو "العم ياسين" ترى لوحة فنية متكاملة الأركان، فهو يجلس كعادته يخط بريشته على الأوراق العتيقة، وفوق رأسه تتمايل أغصان الصفصافة مع نسمات الهواء الرقيقة. فرقة من أوركسترا الطبيعة تعزف نغمات المشاعر التي يحيكها ببساطة.
قصصت عليه كل ما أخبرني به عابر السبيل، ومعروف عن "العم ياسين" أنه يتفاعل مع أصحاب الرسائل ويشاركهم وجدانيا، لكن هذه المرة كانت مختلفة، خاصة عندما نقلت له الجملة التي قالتها الزوجة على فراش الموت "أخبروه أنه حلو حياتي، وسعادتي الأبدية". بدت عليه علامات الفجع، اغرورقت عيناه بالدموع، وتنهد تنهيدة طويلة وتاه في عالم موازٍ، لم أعلم حينها هل ما زال يسمعني أم أنه غادر الكوكب. وبعد أن انتهيت، جلست أنتظره يكتب الرسالة.
بدأ يكتب في صمت تام ويتمعن في كلماته، وأثناء فرار دمعة شقت طريقها في وجنته توقف عن الكتابة، وأطال النظر تجاه المكان الذي أشرت له عليه بأن الغريب يجلس فيه ينتظرني، ثم جفف دمعته وتحكم في نفسه وعاد للكتابة مرة ثانية، وبعد أن انتهى من الرسالة، ناولني إياها وقال: أخبر الغريب أنه ما عاد غريبا.
في بلدتنا الريفية المتمدنة يمكنك رؤية شجرة الصفصاف خاصتنا من كل اتجاه، بل ويمكنك أن ترى الناس وهم يتوافدون عليها، لا للجلوس والاستمتاع بظلالها، ولكن لمقابلة "العم ياسين"!
"العم ياسين" رجل ستيني سرى الشيب في رأسه منذ عقد فائت، لا نتذكر على وجه التحديد متى بدأ يجلس تحت شجرة الصفصاف ولا متى جاء إلى بلدتنا من الأساس. وكأننا استيقظنا مرة فوجدناه هكذا ولم نتساءل ولم نعقب، فقط تقبلناه هنا بهيئته وشخصيته وروعة أسلوبه في الكتابة.
نعم، نسيت أن أخبركم أهم خبر عن "العم ياسين" إنه كاتب رسائل بلدتنا. نعم نعم أعلم أننا لسنا في عهد المماليك حتى نرسل لبعضنا رسائل ورقية، لكنكم لم تتذوقوا جمال كلمات وتعبيرات "العم ياسين"، لم تجربوا أن تتحول مشاعركم وذكرياتكم إلى كلمات تروى وقصائد تلقى فيتصدع منها جدار الزمن.
فمثلا ها هي "الأخت صفية" تزوجت من شاب فلسطيني وعاشت معه عامين في مصر، ومنذ عام مضى قررا أن يستقرا في غزة، خاصة بعد أن أنجبت طفلتهم الأولى، ولكن "الأخ عامر" زوجها – أراد أن يذهب أولا ليجهز لهما المنزل ويمهد لذهابهما هناك. ولا تريدون معرفة الباقي خاصة وأنه ذهب قبل أحداث 7 أكتوبر بأسبوع واحد، وانقطعت أخباره، وترك خلفه الأخت صفية ورضيعتها مثقلتان بأحزانهما. وكل أسبوع تأتي "الأخت صفية" إلى "العم ياسين" ليكتب لها رسالة لزوجها، ثم تأخذ منه الرسالة وتقرأها بضع مرات ثم تضعها في صندوق البريد على عنوانه في غزة لعلها تصله في يوم قريب.
**************
- - من؟ من يربت على كتفي؟ نعم يا عم، ماذا تريد مني؟
- - أهلا بك، هل تريد كتابة رسالة؟
- - لا تقلق "العم ياسين" مألوف للجميع يحتوي من لا مأوى لمشاعره، إنه يتلقى عشرات الطلبات يوميا لكتابة رسائل من أشخاص نادمون أو محبون، لا فرق لديه، لا تخجل منه أبدا.
- - بالطبع، كيف لي أن أساعدك؟
- - بكل سرور، أخبرني هيا.
- - ماذا!! ولماذا يلوم نفسه على قضاء الله وقدره!
- - أحزنتني كثيرا، لا أعلم على من تحديدا أنا حزين الآن فثلاثتكم تضررتم.
- - معقول لم تعرضوه على طبيب؟
- - يا لها من مأساة! أنا آسف لك جدا، وأتمنى أن يعوضك الله ويجمعك بوالدك عما قريب.
- - ما هذا!! يا له من خطاب مؤثر، متأكد أن "العم ياسين" سوف يرغب في مقابلتك، فأسلوبك شبيه بأسلوبه. انتظرني هنا، سوف أذهب إليه أنقل له خبرك، وأعود برسالتك إن شاء الله.
- - عفوا! ماذا قلت؟
**************
عندما تتوجه نحو "العم ياسين" ترى لوحة فنية متكاملة الأركان، فهو يجلس كعادته يخط بريشته على الأوراق العتيقة، وفوق رأسه تتمايل أغصان الصفصافة مع نسمات الهواء الرقيقة. فرقة من أوركسترا الطبيعة تعزف نغمات المشاعر التي يحيكها ببساطة.
- - السلام عليكم يا عم ياسين.
- = وعليكم السلام يا ولدي، لماذا تلهث هكذا؟ اجلس ثم أخبرني.
- - إني رسول إليك من رجل غريب، أوصاني أن أقص عليك قصته وتكتب له رسالة.
- = حسنا، التقط أنفاسك وأخبرني.
قصصت عليه كل ما أخبرني به عابر السبيل، ومعروف عن "العم ياسين" أنه يتفاعل مع أصحاب الرسائل ويشاركهم وجدانيا، لكن هذه المرة كانت مختلفة، خاصة عندما نقلت له الجملة التي قالتها الزوجة على فراش الموت "أخبروه أنه حلو حياتي، وسعادتي الأبدية". بدت عليه علامات الفجع، اغرورقت عيناه بالدموع، وتنهد تنهيدة طويلة وتاه في عالم موازٍ، لم أعلم حينها هل ما زال يسمعني أم أنه غادر الكوكب. وبعد أن انتهيت، جلست أنتظره يكتب الرسالة.
بدأ يكتب في صمت تام ويتمعن في كلماته، وأثناء فرار دمعة شقت طريقها في وجنته توقف عن الكتابة، وأطال النظر تجاه المكان الذي أشرت له عليه بأن الغريب يجلس فيه ينتظرني، ثم جفف دمعته وتحكم في نفسه وعاد للكتابة مرة ثانية، وبعد أن انتهى من الرسالة، ناولني إياها وقال: أخبر الغريب أنه ما عاد غريبا.
**************