- المشاهدات: 637
- الردود: 11
لقد كلّفني الأمر تسعة وعشرون عاماً إلى أن فهمت!
بدأ الأمر عندما كنت أعاني من ألم المخاض، وفي كل صرخةٍ تجاوزت بها جدران المستشفى، كان شريط العمر يجري أمامي مهرولاً، ويرجم الروح ويجلد الذات، تاركاً بهذا عبق الذكريات، تَقسم ظهري بألمٍ فوق الألم زاد.
إنه شعور لا يوصف، بل إنه أكبر من أي وصف، لذا كان هذا الشعور هو اللحظة الفارقة التي أعادتني لتلك الأيام، لما كان يقاسيه والديّ، وأدركت حينها ما المعنى الذي كان يختبئ خلف كلمات أمي: عندما تنجبين، ستعرفين حينها معنى المعاناة حق المعرفة!!
أنني أعرفها الآن حقاً يا أمي....
وها هو شريط العمر، ينشر لحظاته تلك على حبال قلبي، حاملاً ذكرياتٍ تحمل في ثغراتها شعور الحزن والفرح في آنٍ معاً.
عدت إلى عمر الورود، طفلة يافعة تداعب والدتها خصائل شعرها، وتصنع لها الضفائر الجميلةء وفي حديثٍ مباغت خرج من ثغري، قلت: أمي، هل لك أن تبقين على حالك هذا؟، تعجبت أمي لسؤالي، فأردفت قائلة: ما الذي تقصدينه ياصغيرتي؟، أجبت بفغر فاهي: أمي، ألم تفهمي ما أرمي إليه؟ أرغب بك أن تبقين على وضعك لأناملك بين خصائل شعري، وعلى خدّي وجبهتي، أرغب أن أشمّ رائحة الخبز من بين يديك طوال العمر، وذلك لأنني لا أتخيل يوماً يمر في حياتي دون أن أشعر بلمساتك الدافئة تلك وصوتك العذب والذي أراه دون مبالغة، أجمل من سيمفونية بيتهوفن!
قهقهت أمي ضاحكة، وانبثق شعاع الحنية من عينيها، فأيقظ في قلبي حبها الذي لا يشيخ ولا ينضب، وهو يُقسم على ألا يفارقني مهما حييت.
كنت أعود من المدرسة والبرد القارس يجعل أسناني تصطك فيما بينها، وكفّي المنتفخان المثلجان يجعلاني أرغب في أن أقطعهما من شدة الألم، فتركض أمي بوسع يديها وتضعني بين أحضانها، فأشمّ تلك الرائحة التي لطالما أثارت في قلبي شعوراً لا يوجد وصف أو تعبير ينصفه، إنها رائحة الدفء، لا بل رائحة الجنة!
وبعد هذا العناق، كانت تضعني أمام المدفأة وتغير لي ملابسي، ومن ثم تحضر لي القليل من الحساء لكي يدفئ تجاويف روحي، لكنها لم تعلم قط أن حضنها ذام هو من كان يدفئني.
وأما عن حبيب روحي، والدي، عزوتي ومتكأي، فقد كان له نصيباً من الحب، ما يحتاج ألف قلب لكي يتسع له، كنت أركض إلى الحي وأجالس عتبة الدار، منتظرةً محياه لأن يطل، وها هو ذا، يتصبب عرقاً ويمسح جبهته محاولاً أن يتنفس ما بقي له من الأمل، فأطير بقدمي لأحتضنه بقوةٍ، فأشعر كأنما ضلوعي تتكسر من قسوة ضلوعه، رغم أنني أنا من شددت عليه!!
وبعد مضي أعواماً أكلت من أعمارهم الكثير، وزادت من عمري أكثر، وجداني أعاود تلك الكرة في انتظارع على عتبة الدار إلى أن يعود من عمله، ولكن عودي الآن صلبٌ أكثر، فبتُّ عند احتضانه، أشعر كأنما أنا من سيكسر ضلوعه هذه المرة، وهذا كان أكبر مخاوفي!!
في كل مرة كنت أسأله: هل أنت متعب؟ يجيب بصوته العميق ذاك، محاولاً أن يتنكر بالجبروت لكي لا ينثر الحزن في قلبي، فيقول كلاماً ناجعاً: لا ياعزيزتي، إنها أياماً ثقال أنا أعلم هذا، لكنها ولله لا تهزُّ مني شعرة، بل إنني في كل مرة أراكم بها سالمين، أشعر بأن تعب العالم بأجمعه قد أُزيح عن كاهلي.
استيقظت من تلك الغفلة ومن وقع شريط الذكريات لثوانٍ معدودة، عندما عاد ألم المخاض بشكلٍ أقوى للدرجة التي شعرت بها بأنه يقتصّ مني روحي، فياليتني بقيت حقاً آنذاك أنا من أتهشم، في تلك اللحظة أتت امرأةٌ لتزور ابنتها التي أنجبت حديثاً، وفي يديها كانت تحميل العصائر التي صنعتها بنفسها، وفطيرة سبق لها أن خبزتها بيديها، وما جعلني متيقنة أنها هي من قامت بخبزها، هو رائحة (الأم) التي فاحت بعبيرها في أرجاء الغرفة، رائحة الجنة التي اعتادت عليها أنوفنا، والتي سبق لي أن أخبرتكم عنها، حينها سَكنت نفسي قليلاً وهدأت روحي، وعاد شريط الذكريات يبعثر أوراقه أمامي مشيراً إلى أن تلك الذكريات لن تنمحي.
أجالس دفاتري وأذرف الدموع صبّابةً، وأبحث عن أمي التي لطالما ساعدتني في كتابة وظائفي، أبحث عن أناملها لتداعب وجنتي، لقد قالوا لي أنها ذهبت في نزهة وستعود سريعاً، لكنني أراها تفقد خصائل شعرها الذهبية تلك، تفقد وردية وجنتيها تلك، وأفقد أنا من روحي كل شيء!
أعلم أنهم كاذبون، لأن أمي هي الشمس التي تشرق من يميم قلبي، وشحوبها ذاك أشبه بمغيب الشمس عن يسار قلبي، وهذا يقيّد الأوكسجين عن جسدي، فأختنق ألف مرة وأنازع من وحدتي.
وأما عن والدي، فقد كان ينطفئ بشكلٍ تدريجي في كل مرة تصرخ أمي فيها من شدة الألمِ، فأراني أقف خلف الباب الموارب أعضُّ على أصابعي محاولةً فهم كل ما يجري حولي، وحينها كان أبي يأتي ملاطفاً ومحاولاً تهدئتي، مدّعياً أن أمي مصابةٌ بزكامٍ شديد يجعلها لا تطيقه، فأعود إلى غرفتي خائبة وغير مصدقة لكل هذا الكذبِ.
وها هو صوت صغيرتي يصدح، مبشراً بحياةٍ جديدة، حضنتها بكل قوتي خوفاً عليها من أن ترحل، وانتظرت أن يبهج صوتها مسمعي، رغم أنها صغيرة وثغرها الوردي أصغر من أن يحدثني ويهدئ من روعي، إلا أنني شعرت بالأمان ما إن ولدتها وفي حضنها وجدت ضالتي.
أخبرتها بأنني سأخذها لزيارة شمسي وقمري، أمي وأبي، أحباب روحي وسندي، لأنها كانت سبباً في أن توقظ روحي عند كل ألمِ، وتبين لي كَم المعاناة التي كانا يشعران بها في تربيتي، وبعد أن أخذت قسطاً من الراحة، وضعتها في حُجري وتوجهت سريعاً لأُفرح قلب والدي ووالدتي..... وها أنا قد وصلت!!
سمعت صوتهما يناديني، حاولت أن أبعد بيدي تلك الحجارة والحصى المبعثرة على التراب الأحمرِ، ظناً مني أن هذا يساعدهما على سماعي، فهيا ياصغيرتي، قولي مرحباً لجدك وجدتك، هل تعجبتِ لأنك لم تجدي لهما أي أثرِ؟
أعلم أنك لم تنالي شرف لقائهما وتحسس وجهيهما ولكنني أعدك بأنني سأبقى على ذكرهما محدثةً إياك عنهما بلغتي.
أمي يافؤادي ومهجة قلبي، رحمك الله وجعل قبرك روضة من رياض الجنة، أعلم أن ذاك المرض الأحمق قد نال منك ومن وَهنك، وأدرك أن مغيبك أحدث في قلب أبي عواصفاً لم يكن له حيلة لأن يوقف اجتثاثها لخضرة روحه، فعزم الأمر على أن يرحل معك حبيبي وعزوتي، فإليكم ولله أشكو، بأني لا أطيق فراقكما وإني ولله أهوي، ولا حيلة لي سوى الدعاء لكما بأن يغفر الله ذنوبكم ويرحمكم بوسع رحمتهِ.
آهٍ لكسرتي، وويلاه على حالي وعلى ابنتي، لَكم تمنيت لو أنكما الآن بجانبي، بصوت ضحكاتكما تضعان البلسم على جراحي وألمي، فهل من أحدٍ يقوى على مثل هذه الشدةِ؟
ولأزيدكم من الشعر بيت، قد اسميت ابنتي حنان ك اسم والدتي، أي كحنان قلبك يا أمي ووسع صدر والدي ومهجة قلبي.
( واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة، وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا)
بدأ الأمر عندما كنت أعاني من ألم المخاض، وفي كل صرخةٍ تجاوزت بها جدران المستشفى، كان شريط العمر يجري أمامي مهرولاً، ويرجم الروح ويجلد الذات، تاركاً بهذا عبق الذكريات، تَقسم ظهري بألمٍ فوق الألم زاد.
إنه شعور لا يوصف، بل إنه أكبر من أي وصف، لذا كان هذا الشعور هو اللحظة الفارقة التي أعادتني لتلك الأيام، لما كان يقاسيه والديّ، وأدركت حينها ما المعنى الذي كان يختبئ خلف كلمات أمي: عندما تنجبين، ستعرفين حينها معنى المعاناة حق المعرفة!!
أنني أعرفها الآن حقاً يا أمي....
وها هو شريط العمر، ينشر لحظاته تلك على حبال قلبي، حاملاً ذكرياتٍ تحمل في ثغراتها شعور الحزن والفرح في آنٍ معاً.
عدت إلى عمر الورود، طفلة يافعة تداعب والدتها خصائل شعرها، وتصنع لها الضفائر الجميلةء وفي حديثٍ مباغت خرج من ثغري، قلت: أمي، هل لك أن تبقين على حالك هذا؟، تعجبت أمي لسؤالي، فأردفت قائلة: ما الذي تقصدينه ياصغيرتي؟، أجبت بفغر فاهي: أمي، ألم تفهمي ما أرمي إليه؟ أرغب بك أن تبقين على وضعك لأناملك بين خصائل شعري، وعلى خدّي وجبهتي، أرغب أن أشمّ رائحة الخبز من بين يديك طوال العمر، وذلك لأنني لا أتخيل يوماً يمر في حياتي دون أن أشعر بلمساتك الدافئة تلك وصوتك العذب والذي أراه دون مبالغة، أجمل من سيمفونية بيتهوفن!
قهقهت أمي ضاحكة، وانبثق شعاع الحنية من عينيها، فأيقظ في قلبي حبها الذي لا يشيخ ولا ينضب، وهو يُقسم على ألا يفارقني مهما حييت.
كنت أعود من المدرسة والبرد القارس يجعل أسناني تصطك فيما بينها، وكفّي المنتفخان المثلجان يجعلاني أرغب في أن أقطعهما من شدة الألم، فتركض أمي بوسع يديها وتضعني بين أحضانها، فأشمّ تلك الرائحة التي لطالما أثارت في قلبي شعوراً لا يوجد وصف أو تعبير ينصفه، إنها رائحة الدفء، لا بل رائحة الجنة!
وبعد هذا العناق، كانت تضعني أمام المدفأة وتغير لي ملابسي، ومن ثم تحضر لي القليل من الحساء لكي يدفئ تجاويف روحي، لكنها لم تعلم قط أن حضنها ذام هو من كان يدفئني.
وأما عن حبيب روحي، والدي، عزوتي ومتكأي، فقد كان له نصيباً من الحب، ما يحتاج ألف قلب لكي يتسع له، كنت أركض إلى الحي وأجالس عتبة الدار، منتظرةً محياه لأن يطل، وها هو ذا، يتصبب عرقاً ويمسح جبهته محاولاً أن يتنفس ما بقي له من الأمل، فأطير بقدمي لأحتضنه بقوةٍ، فأشعر كأنما ضلوعي تتكسر من قسوة ضلوعه، رغم أنني أنا من شددت عليه!!
وبعد مضي أعواماً أكلت من أعمارهم الكثير، وزادت من عمري أكثر، وجداني أعاود تلك الكرة في انتظارع على عتبة الدار إلى أن يعود من عمله، ولكن عودي الآن صلبٌ أكثر، فبتُّ عند احتضانه، أشعر كأنما أنا من سيكسر ضلوعه هذه المرة، وهذا كان أكبر مخاوفي!!
في كل مرة كنت أسأله: هل أنت متعب؟ يجيب بصوته العميق ذاك، محاولاً أن يتنكر بالجبروت لكي لا ينثر الحزن في قلبي، فيقول كلاماً ناجعاً: لا ياعزيزتي، إنها أياماً ثقال أنا أعلم هذا، لكنها ولله لا تهزُّ مني شعرة، بل إنني في كل مرة أراكم بها سالمين، أشعر بأن تعب العالم بأجمعه قد أُزيح عن كاهلي.
استيقظت من تلك الغفلة ومن وقع شريط الذكريات لثوانٍ معدودة، عندما عاد ألم المخاض بشكلٍ أقوى للدرجة التي شعرت بها بأنه يقتصّ مني روحي، فياليتني بقيت حقاً آنذاك أنا من أتهشم، في تلك اللحظة أتت امرأةٌ لتزور ابنتها التي أنجبت حديثاً، وفي يديها كانت تحميل العصائر التي صنعتها بنفسها، وفطيرة سبق لها أن خبزتها بيديها، وما جعلني متيقنة أنها هي من قامت بخبزها، هو رائحة (الأم) التي فاحت بعبيرها في أرجاء الغرفة، رائحة الجنة التي اعتادت عليها أنوفنا، والتي سبق لي أن أخبرتكم عنها، حينها سَكنت نفسي قليلاً وهدأت روحي، وعاد شريط الذكريات يبعثر أوراقه أمامي مشيراً إلى أن تلك الذكريات لن تنمحي.
أجالس دفاتري وأذرف الدموع صبّابةً، وأبحث عن أمي التي لطالما ساعدتني في كتابة وظائفي، أبحث عن أناملها لتداعب وجنتي، لقد قالوا لي أنها ذهبت في نزهة وستعود سريعاً، لكنني أراها تفقد خصائل شعرها الذهبية تلك، تفقد وردية وجنتيها تلك، وأفقد أنا من روحي كل شيء!
أعلم أنهم كاذبون، لأن أمي هي الشمس التي تشرق من يميم قلبي، وشحوبها ذاك أشبه بمغيب الشمس عن يسار قلبي، وهذا يقيّد الأوكسجين عن جسدي، فأختنق ألف مرة وأنازع من وحدتي.
وأما عن والدي، فقد كان ينطفئ بشكلٍ تدريجي في كل مرة تصرخ أمي فيها من شدة الألمِ، فأراني أقف خلف الباب الموارب أعضُّ على أصابعي محاولةً فهم كل ما يجري حولي، وحينها كان أبي يأتي ملاطفاً ومحاولاً تهدئتي، مدّعياً أن أمي مصابةٌ بزكامٍ شديد يجعلها لا تطيقه، فأعود إلى غرفتي خائبة وغير مصدقة لكل هذا الكذبِ.
وها هو صوت صغيرتي يصدح، مبشراً بحياةٍ جديدة، حضنتها بكل قوتي خوفاً عليها من أن ترحل، وانتظرت أن يبهج صوتها مسمعي، رغم أنها صغيرة وثغرها الوردي أصغر من أن يحدثني ويهدئ من روعي، إلا أنني شعرت بالأمان ما إن ولدتها وفي حضنها وجدت ضالتي.
أخبرتها بأنني سأخذها لزيارة شمسي وقمري، أمي وأبي، أحباب روحي وسندي، لأنها كانت سبباً في أن توقظ روحي عند كل ألمِ، وتبين لي كَم المعاناة التي كانا يشعران بها في تربيتي، وبعد أن أخذت قسطاً من الراحة، وضعتها في حُجري وتوجهت سريعاً لأُفرح قلب والدي ووالدتي..... وها أنا قد وصلت!!
سمعت صوتهما يناديني، حاولت أن أبعد بيدي تلك الحجارة والحصى المبعثرة على التراب الأحمرِ، ظناً مني أن هذا يساعدهما على سماعي، فهيا ياصغيرتي، قولي مرحباً لجدك وجدتك، هل تعجبتِ لأنك لم تجدي لهما أي أثرِ؟
أعلم أنك لم تنالي شرف لقائهما وتحسس وجهيهما ولكنني أعدك بأنني سأبقى على ذكرهما محدثةً إياك عنهما بلغتي.
أمي يافؤادي ومهجة قلبي، رحمك الله وجعل قبرك روضة من رياض الجنة، أعلم أن ذاك المرض الأحمق قد نال منك ومن وَهنك، وأدرك أن مغيبك أحدث في قلب أبي عواصفاً لم يكن له حيلة لأن يوقف اجتثاثها لخضرة روحه، فعزم الأمر على أن يرحل معك حبيبي وعزوتي، فإليكم ولله أشكو، بأني لا أطيق فراقكما وإني ولله أهوي، ولا حيلة لي سوى الدعاء لكما بأن يغفر الله ذنوبكم ويرحمكم بوسع رحمتهِ.
آهٍ لكسرتي، وويلاه على حالي وعلى ابنتي، لَكم تمنيت لو أنكما الآن بجانبي، بصوت ضحكاتكما تضعان البلسم على جراحي وألمي، فهل من أحدٍ يقوى على مثل هذه الشدةِ؟
ولأزيدكم من الشعر بيت، قد اسميت ابنتي حنان ك اسم والدتي، أي كحنان قلبك يا أمي ووسع صدر والدي ومهجة قلبي.
( واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة، وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا)