- المشاهدات: 142
- الردود: 4
للاستماع للنسخة الصوتية
العصور الوسطى، تلك الحلقة المظلمة في تاريخ أوروبا، أين انتشر الدجل والسحر وفتكت الأمراض بأجساد البشر فتكا، وحرقت النساء على الأوتاد باتهامات باطلة. لقد عانى السكان في تلك الفترة من مزيج مميت من الجهل والفقر وقلة الحيلة بسبب الحكم الكنسي الصارم لكنهم رغم ذلك استطاعوا بناء مجتمعات وتكوين أسر تعاقبت لتنقل لنا تجربة الفرد الأوربي في تلك الفترة، فكيف كانت الحياة اليومية في تلك الفترة وكيف أثر الفرد وتأثر بالمجتمع حوله؟
الحياة اليومية:
كانت المدن موضة حديثة لم تلقى الرواج بعد، واستقر السكان في قرى صغيرة ومتباعدة اشتغل الرجال فيها كفلاحين وتكفلت النساء فيها بأمور البيت من غسل وتنظيف واعتناء بالأطفال. وكان السكان يعيشون في الحضائر والمزارع وبعض المنازل البسيطة وارتبطت حياتهم بشكل كبير بالسنة الزراعية فكانوا يقضون أغلب وقتهم في الحقول محاولين إنتاج محصول يكفي لمجابهة الشتاء القاسي.
كان الفلاحون الذين يعيشون في قصر بجوار القلعة يُخصص لهم قطع من الأرض لزراعتها وحصادها. وكانوا يزرعون عادةً الجاودار والشوفان والبازلاء والشعير، ويحصدون المحاصيل بالمنجل أو آلة الحصاد. وكانت لكل أسرة فلاحية قطعها الخاصة من الأرض؛ ومع ذلك، كان الفلاحون يعملون بشكل تعاوني في مهام مثل الحرث وحصاد التبن. وكان من المتوقع منهم أيضًا بناء الطرق وإزالة الحشائش والعمل في مهام أخرى يحددها اللورد.
كانت منازل الفلاحين في العصور الوسطى رديئة الجودة مقارنة بالمنازل الحديثة. إذ كانت الأرضية عادة من الطين، والتهوية قليلة جدًا وتنحصر مصادر الضوء فيها في نوافذ صغيرة. وقد اعتاد الفلاحون على تربية الكلاب للحراسة وفي أحيان أخرى القطط كحيوانات أليفة دون ذكر بعض حيوانات المزارع من الخراف والعجول ونحوها. وتحسنت ظروف العيش بشكل عام نحو نهاية العصور الوسطى فأصبحت منازل الفلاحين أكبر حجمًا، وأصبح من الشائع وجود غرفتين، وحتى طابق ثانٍ.
منزل فلاحين في العصور الوسطى
ضيق منازل الفلاحين لا يعني بالضرورة أن الطبقة الغنية كانت أحسن حالا، فالتدفئة كانت دائمًا مشكلة لأنها لم تتماشى مع الأرضيات والأسقف والجدران الحجرية. لم يكن هناك الكثير من الضوء يدخل من النوافذ الصغيرة، وكانت الشموع التي تعتمد على الزيت والدهون غالبًا ما تنتج رائحة نفاذة. كان الأثاث غالبا من الخشب مثل الطاولات والخزانات، وكانت المقاعد تغلف بالكتان عن طريق تثبيته بالمسامير لتوفير بعض الراحة. وكانت الأسرة، على الرغم من أنها مصنوعة من أنعم المواد، مليئة غالبًا ببق الفراش والقمل والحشرات العاضة الأخرى.
أكل الفلاحون العصيدة الدافئة المصنوعة من القمح والشوفان والشعير. كما كان المرق واليخنات والخضروات والخبز جزءًا من النظام الغذائي. ونادرًا ما كان الفلاحون يأكلون اللحوم، ويرتبط أكل اللحم عندهم بفصل الشتاء. وكانوا يشربون الخمر والجعة، ولا يشربون الماء إلا في حالات قليلة. وعموما كان النظام الغذائي ضعيفا جدا.
الأمراض والأوبئة:
ولأن النظام الغذائي في تلك الفترة كان سيئا فقد كان الشعور بصحة مثالية في فترة العصور الوسطى أمرا مستبعدا جدا فالافتقار للحوم والخضار والفواكه الطازجة أدى لظهور اضطرابات مختلفة مثل الإرهاق وضعف العضلات والطفح الجلدي ونزيف اللثة وضعف النظر إضافة لمشاكل أخرى أكثر حدة مثل الاسهال والخرف. لكن الأمراض المرتبطة بسوء التغذية كانت أقل مشاكل السكان في تلك الفترة في ظل انتشار المثلث الأسود: الفقر الحاد، المجاعة، الطاعون.
مطلع القرن الرابع عشر شهدت قارة أوروبا انخفاضا حادا في درجة الحرارة وتساقطا غزيرا للأمطار ما أدى لفساد المحاصيل وخلل في نظام الزراعة عموما لتدخل أوروبا في مرحلة المجاعة الكبرى بين عامي 1315 حتى 1322. في كتابة "المجاعة الكبرى" يتحدث الكاتب ويليام جوردان عن سوء الأحوال الجوية في تلك الفترة وكيف أن الأمطار ظلت تتساقط في فترة من الفترات لمدة 150 يوما دون توقف. وجرفت المجاعة إضافة للأمطار التي أحدثت أضرارا بنظام الصرف الصحي الذي كان بدائيا أساسا وغير صحي معها أمراضا مختلفة مثل الجدري والحمى الصفراء والملاريا إضافة للمرض الأكثر فتكا وخطورة، الطاعون.
يذكر كارلو كيبولا أته منذ ظهور الطاعون لم تبقى أي مدينة في أوربا آمنة من المرض وإن لم يصبها الطاعون فإنها تعاني من وباء مميت آخر. وأدى الجهل بهذه الأمراض وكيفية انتقالها إلى ظهور طرق بدائية لمكافحتها كحرق الجثث وحرق القرى والمناطق السكنية في محاولة لتطهيرها. وقصة الطاعون في أوروبا تعد واحدة من أشهر وأبشع قصص انتشار الأوبئة في التاريخ.
الموت الأسود في أوروبا
الحوادث:
وإذا كان سوء التغذية، وسوء الصرف الصحي، والمجاعة، والأوبئة قد ساهمت في ارتفاع معدلات الوفيات المبكرة بشكل مروع، فإن الحوادث ساهمت أيضاً. فقد كانت أماكن استقرار أغلب السكان شديدة الخطورة، وكانت الحوادث شائعة. وكان من المتوقع أن يساهم الأطفال في الاقتصاد المنزلي من خلال صيد الأسماك وسحب المياه، وقد غرق بعض الأطفال أثناء أداء هذه المهام. وكان الأطفال الصغار غالباً ما يُتركون دون رعاية لفترات طويلة خلال النهار بينما يعمل آباؤهم، وكما توضح كارول راوكليف:
"كان التقابل في محيط مظلم وضيق من المواقد المفتوحة، وأسرّة القش، والأرضيات المغطاة بالبردي، وألسنة اللهب العارية يشكل تهديداً مستمراً للأطفال الفضوليين".
وحتى أثناء اللعب، كان الأطفال في خطر بسبب البرك، والأدوات الزراعية أو الصناعية، وأكوام الأخشاب، والقوارب غير الخاضعة للرقابة، والعربات المحملة، وكلها تظهر بشكل متكرر في تقارير الأطباء الشرعيين كأسباب للوفاة بين الأطفال. وبجانب الخطر الواضح على الصحة الذي يفرضه القرب الشديد للحيوانات الأليفة والتي كانت ناقلة للأمراض، فإن الجرائم كانت خطرا حقيقيا خاصة ضد الأطفال الذين تعرضوا للتشويه والقتل.
ولقد كان سكان المستوطنات الريفية يواجهون مخاطر أخرى. ففي كتابه "في نهاية اليوم"، يصف روجر إكيرش البيئة التي عاش فيها معظم الناس:
"ظلت أجزاء كبيرة من المناظر الطبيعية خطيرة... فالسفوح شديدة الانحدار، والجداول المضطربة، والشجيرات الكثيفة كانت تشق طريقها عبر المراعي والحقول والقرى. وحتى عندما تم تطهير الأراضي في أوروبا لغرض الزراعة، كانت جذوع الأشجار والخنادق تترك نتوءا على التضاريس المليئة بالصخور. كما تركت ألواح الخث السميكة، التي تم قطعها للوقود، خنادق عميقة. وفي أجزاء من إنجلترا وويلز واسكتلندا حيث توجد مناجم الفحم النشطة أو المهجورة، كانت المحاجر ومناجم الفحم تحفر الأرض. وكان الجمع بين العمى الليلي المتفشي بسبب نقص الغذاء وغياب الضوء الاصطناعي يعني أن الليل يزيد من المخاطر التي تفرضها هذه العوائق. كان أولئك التعساء أو الحمقى الذين غامروا بالخروج بعد حلول الظلام في خطر دائم من الوقوع في خندق أو بركة أو نهر مفتوح".
وكانت المخاطر التي صنعها الإنسان تشمل الآبار والخنادق والقنوات، وأحواض الصرف الصحي. كانت جذوع الأشجار ملقاة في أماكن خطرة، وانتشرت الحفر غير المعلمة وبسبب الظلام، كان من السهل على المرء أن يضل طريقه.
تظهر باربرا هاناوالت، التي حللت بشكل إبداعي سجلات التحقيقات الرسمية للوفيات غير المتوقعة في هذه الفترة، انتشار الوفيات العرضية، وخاصة الغرق بالنسبة لرواد الحانات المحلية بسبب السكر ما جعل رحلات العودة إلى المنزل خطرة جدا.
الطب:
كانت مؤسسة الطب عاجزة تماماً عن التعامل مع الخسائر الفادحة التي فرضتها ظروف الحياة في العصور الوسطى على الصحة. وكان ممارسو الطب يتألفون من مجموعة من الحلاقين، وخبراء الأعشاب، والمعالجين الشعبيين، والمنجمين، وأطباء الأسنان، والسحرة، والدجالين. وكان أي فهم لكيفية إصابة الناس بالمرض أو شفائهم منه يعتمد على المفهوم اليوناني الكلاسيكي للأخلاط الأربعة الذي شرحته كارول راوكليف بإيجاز:
"كما كان الكون يتألف من أربعة عناصر أساسية هي النار والماء والأرض والهواء، فإن الجسم يعتمد أيضاً في وجوده على أربعة أخلاط بشرية مقابلة تنشأ من خلال عملية الهضم من الطعام: الكوليرا أو الحمى الصفراء؛ والبلغم أو المخاط؛ وتلوث الدم".
وتتطلب الصحة الجيدة في نظر ممارسي الطب في تلك الفترة الحفاظ على توازن دقيق بين هذه العناصر وضمان عدم نمو أي منها بقوة مفرطة أو ضعفها بشكل مفرط. وكان العلاج يتلخص في فحص المريض، وخاصة فحص البول في محاولة لتشخيص خلل في التوازن بين الأخلاط الأربعة ويمكن تصحيح هذا الخلل عن طريق التطهير، وإراقة الدماء، والأنظمة الغذائية الخاصة إضافة لطرق غريبة أخرى.
كانت هذه التصحيحات تنطوي على إجراءات غير سارة ومؤلمة، بل ومميتة في بعض الأحيان. فكان يتم نزف الدم من المرضى؛ ووضع أوعية زجاجية ساخنة على مناطق من الجلد تركت عليها ندوب بسكين غير معقم كنوع من أنواع الحجامة؛ وكان العلق يوضع بطريقة عشوائية على الجروح المفتوحة لاستخراج السموم؛ وانتشر كيّ المرضى باستخدام الأدوية الكاوية أو الأدوات الساخنة؛ وإعطاء الأعشاب ذات الرائحة الكريهة، والمبخرات، والخلطات ذات المذاق القبيح عن طريق الفم أو على الجلد. وكان يتم جلد أولئك الذين تم تشخيصهم بمس شيطاني، أو ضربهم وتجويعهم، أو حتى تعذيبهم بالماء. وكأن الألم الناجم عن مثل هذه العلاجات لم يكن سيئاً بما فيه الكفاية، كان الطبيب أو الجراح يتخذ أحياناً خطوات إضافية إذ اعتقد العديد من الجراحين أن التنظيف المبكر، أو التجفيف، أو إغلاق الجرح من شأنه أن يدفع المادة الفاسدة إلى الداخل ما يؤدي لتسمم المريض بسبب تلوث دمه.
ختاما:
يمكن القول أن الفرد الأوروبي في تلك الفترة عاش أسلوب حياة معقد طغت عليه السلبية في مختلف المجالات ولربما كان الفرد في حد ذاته جزءا من تلك السلبية في الكثير من الأحيان، لكنه تكيف مع ظروفه بما استطاع في ظل الحكم القاسي والمحدودية التي فرضها على المجتمع.
المصادر:
يجب تسجيل الدخول لمشاهدة الروابط
life in the middle ages, university of california press.