- المشاهدات: 116
- الردود: 3
كانت تنظر إليَ وعيناها دامعة، تقطر عبرات الفرح كما لو أنني المولودة الأولى والأخيرة التي أنارت هذا العالم بعد عتمة دامت لقرون، لم أكن أعي في ذلك الوقت مدى سعادتها حينما بدأت أن أفتح عيناي وأنظر إلى وجهها البسام، لكنها كانت تسرد لي بين الحين والآخر ذكريات لحظاتي الأولى في الحياة، وفي كل مرة كانت أعينها تشع سعادة لا تصفها الكلمات.
ما كل هذا الحب الذي أراه في عين أمي؟ ألهذا الحد أنا ذات أهمية لديها؟ كيف ذلك وأنا الوسطى؟ فقد أنجبت قبلي ولدًا وبعدي مثله! لكنها كانت تخبرني بأنني الأقرب إلى قلبها، خاصة وأنني أحمل صفاتها، أستطيع تقليد حركاتها بشكل عفوي، حتى أن صوتي مطابق لصوتها.
منذ أن أبصرت ورأيت عيناكِ يا أمي، أدركت أن الحياة بأكملها تنظر إليّ، فعندما يُذكر الأمان، الحنان، والدفء، لا يأتي ببالي سواكِ، نعم كان أبي يقوم بدوره على أكمل وجه، يوفر لي كل ما أحتاج، يكفُل لي الحياة الكريمة بشتى جوانبها، يضحك ويلهو معي في كثير من الأوقات، لكن كانت أمي بمثابة القمر الذي ينير أيامي، لكن دون أن أقف لساعات طويلة في الشرفة أنتظر قدومه، فقد كانت أمي هي رمز العطاء الذي لا ينتهي.
مرت الأيام بشكل سريع، ولكنني أذكر أن يدي لم تفارق يد أمي طوال هذه الأيام، فقد كانت رفيقتي في كل خطوة، لا أتذكر أنني نمت ذات يوم باكية أو نال الحزن من قلبي دون أن تمحو أمي أثره في الحال، فقد كانت تقول لي دائمًا :" تُحزنك الدنيا يا ابنتي وأمكِ تُرضيكي".
لازلت أذكر اليوم الأول لي في الروضة، فقد كنت أقف على بابها بينما تحتضنني أمي بشدة كما لو أنني سأسافر الآن إلى كندا وأمكث لعام أو أكثر، كنت آخر من تذهب إلى روضتها وأول من تغادرها، فقد كانت أمي تنتظر موعد خروجي من الروضة كما لو أنه موعد عودة الأكسجين إلى رئتيها، الأمر ذاته عندما التحقت بإحدى المدارس، ففي كل يوم كان شوق أمي يتجدد حين أقبل على مغادرة المنزل، حيث تودعني بقبلة حانية وتدعو الله عز وجل أن يوفقني إلى ما يحبه ويرضاه، بينما يديها الدافئتين تتأكد من إغلاقي السترة بإحكام وهي تقول:" إن الطقس بارد اليوم" بالرغم من أنني أشعر بدفئه، في الحقيقة لم أكن أعلم حينها أكان ذلك دفء الطقس أم قلب أمي؟
اشتد ساعدي، أصبحت في المرحلة الإعدادية، "كبرت يا أمي، لا تقلقي عليّ، لن أتأخر، أمي لديّ الكثير من الصديقات" مثل تلك العبارات كنت أكررها كل يوم كي تعي أمي أنني لم أعد صغيرة وأني لست في حاجة إلى مشاركتها لي طوال الوقت، لم أكن أعلم أنها كانت تفعل ذلك لأنها تحبني كثيرًا وتخاف أن يمسني أي سوء، فقد كانت تريد أن تكون هي صاحبتي، رفيقتي، صديقتي، بل جميع الصديقات.
أحسست بذلك حينما خرجت من بوابة المدرسة لأرى أمي أمامي، على الرغم من المسافة البعيدة التي تقع بين المدرسة ومنزلنا، " ما الذي أتى بكِ إلى هُنا يا أمي؟ هل هُناك خطب ما؟" لكنها فاجأتني بأنها تريد أن تكون الصديقة التي ترافقني إلى المنزل، لأنها شعرت بالاشتياق إليّ في هذا اليوم أكثر من أي يوم مضى.
لا أخفيكم أمرًا، ثمة خوف تسرب إلى قلبي في ذلك الوقت، تُرى ما الذي ينتظرني في الأيام القادمة جعل أمي تقول هذه الكلمات؟ كنت أُكذب حدسي، أقول في قرارة نفسي: محظوظة أنتِ بأُم بنكهة ضديقة وأخت لن تغار منكِ يومًا، ولن تكنّ لكِ إلا كل خير، لكنني لم أكن أعلم أن القدر يخبئ لي الكثير.
لم أكن أخفي عنها أي من الأحداث اليومية التي أمر بها، أسير خلف أمي في كل الأماكن، أخبرها بأدق التفاصيل، حتى وإن اقترفت أي من الأخطاء، لا أتردد في أن أقول لها، فهي التي ستستر عيبي وترشدني للصواب، وتقول للعالم أجمع:" ابنتي لا تخطئ أبدًا"، لذلك كنت أشعر دائمًا بأنني في مأمن من شرور الدنيا ولا يمكن لأي من الخيبات أن تهزمني، ولكنني كنت مخطئة، " ابنتكِ هذه المرة أخطأت يا أمي".
أيام تجر أيام إلى أن أصبحت شابة جميلة في مقتبل عمري، ناضجة، عاقلة، ولكن لا تزال أمي تنظر إليّ ببرائتها وجمال عينيها، فتحكي لي مجددًا عن سعادتها في اليوم الأول لي في هذه الدنيا بينما أنا بين أحضانها أنظر إليها، ولا تزال عينيها تترقرق بدمعات الفرح، ما هذا الحب النقي الذي إن وُزع على أبناء العالم كله لوسعهم وزاد؟
نعم، كانت أمي تكن الحب الكبير أيضًا لأخوتي، لكنها كانت تخبرني أن لي في قلبها المكانة المختلفة، فهي تشعر كما لو أنني لست ابنتها فقط، بل أختها، صديقتها بل وأمها، خاصة وأن جدتي قد توفاها الله منذ أعوام طوال، ولي خالة واحدة مقيمة بالخارج لا تتواصل معنا سوى قليلًا.
" أمي، أصبحت الآن ابنتك عروس، ويريد أحدهم التقدم لخطبتها" لم أنس مطلقًا ما قالته لي في تلك اللحظة:" أتعلمين يا حبيبتي؟ إن سعادة الدنيا الآن تغمر قلبي، ولكن هل ستتركيني؟ كيف لي أن أُزوجك وأعيش يومي بدونك؟ والله إني سأفقد أمي حينها للمرة الثانية" قبّلت رأسها وأخبرتها أنني لن أتركها ما حييت، وقطعت لها وعدًا وهو أنني عندما أتزوج لن أجعل يومي يمر دون أن أكون بين يديها أُقبل رأسها وأسمع من فمها أجمل الدعوات.
ومرت الأحداث سريعًا وتمت خطبتي، كانت أمي جميلة للغاية في ذلك اليوم، تراقبني بعينيها الدافئتين كما لو أن المكان يخلو من البشر أجمع إلا أنا، تمنيت في هذه اللحظة أن يكون قلب شريك حياتي حاملًا ربع مقدار حب أمي لي، ففي تلك الحالة سأعيش حياة ليس لسعادتها نهاية أبدًا.
لكن دائمًا تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، مرضت أمي، كان الأمر في البداية لا يزيد عن عدة أعراض تصفها أمي بأنها محض اضطرابات صحية، خاصة وأن الشعر الفضي قد وجد له مكانًا بين خصلات شعرها التي تتميز بسوادها القاتم، لكن كان قلبي يخبرني أن ثمة أمر آخر قد أصاب أمي لكنها لن تخبرني.
تتبعت حدسي إلى أن تيقنت أن أمي مريضة بما سيفتك بقلبي قبل أن ينال من جسدها الحاني، إنها مريضة سرطان منذ أعوام، لم تعد ملامحها الدافئة قادرة على أن تخفي ما تشعر به من ألم، لا أدري ما الذي أصاب قلبي حينما علمت بما أخفته أمي عني طوال تلك الفترة، لكنني تظاهرت بالتماسك كي أكون الساعد الذي تميل إليه فتستند لتعود قوية كما عهدتها طوال الوقت.
كنت أنظر إلى أمي في كل صباح، أخبر نفسي أنها ستكون بخير، ياليت كل ما كنت أخبر نفسي به حينها تحقق، فقد بدأت حالتها الصحية في التدهور، بات المرض يأكل جسدها أكلًا، وهن عظم أمي، لم تعد قادرة على أن تسير لمسافات بعيدة، تتبعني أينما ذهبت، بل إنها أصبحت غير قادرة على الصلاة قائمة، وعلى الرغم من ذلك كانت تبتسم ابتسامة الرضا طوال الوقت.
أصبحت رائحة الموت تحيط بي من كل جانب، ولكن لأن عقلي يرفض الفراق، أكتم أنفاسي، وإن رأيت الموت شبحًا أغمض عيناي، " لا، لن تذهب أمي، لا أعرف للحياة معنى من دونها، كيف سأكون من غيرها؟" كنت أدعو الله أن يمن عليها بالشفاء ليل نهار، وبينما أنا جالسة ذات ليلة أناجيه، أحسست بيدها الدافئة على كتفي، همست في أذني قائلة:" إن أمره كله خير، سأشتاق لكِ كثيرًا يا حبيبتي، وأنا على العهد، ولكن سنلتقي في الجنة".
أذكر أن قلبي في تلك الآونة كان يقطر دمًا وليس دمعًا، قبّلت رأسها وأخبرتها أنها ستكون بخير قريبًا، قريبًا جدًا، وما هي إلا أيام قليلة واشتد المرض على أمي، كنت أشعر أن قلبي يود أن يغادر ضلوعي ويمسك بها، يرجوها لتبقى.
إلى أن أتى يوم اثنين، شمسه كانت دافئة كما لو أنه يوم ربيعي تستعد فيه السماء لاستقبال روح أمي ببهجة وسعادة غامرة، كانت بين أحضاني أنظر إلى عينيها كما كانت تنظر إليّ منذ نعومة أظافري، تقطر عيناي العبرات أيضًا، ولكن في هذه المرة لم تكن عبرات فرح قط، بل دمعات ألم، شوق، نار نالت من قلبي فأهلكته، أود أن أصرخ ولكن ما فائدة الصراخ؟
أغمضت أمي عيناها للمرة الأخيرة، وهي ممسكة بيدي كما كنت ممسكة بيدها منذ يومي الأول، كانت تخشى أن أتزوج وأغيب عن عينيها بضع ساعات كل يوم، لكنها رحلت عني دون عودة، حينها سمعت صوت قلبي وهو يتهشم ويتحول إلى فُتات أكبر قطعة به لا تتجاوز حجم عبرة من عبرات عيني، غادرتني أمي يوم اثنين ومنذ ذلك الحين وأنا أنتظر قدوم ثلاثاء، لكنه لم يـأتِ، ولكنني على العهد يا أمي.
ما كل هذا الحب الذي أراه في عين أمي؟ ألهذا الحد أنا ذات أهمية لديها؟ كيف ذلك وأنا الوسطى؟ فقد أنجبت قبلي ولدًا وبعدي مثله! لكنها كانت تخبرني بأنني الأقرب إلى قلبها، خاصة وأنني أحمل صفاتها، أستطيع تقليد حركاتها بشكل عفوي، حتى أن صوتي مطابق لصوتها.
منذ أن أبصرت ورأيت عيناكِ يا أمي، أدركت أن الحياة بأكملها تنظر إليّ، فعندما يُذكر الأمان، الحنان، والدفء، لا يأتي ببالي سواكِ، نعم كان أبي يقوم بدوره على أكمل وجه، يوفر لي كل ما أحتاج، يكفُل لي الحياة الكريمة بشتى جوانبها، يضحك ويلهو معي في كثير من الأوقات، لكن كانت أمي بمثابة القمر الذي ينير أيامي، لكن دون أن أقف لساعات طويلة في الشرفة أنتظر قدومه، فقد كانت أمي هي رمز العطاء الذي لا ينتهي.
مرت الأيام بشكل سريع، ولكنني أذكر أن يدي لم تفارق يد أمي طوال هذه الأيام، فقد كانت رفيقتي في كل خطوة، لا أتذكر أنني نمت ذات يوم باكية أو نال الحزن من قلبي دون أن تمحو أمي أثره في الحال، فقد كانت تقول لي دائمًا :" تُحزنك الدنيا يا ابنتي وأمكِ تُرضيكي".
لازلت أذكر اليوم الأول لي في الروضة، فقد كنت أقف على بابها بينما تحتضنني أمي بشدة كما لو أنني سأسافر الآن إلى كندا وأمكث لعام أو أكثر، كنت آخر من تذهب إلى روضتها وأول من تغادرها، فقد كانت أمي تنتظر موعد خروجي من الروضة كما لو أنه موعد عودة الأكسجين إلى رئتيها، الأمر ذاته عندما التحقت بإحدى المدارس، ففي كل يوم كان شوق أمي يتجدد حين أقبل على مغادرة المنزل، حيث تودعني بقبلة حانية وتدعو الله عز وجل أن يوفقني إلى ما يحبه ويرضاه، بينما يديها الدافئتين تتأكد من إغلاقي السترة بإحكام وهي تقول:" إن الطقس بارد اليوم" بالرغم من أنني أشعر بدفئه، في الحقيقة لم أكن أعلم حينها أكان ذلك دفء الطقس أم قلب أمي؟
اشتد ساعدي، أصبحت في المرحلة الإعدادية، "كبرت يا أمي، لا تقلقي عليّ، لن أتأخر، أمي لديّ الكثير من الصديقات" مثل تلك العبارات كنت أكررها كل يوم كي تعي أمي أنني لم أعد صغيرة وأني لست في حاجة إلى مشاركتها لي طوال الوقت، لم أكن أعلم أنها كانت تفعل ذلك لأنها تحبني كثيرًا وتخاف أن يمسني أي سوء، فقد كانت تريد أن تكون هي صاحبتي، رفيقتي، صديقتي، بل جميع الصديقات.
أحسست بذلك حينما خرجت من بوابة المدرسة لأرى أمي أمامي، على الرغم من المسافة البعيدة التي تقع بين المدرسة ومنزلنا، " ما الذي أتى بكِ إلى هُنا يا أمي؟ هل هُناك خطب ما؟" لكنها فاجأتني بأنها تريد أن تكون الصديقة التي ترافقني إلى المنزل، لأنها شعرت بالاشتياق إليّ في هذا اليوم أكثر من أي يوم مضى.
لا أخفيكم أمرًا، ثمة خوف تسرب إلى قلبي في ذلك الوقت، تُرى ما الذي ينتظرني في الأيام القادمة جعل أمي تقول هذه الكلمات؟ كنت أُكذب حدسي، أقول في قرارة نفسي: محظوظة أنتِ بأُم بنكهة ضديقة وأخت لن تغار منكِ يومًا، ولن تكنّ لكِ إلا كل خير، لكنني لم أكن أعلم أن القدر يخبئ لي الكثير.
لم أكن أخفي عنها أي من الأحداث اليومية التي أمر بها، أسير خلف أمي في كل الأماكن، أخبرها بأدق التفاصيل، حتى وإن اقترفت أي من الأخطاء، لا أتردد في أن أقول لها، فهي التي ستستر عيبي وترشدني للصواب، وتقول للعالم أجمع:" ابنتي لا تخطئ أبدًا"، لذلك كنت أشعر دائمًا بأنني في مأمن من شرور الدنيا ولا يمكن لأي من الخيبات أن تهزمني، ولكنني كنت مخطئة، " ابنتكِ هذه المرة أخطأت يا أمي".
أيام تجر أيام إلى أن أصبحت شابة جميلة في مقتبل عمري، ناضجة، عاقلة، ولكن لا تزال أمي تنظر إليّ ببرائتها وجمال عينيها، فتحكي لي مجددًا عن سعادتها في اليوم الأول لي في هذه الدنيا بينما أنا بين أحضانها أنظر إليها، ولا تزال عينيها تترقرق بدمعات الفرح، ما هذا الحب النقي الذي إن وُزع على أبناء العالم كله لوسعهم وزاد؟
نعم، كانت أمي تكن الحب الكبير أيضًا لأخوتي، لكنها كانت تخبرني أن لي في قلبها المكانة المختلفة، فهي تشعر كما لو أنني لست ابنتها فقط، بل أختها، صديقتها بل وأمها، خاصة وأن جدتي قد توفاها الله منذ أعوام طوال، ولي خالة واحدة مقيمة بالخارج لا تتواصل معنا سوى قليلًا.
" أمي، أصبحت الآن ابنتك عروس، ويريد أحدهم التقدم لخطبتها" لم أنس مطلقًا ما قالته لي في تلك اللحظة:" أتعلمين يا حبيبتي؟ إن سعادة الدنيا الآن تغمر قلبي، ولكن هل ستتركيني؟ كيف لي أن أُزوجك وأعيش يومي بدونك؟ والله إني سأفقد أمي حينها للمرة الثانية" قبّلت رأسها وأخبرتها أنني لن أتركها ما حييت، وقطعت لها وعدًا وهو أنني عندما أتزوج لن أجعل يومي يمر دون أن أكون بين يديها أُقبل رأسها وأسمع من فمها أجمل الدعوات.
ومرت الأحداث سريعًا وتمت خطبتي، كانت أمي جميلة للغاية في ذلك اليوم، تراقبني بعينيها الدافئتين كما لو أن المكان يخلو من البشر أجمع إلا أنا، تمنيت في هذه اللحظة أن يكون قلب شريك حياتي حاملًا ربع مقدار حب أمي لي، ففي تلك الحالة سأعيش حياة ليس لسعادتها نهاية أبدًا.
لكن دائمًا تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، مرضت أمي، كان الأمر في البداية لا يزيد عن عدة أعراض تصفها أمي بأنها محض اضطرابات صحية، خاصة وأن الشعر الفضي قد وجد له مكانًا بين خصلات شعرها التي تتميز بسوادها القاتم، لكن كان قلبي يخبرني أن ثمة أمر آخر قد أصاب أمي لكنها لن تخبرني.
تتبعت حدسي إلى أن تيقنت أن أمي مريضة بما سيفتك بقلبي قبل أن ينال من جسدها الحاني، إنها مريضة سرطان منذ أعوام، لم تعد ملامحها الدافئة قادرة على أن تخفي ما تشعر به من ألم، لا أدري ما الذي أصاب قلبي حينما علمت بما أخفته أمي عني طوال تلك الفترة، لكنني تظاهرت بالتماسك كي أكون الساعد الذي تميل إليه فتستند لتعود قوية كما عهدتها طوال الوقت.
كنت أنظر إلى أمي في كل صباح، أخبر نفسي أنها ستكون بخير، ياليت كل ما كنت أخبر نفسي به حينها تحقق، فقد بدأت حالتها الصحية في التدهور، بات المرض يأكل جسدها أكلًا، وهن عظم أمي، لم تعد قادرة على أن تسير لمسافات بعيدة، تتبعني أينما ذهبت، بل إنها أصبحت غير قادرة على الصلاة قائمة، وعلى الرغم من ذلك كانت تبتسم ابتسامة الرضا طوال الوقت.
أصبحت رائحة الموت تحيط بي من كل جانب، ولكن لأن عقلي يرفض الفراق، أكتم أنفاسي، وإن رأيت الموت شبحًا أغمض عيناي، " لا، لن تذهب أمي، لا أعرف للحياة معنى من دونها، كيف سأكون من غيرها؟" كنت أدعو الله أن يمن عليها بالشفاء ليل نهار، وبينما أنا جالسة ذات ليلة أناجيه، أحسست بيدها الدافئة على كتفي، همست في أذني قائلة:" إن أمره كله خير، سأشتاق لكِ كثيرًا يا حبيبتي، وأنا على العهد، ولكن سنلتقي في الجنة".
أذكر أن قلبي في تلك الآونة كان يقطر دمًا وليس دمعًا، قبّلت رأسها وأخبرتها أنها ستكون بخير قريبًا، قريبًا جدًا، وما هي إلا أيام قليلة واشتد المرض على أمي، كنت أشعر أن قلبي يود أن يغادر ضلوعي ويمسك بها، يرجوها لتبقى.
إلى أن أتى يوم اثنين، شمسه كانت دافئة كما لو أنه يوم ربيعي تستعد فيه السماء لاستقبال روح أمي ببهجة وسعادة غامرة، كانت بين أحضاني أنظر إلى عينيها كما كانت تنظر إليّ منذ نعومة أظافري، تقطر عيناي العبرات أيضًا، ولكن في هذه المرة لم تكن عبرات فرح قط، بل دمعات ألم، شوق، نار نالت من قلبي فأهلكته، أود أن أصرخ ولكن ما فائدة الصراخ؟
أغمضت أمي عيناها للمرة الأخيرة، وهي ممسكة بيدي كما كنت ممسكة بيدها منذ يومي الأول، كانت تخشى أن أتزوج وأغيب عن عينيها بضع ساعات كل يوم، لكنها رحلت عني دون عودة، حينها سمعت صوت قلبي وهو يتهشم ويتحول إلى فُتات أكبر قطعة به لا تتجاوز حجم عبرة من عبرات عيني، غادرتني أمي يوم اثنين ومنذ ذلك الحين وأنا أنتظر قدوم ثلاثاء، لكنه لم يـأتِ، ولكنني على العهد يا أمي.