- المشاهدات: 111
- الردود: 2
مكالمة فائتة .
________صحا ضمير وحيد من نومه الطويل مؤخرا فقرر السفر إلى المدينة لزيارة أمه المريضة هناك بصحبة أخته في إحدى المستشفيات ....
وصل إلى المدينة مساءً
فترجلَ من سيارته مسرعا بعد أن (ركنها) جوار المستشفى،ليتلقفه أحد الأطباء محاولا تعزيته بأسلوب يهون عليه
قليلا من حدة المصاب :
يا صديقي كلنا لله وكلنا إليه راجعون!
ليس في إمكاننا أن نفعل شيئا
فقد كان القدر أسرع من محاولاتنا
والآن البقية في حياتك. .
- هل ماتت؟
قالها وقد أخذت الدنيا تدور به
وهو يتذكر أمه التي أعطته إحدى كليتيها قبل أشهرٍ قليلة ثم أنها مرضت مرضا شديدا بعدها وليس هناك من يقوم بأمرها عدا ابنتها
الوحيدة' وحيدة التي طلقها زوجها
عندما عاد إلى بيته ولم يجدها ...
كان زوجها يشعر بغيرة عمياء عليها رغم أنها لم تنجب له طفلًا منذ سنوات طويلة غير أنه كان
راضيا بذلك لكن مرض الشك قد أخذ يكبر في مخيلته حتى أصبح حديث الناس في تلك القرية خاصة في وسط النساء اللائي
أخذن يعلكن أخبار وحيدة مع زوجها بنهم بالغ ...
ترنح وحيد في الدرج وهو يبكي بحرقة وندم فقد ترك أمه تعاني من ويلات المرض بسببه ولم يعرها اهتماما بعكس أخته التي ضحت بمستقبلها من أجل أمها..
في آخر مرة أفاقت فيها أمها سعيدة بنت عامر وهي على سريرها في المستشفى كانت تدعو لها دعوات حارة ودموع عينيها تتدحرج على وجنتيها :
وقفتِ بجانبي يا بنتي كل هذه المدة وطلقك زوجك بسببي !
أسأل الله أن يعوضك عوضا تدمع له عينك من الفرح ...
- أنا لم أفعل شيئا لك يا أمي ،أناأتمنى أن يأخذ الله من عمري إلى عمرك ...
- لقد فعلت الكثير يا بنتي في الوقت الذي أعرض عني أخوك وحيد وصدَّقَ زوجته ، التي طردتني من بيتها شر طردة...
دخلت في غيبوبة مجددا بينما هرعت الممرضة محاولةً إعادتها
إلى وعيها عبثا وهي تضغط على صدرها عدة مرات ،ثم خرجت مسرعةً لتخبرَ كبيرَ الأطباء بالأمر
حاول كبير الأطباء أن يعيدها إلى وعيها أيضا بواسطة جهاز ..CPR..
لكنه فشل فأخذ يتحسس نَفَسَها ودقاتِ قلبها ولكن دون جدوى التفت حينها إلى وحيدة،
فعرفت أن أمها قد فارقت الحياة.
حاولت وحيدة أن تحبس نوبةً
عارمةً من البكاء والنحيب لكنها
لم تستطع ،فانهارت على أرضية الغرفة ولم يستطع الدكتور مازن
كبير الأطباء- كما يحلو لهم في المستشفى أن يلقبوه-أن يخفف
عنها من ألمها ،وهو يقدم لها عبارات المواساة والثناء على ما صبرت وهي ترافق أمها في مرضها بينما تخلى عنها الآخرون
متعرضةً لعقوبة الطلاق...:
- أنا فقدت زوجتي قبل شهر من الآن مثلما فقدتِ أنت أمك وعسى اللهُ أن يعوضنا خيرا بعدهما فقط علينا بالصبر والاحتساب...
مسحت وحيدة دموعها وهي تنظر إلى الدكتور مازن في حين انفتح الباب ليدلف أخوها وحيد وهو يردد بصوت جهوري يتخلله نشيج وبكاء :
أمي ،أمي كيف تغادرين هكذا وابنك العاق لم يسمعك تقولين : سامحتك يا ولدي ؟!
لماذا لم تنتظري قليلا لكي تري كيف سأقبل رجليك حتى تعفي عني وتسامحيني ؟
أمي ي ي ي...؛
أخذ ينكب عليها ويقبلها بحرقة
وندم
فها قد فارقت الحياة بعد أن ظلت أسابيع هنا في المستشفى:
- اللعنة عليك يا زوجتي مها،اللعنة عليك لقد أحرمتيني من زيارة أمي بعد أن طردتُها من البيت بسببك وفضلتكِ عليها أقسم أنك لن تظلي في بيتي بعد الآن لحظة واحدة ....
-لا يا أخي ....
جذبه صوت أخته الباكي فأخذ يحنو عليها ودموعه تنهمر من عينيه وهو يلوم نفسه ويؤنبها :
أنا طردت أمي يا أختي، وأنت تحملتيها رغم زوجك المريض نفسيا....
أنا تركت أمي مريضة في المستشفى ونزلتُ عند رغبة زوجتي مها - لا سامحها الله- أنت أحسن مني يا وحيدة ،أنا لست إنسانا ،أنا حيوان ،أنا لست من البشر .
- لا تقل ذلك ياأخي أرجوك ،أنت الآن قد ندمت وعدت إلى رشدك ومن تاب يتوب الله عليه .
- ولكن بعد ماذا يا أختي؟
بعد ماذا ؟أمي التي تبرعت بإحدى كليتيها من أجلي ومرضت بسببي
أتركها وحدها في المستشفى وهي تعاني سكرات الموت !
اللعنة عليَّ ،اللعنة على زوجتي مها..
يا رباه ،آه يا أمي ،آه..
أمي أرجوك سامحيني ،أرجوك يا أمي ،أرجوك.......
شرع يتحسس جسد أمه وكأنه يريد إيقاظها من غفوةٍ ما ،
ولم يرعه إلا يد الدكتور مازن تجذبه برفق وهو يقول له مواسيا:
هون عليك يا صديقي فليس بمقدورك أن تفعل الآن شيئا سوى الدعاء لأمك بالرحمة والمغفرة، سنقوم الآن بتجهيز أمك وتغسيلها
هنا في المستشفى فلتكونا صابرين فالموت حق وحتمي، وعلينا أن نتقبل ذلك بصدر رحب.
بددت عبارات الدكتور مازن سحب الحزن السوداء قليلا وانقشع غبار
البكاء المتراطم بجدران الغرفة،ثم هرعت بعض الممرضات لأخذ الجثة لتغسيلها حسب أوامر الدكتور مازن ،
حينها دخل أحد مسؤولي
المستشفى قائلا :
بقي عليكم مبلغ وقدره مئتا ألف ريال ثمن المعاينات والرقود والعلاجات التي صُرفت من صيدلية المستشفى.
التفتَ إليه وحيدٌ مذهولا ،فلا يملك هذا المبلغ من المال لكي يعطيَه له بينما نزعت وحيدة( دبلتها )وأعطتها أخاها وحيدا قائلة :
اذهب يا أخي وبع هذه الدبلة لكي نسددَ الديون التي علينا للمستشفى.
أطرق وحيد إلى الأرض خجلا وهو يهم بالانطلاق خارج المستشفى ليبيع دبلة أخته لتسديد الديون لكن الدكتور مازن أوقفه قائلا :
لن تبيع دبلة وحيدة سأقوم أنا بتسديد ما عليكم من ديون ..
ـ أرجوك يا دكتور هذا كثير جدا
لقد فعلت معنا الكثير فدعني أبع الدبلة فلا حاجة لي فيها ..
كانت وحيدة تسترسل في ترجيها للدكتور مازن لكنه قاطعها ...
أقسم أنك لن تبيعيها أبدا .
تسمر مندوب المستشفى متعجبا وهو يتأمل الموقف بدهشة، ومالبث أن خرج بصحبة الدكتور مازن وهو يسأله :
هل هذه المرأة التي شاع خبر طلاقها في كل أروقة المستشفى وهي راضية أن تكون بجوار أمها في مرضها متحملة كل العواقب.؟
هز الدكتور مازن رأسه مؤكدا ثم قال: امرأة مثل هذه لا ينبغي أن يتحدث عنها الرجال والنساء أنها مطلقة ،هذه المرأة من نوع نادر وفريد وقلما نجد مثالا له في مجتمعاتنا ...
كان الحديث عن طلاق وحيدة
قد شاع في أوساط النساء والرجال على حد سواء هناك في القرية وكأنها الوحيدة فعلا التي طلقها زوجها ،
ولكن ما يزيد من احترامها هو تفانيها في خدمة أمها فقد أخذتها إلى بيت زوجها الذي كان يعاني مرض الغيرة والشك حتى أنه ضربها عدة مرات وهي صابرة عليه من أجل أمها التي كانت حالتها تسوء يوما بعد يوم إلى أن قررت مؤخرا اصطحابها إلى المستشفى.
تجهز وحيد وأخته وحيدة للعودة إلى القرية ليواريا جثمان أمهما الثرى ويستقبلا المعزين على مدار عشرة أيام كما جرت عادة أهل القرية ،فكان وحيد يستقبل أصدقاءه المعزين نهارا وليلا في بيت والده المرحوم شبه المهجور وكذلك فعلت أخته وحيدة التي ظلت تستقبل صديقاتها المعزيات .
وعندما أخذ الليل يدثر القرية
النائمة عند السفح الجبلي في نهاية اليوم الأخير من العزاء
انكفأت وحيدة على نفسها في حزن وقلق شديدين وهي تقلب أفكارها وهواجسها،وتفكر بمستقبلها المجهول بعد موت أبيها وأمها ،وطلاقها من زوجها ،لكن النوم غلبها بعد عناء يوم شاق وطويل..
فرأت أمها في حلم جميل
وهي باسمة المحيا تشير إلى هاتف وحيدة الخلوي ،فتنظر فيه فلا ترى شيئا فتسأل أمها :
ماذا هناك يا أمي؟
لم تحر أمها جوابا وإنما ظلت تشير إلى هاتفها وكأنها تذكرها بشيءٍما ،
ووحيدة تنظر فيه مرارا ،إلى أن استيقظت من حلمها فهرعت إلى جوالها ولكن لم ترَ شيئا .
عاودت وحيدة نومها فأتاها نفس الحلم فما كان منها إلا أن قالت لأمها:
لم أر أي شيء في جوالي يا أمي!
ابتسمتْ أمها ثم غادرت فجأة لتترك ابنتها وحيدة تعيش بقية حلمها الجميل ،وفي الصباح تناولت طعام الغداء مع أخيها وحيد وقصت عليه حلمها وكيف أن أمها كانت تشير إلى هاتفها وكأنها تنبهها إلى مكالمة فائتة ....
قاطعها وحيد : المكالمة الفائتة ليست في جوالك يا أختي وإنما هي في جوالي أنا فقد اتصل بي الدكتور مازن عدة مرات بينما كان جهازي صامتا ،ولا أدري ماذا يريد
لكنني سأذهب لأشحنه بالرصيد وأتصل بالدكتور مازن...
قالت وحيدة :الدكتور مازن ساعدنا كثيرا في المستشفى ومن الضروري أن تتواصل معه ...
لم تكد وحيدة تكمل كلامها حتى رن تلفون وحيد مجددا فأخذه ليرى من المتصل فرأى اسم الدكتور مازن يعاود الاتصال ثانية :
ألو... دكتور مازن العفو منك صديقي
لقد تلقيت مكالمتك بينما كان تلفوني صامتا وقد خلص ما لدي من رصيد...
- لا عليك يا صديقي دعك من هذا فأنا أريدك في أمر مهم ...
- أمر مهم ؟ خير حضرة الدكتور أنت تأمر ..
- لا يأمر الله عليك بشر صديقي
والله فكرت كثيرا بأمر الزواج بعد موت زوجتي رحمها الله فقلت في نفسي أحدثك بهذا الشأن فأنا في الحقيقة أرغب أن أطلب يد أختك وحيدة فلم أجد امرأة مناسبة لهذه المهمة مثلها.
- وحيدة ؟! صمت وحيد برهة ثم قال: سوف أرى ماذا ستقول، ثم أبلغك بذلك، نعم يا صديقي سأكون في انتظارك مساءهذا اليوم لتبشرني بذلك .
أنهى وحيد المكالمة الصوتية ثم التفت إلى أخته،التي كانت قد غادرت منذ وقت قصير فهناك جلبة وسماع أصوات متداخلة في القرية ،يقال أن طقما عسكريا يقوده ضابط من إدارة الأمن بصحبة عدد من الجنود
قد أتوا بأمر قبض قهري على واحد من أفراد القرية ...
توقف الطقم فجأة ثم خرج الضابط ليسأل الأهالي:
المتهم وحيد علي عبد المعطي محمد،
هل هو هنا؟!!
المدعو متهم بمحاولة قتل زوجته البارحة ..
ارتبكت وحيدة ،ثم أخذت تلفونها لتتصل بأخيها كي يتوارى عن أنظار الشرطة ،فرأت مكالمة فائتة من أخيها وحيد ،
ثم قرأت رسالة :
أنا في الطريق إلى المدينة يا أختي ،وسارسل في المساء من يأخذك من القرية لتكوني عروسةً للدكتور مازن ،ليس أمامنا كثيرٌ من الوقت .
علي أحمد حسن الحسامي.