- المشاهدات: 196
- الردود: 2
ما هي الصورة التي تأتي لرأسك عندما نقول كلمة "مصاص دماء"؟ ربما تتخيله في صورته الكلاسيكية كوحش منعزل يعيش حياته بسلام في أحد القلاع المهجورة، أو ربما تتبادر إلى ذهنك صورة مصاص الدماء العنيف الذي يقتل دون رحمة، يستأنس بالليل كغطاء لشغفه اللامتناهي للدم، ولا يوقفه شيء سوى رصاصة فضية تخترق جسده أو وتد يخترق قلبه. لكن هل يوجد تسجيل حقيقي لهذه المخلوقات أم أنها مجرد أساطير شعبية نسجت في ذاكرتنا كبشر حتى أصبحنا نؤمن بها؟. هذه القصة ربما تغير فكرتنا عن مصاصي الدماء من أسطورة لواقع حي.
في النصف الأول من القرن الثامن عشر وخلال سيطرة المملكة النمساوية على بلغراد ومعظم صربيا وصلت للمسؤولين النمساويين تقارير عديدة عن وفيات غريبة في القرى الصربية التي كانت تحت الحكم النمساوي، قرى قيل أن سكانها يتم اصطيادهم واحدا تلو الآخر من قبل مخلوق غير بشري. الأطباء في النمسا ورجال العلم تهكموا على هذه المزاعم مفترضين أنها مجرد ترهات من قرويين غير مثقفين، لكنهم أدركوا بعد وصولهم للقرى محل الشكوى وبالتحديد قرية مدفيجيا رفقة الجيش النمساوي أن مزاعم القرويين كانت صحيحة وأن عددا من السكان ماتوا فعلا بطريقة لا يمكن تفسيرها!
بداية الأسطورة:
خلال الأعوام الأولى للقرن الثامن عشر وجدت المملكة النمساوية نفسها تخوص حربا ضروسا ضد الدولة العثمانية للتوسع في الأراضي البلقانية فيما سيعرف لاحقا بالحرب العثمانية- النمساوية. هذه الحرب القصيرة لكن العنيفة انتهت بتراجع الدولة العثمانية و سيطرة النمسا على جزء معتبر من المناطق البلقانية على غرار شمال البوسنة و صربيا و مناطق أخرى سقطت تحت حكم النسر النمساوي الذي بدأ باستكشاف المناطق الجديدة لتشييد مخيمات عسكرية في الغالب و تشديد دفاعاته. تم إرسال عدد من الخبراء في الطبوغرافيا للجبال و المناطق الوعرة لرسم صورة واضحة للقيادة عن تلك المناطق.
على ضفاف نهر دانوب شمال شرق صربيا وقرب العاصمة بلغراد حاليا رحبت قرية صيد صغيرة بأحد الخبراء المدعو بروفيزالد فرامبولد والذي كان قد قضى وقتا لا بأس به في تلك المناطق الوعرة ومر على عدد من القرى المشابهة لتلك القرية لكنه لم يشهد قط طقوسا كتلك التي شهدها في تلك القرية الصغيرة تحديدا.
خلال قيامه بواجباته لفت انتباه فرامبولد صوت حشد غاضب اجتمع في مقبرة القرية فقرر إلقاء نظرة سريعة، بعد دفعه لبعض الأجساد وصل فرامبولد لمقدمة الحشد ولاحظ مجموعة من الأشخاص يستخرجون جثة حديثة. في دفتر ملاحظاته دون فرامبولد أن الجثة كانت "نظرة"، الأظافر كانت موجودة لم يأكلها التراب والشعر كذلك، و قد دفنت على الأرجح قبل أسبوع أو نحو ذلك. تساءل فرامبولد لماذا قد يستخرج القريون جثة حديثة وهم يرددون شتائم غاضبة و بينهم قس يتلو كلمات من الكتاب المقدس وهو ينظر لرجلين اقتربا من الجثة و في يد أحدهما وتد بينما حمل الآخر مطرقة. فرامبولد شاهد بينما وضع الرجل الأول الوتد فوق صدر الجثة ليحمل الثاني المطرقة عاليا فوق رأسه قبل يضرب الوتد الخشبي بقوة جعلته يخترق صدر الجثة حتى يصل للقلب. لم يتعجب فرامبولد من المنظر وحسب لكنه تعجب أيضا من كمية الدم التي خرجت من الجثة واصفا إياها بالكثيفة ومؤكدا على أنه سمع أنين ألم خفيف يصدر منها. حيرة بروفيزالد لم تنتهي هنا إذ أشعل القريون النار في الجثة بطريقة منظمة توحي بأن هذا الطقس ليس بالجديد عليهم، بينما ارتفعت رائحة الجلد المحترق لتملأ المقبرة سأل فرامبولد دليله في تلك المنطقة عن ما شاهده للتو ليجيب الأخير أنهما شهدا للتو آخر مرحلة من مراحل إعدام "مصاص دماء".
بعد إعتزاله في مضجعه كتب بروفيزالد تقريرا مفصلا عما شهده تلك الأمسية. التقرير نشر تلك الصائفة عام 1725 وقد كان أول وثيقة رسمية تذكر فيها كلمة "مصاص دماء". تحدث فرامبولد أيضا عن الرجل الذي أحرقت جثته قائلا أنه كان رجلا يسمى بيتار بياغولوفيك.
جزء تقرير فرامبولد الذي ذكر فيه كلمة "مصاص دماء"
قصة بيتار:
قبل عشرة أسابيع من حضور فرامبولد للقرية، تم دفن بيتار في المقبرة المحلية بعد صراع مع المرض لكن بعد الجنازة بأيام قليلة شهدت القرية عددا من الوفيات الغريبة أين كان السكان يصابون بمرض مفاجئ يأخذ حياتهم بعد يوم أو يومين. على أسرة موتهم قال الضحايا أنهم شهدوا قبل مرضهم كابوسا يرون فيه بيتار أو صورة متوحشة منه يخنقهم بقوة قبل أن يستيقظوا و ما هي إلا سويعات قبل أن يتفشى المرض في أجسادهم. سكان القرية أدركوا أن بيتار لم يكن شخصا عاديا بل إنه كان وحشا وجب التعامل معه بشكل عاجل.
عكس النمساووين، كان قتل "مصاصي الدماء" بالنسبة لسكان المنطقة البلقانية أمرا مألوفا. و جثة بيتار التي كانت محفوظة بشكل غريب رغم أنه كان تحت التراب لمدة عشرة أسابيع لم تترك أي مجال للشك بالنسبة للقرويين الذين رأوا أن "نظارة" الجثة كانت دليلا على أكل بيتار لأرواح الأشخاص المرضى الذين ظهر لهم في كوابيسهم.
تقرير فرامبولد و الذي أثار إنتباه وحفيظة البلاط النمساوي ذاع صيتا حتى وصل لعدد من المناطق الأخرى خارج المملكة وقيل أن ملك النمسا بنفسه طلب أن ترسل كل التقارير التي تتعلق بهذه المخلوقات للمحكمة الملكية مباشرة. يفسر هذا سبب إرسال بعثة طبية و أخرى عسكرية للتأكد من صحة التقارير التي خرجت من قرية "مدفيجيا" ست سنوات بعد حادثة حرق مصاص الدماء التي دونها فرامبولد.
التحقيق في قرية مدفيجيا:
افترض الأطباء في البداية أن القرية قد تفشى فيها فيروس مميت لكن السكان أكدوا للبعثة أن الضحايا كانوا يموتون بعد يوم أو يومين فقط دون أعراض مرض واضحة. بأمر من الملازم "شنيتزل" قائد العمليات البرية في المنطقة تم إرسال عدد من المختصين في الأوبئة للتحقق من الأمر بقيادة الطبيب "غلاسر" الذي حاول كشف الحقيقة بعيدا عن الأساطير و الخرافات لكن عدد الضحايا ارتفع بشكل كبير في خضم تحقيقه ولم يصمد معظمهم يوما واحدا بعد إصابتهم بالمرض.
غلاسر توجه بعد ذلك للمصدر ونبش عددا من الجثث للقيام ببعض الاختبارات عليها. لاحظ الأخير بعد استخراجه جثة عمرها بضع أسابيع أن حالتها كانت جيدة بشكل غريب وكأنها دفنت قبل بضع ساعات فقط و نفس الأمر بالنسبة لعدد من الجثث الأخرى التي أصابها "الوباء". كما أنها كانت في حالة جيدة ولم تظهر عليها أي رضوض أو جروح قد تسبب التهابات يمكن أن تؤدي للوفاة إذا لم يتم علاجها، ليتأكد القريون أنهم كانوا فعلا في حضرة "مصاص دماء" واحد أو مجموعة منهم.
لم يجد غلاسر ما يكتبه في تقريره ورأى بدوره أن نظرية القرويين قد تكون صحيحة. ما زاد الطين بلة هو الاشتباكات المتزايدة بين القرويين و السلطات النمساوية التي منعت القيام بأي طقوس لقتل "مصاصي الدماء".
بحلول عام 1732 تم إرسال عدد من الكتائب للمنطقة بقيادة "آرون فاستنبوشر" لفرض النظام ومرة أخرى تم إرسال جراح عسكري يدعى يوهان فلوكينغر مع الكتائب. مثل أي رجل علم حاول فلوكينغر تفسير الأمر بطريقة منطقية بعيدا عن الأساطير لكنه بعد قراءته للتقارير التي كتبت من قبل الخبراء الذين حضروا قبله أدرك أنه أمام حالة طبية لم يتم اكتشافها بعد. حاول ضباط الكتائب أخذ عدد من شهادات القرويين لعلهم يجدون فيها خللا أو شذوذا يمكنهم من دحض نظرية "مصاصي الدماء" لكن الشهادات كانت متطابقة بشكل لا يوصف كما أن القرويين تعاملوا مع الأمر بشكل جدي جدا و تحدثوا عنه كمسلمة لا كأسطورة.
شهادات القرويين:
بدأت المشكلة حسب القرويين قبل خمس سنوات بعد وفاة رجل ألباني يدعى "أرنان بايل". قال أرنان قبل بأيام من موته لعدد من أصدقائه أنه حاول حماية نفسه من الموت على يد مصاصي الدماء عن طريق أكل شيء من تراب قبر أحدهم والتبرك بدماءه لكن جهوده لحماية نفسه من مصاصي الدماء لم تكن كافية لمنعه من الموت إذ توفي بعد سقوطه من مكان عال و دق عنقه. ليس هذا وحسب بل أنه جهوده لم تمنعه حتى من التحول إلى مصاص دماء بعد وفاته.
بعد شهر من موت "بايل" ذكر أربع قرويين أنهم شاهدوا الأخير في كوابيسهم بصورة غير طبيعية. أعين متوحشة وجلد صلب قاس. بعد أيام من هذه المشاهدات بدأت الجثث تتكدس. القريون الأربعة توفوا بعد أيام قليلة فقط.
تأكد السكان من أن "بايل" كان المشكلة و سارعوا لاستخراج جثته التي كانت في حالة ممتازة، بل إنهم لاحظوا وجود دم على جثته و بين أسنانه. تخلصوا منها بسرعة و نثروا رماد جثته لتلتقطها الرياح لكن ذلك لم يكن كافيا.
نهاية مسلسل مصاصي الدماء في القرية:
17 حالة وفاة أخرى ظهرت في ظرف وجيز ووقف فلوكينغر عاجرا أمام إيجاد تفسير منطقي للأمر واستعان بالقرويين ليربط الخيوط ببعضها البعض.
حسب المحليين فإنه خلال 40 يوما كاملة لم يتغذى "أرنان" على القرويين و حسب بل إنه امتص أيضا دماء بعض العجول التي تم ذبحها واستهلاكها لاحقا ما سرّع من عملية تفشي العدوى بين السكان.
جزء من تقرير فلوكينغر و مرة أخرى تظهر كلمة "مصاص دماء"
أخذ القريون على عاتقهم مهمة التخلص من اللعنة التي تلاحقهم و خططوا لحرق كل الجثث التي وسمت بأنها ملوثة بدم مصاصي الدماء واستطاعوا بالفعل حرق جثة واحدة بعد غرز وتد فيها لكن الكتائب أوقفت جميع الطقوس. فلوكينغر حاول إيجاد تفسير ينهي به النزاع الحاصل ودرس عددا من جثث الضحايا الذين تراوحت أعمارهم بين 60 عاما حتى رضع بعمر 8 أيام فقط لكنه لم يستطع تأكيد وجود أي وباء يمكن أن يؤثر على الجثث بطريقة عكسية فيجعلها تتحنط عوض أن تتعفن.
رازحين تحت الضغط، قررت الكتائب مغادرة القرية و سمحت للقرويين بالاستمرار في طقوسهم. 17 جثة تم حرقها بعد مغادرة الكتائب وبشكل ما توقفت حالات الوفاة المفاجئة في القرية ولم تصل للمملكة أي تقارير أخرى عن وفيات غريبة في المنطقة.
تحليل القصة:
أسطورة مصاصي الدماء اليوم تعتبر مبتذلة لحد كبير، حتى في السينما تم الاستغناء عنها منذ فترة طويلة وتحولت لكوميديا في مرات قليلة، لكن إذا ما تركنا العالم الحديث خلفنا و نظرنا للأمر بمنظور مجموعة قرويين بسطاء ذوي تعليم محدود فإننا سنجد أنفسنا أمام حالة كلاسيكية من الهستيريا الجماعية. صدق الناس فعلا وجود مصاصي الدماء لأن الجمهور _كما يقول غوستاف لوبون_ سهل أن تتحكم في عواطفه. فيسير في أي اتجاه رفقة الجماعة وهذا ما حصل هنا، الأغلبية آمنت بوجود مصاصي الدماء وتبعتها بعد ذلك الأقلية ما خلق صورا قد تكون غير حقيقية لدى الكثير منهم.
عدة قتل مصاصي الدماء من تلك الفترة
في المناطق الريفية لصربيا اليوم أسطورة مصاصي الدماء لازالت حية و آخر ظهور علني لها كان عام 2012 حين انتشر الهلع بين أركان قرية صغيرة بعد سقوط طاحونة هوائية قيل أنها كانت تأوي مصاص دماء أصبح طليقا بعد تحطمها. طبعا لا يوجد أي تسجيل لحالات وفاة غريبة لكن الهستيريا يمكنها أن تجعل الناس يربطون الاحداث بطريقة غير منطقية. وفاة طبيعية لشخص مسن مثلا يمكن تفسيرها على أن لها علاقة بمصاصي الدماء في السياق المناسب. لكن رغم ذلك لا يمكننا أن نستثني تماما احتمالية وجود شيء مشابه أو ربما وجود مصاصي دماء من الأساس! رغم أن الأمر مستحيل.
ختاما:
ما حدث في قرى صربيا خلال فترة حكم النمسا قد يكون وباءا مجهولا تفشى بسرعة بين الناس الذين سارعوا لربطه بالأسطورة، الجثث ربما لم تتحلل كليا لكن المبالغة كانت حاضرة والهلع الجماعي قد يخلق آثارا مشابهة فيجعل العامة ترى الجثث شبه المتحللة على أنها "نظرة"، لكن يجب أن ننوه إلى أن كل الاحتمالات تبقى واردة وخطيرة في نفس الوقت. إذا ما صدقنا وجود مصاصي الدماء أم صدقنا بوجود مرض لا علاج له يقتل الشخص في يوم أو أقل من ذلك.
المصادر:
YouTube: wartime stories
في النصف الأول من القرن الثامن عشر وخلال سيطرة المملكة النمساوية على بلغراد ومعظم صربيا وصلت للمسؤولين النمساويين تقارير عديدة عن وفيات غريبة في القرى الصربية التي كانت تحت الحكم النمساوي، قرى قيل أن سكانها يتم اصطيادهم واحدا تلو الآخر من قبل مخلوق غير بشري. الأطباء في النمسا ورجال العلم تهكموا على هذه المزاعم مفترضين أنها مجرد ترهات من قرويين غير مثقفين، لكنهم أدركوا بعد وصولهم للقرى محل الشكوى وبالتحديد قرية مدفيجيا رفقة الجيش النمساوي أن مزاعم القرويين كانت صحيحة وأن عددا من السكان ماتوا فعلا بطريقة لا يمكن تفسيرها!
بداية الأسطورة:
خلال الأعوام الأولى للقرن الثامن عشر وجدت المملكة النمساوية نفسها تخوص حربا ضروسا ضد الدولة العثمانية للتوسع في الأراضي البلقانية فيما سيعرف لاحقا بالحرب العثمانية- النمساوية. هذه الحرب القصيرة لكن العنيفة انتهت بتراجع الدولة العثمانية و سيطرة النمسا على جزء معتبر من المناطق البلقانية على غرار شمال البوسنة و صربيا و مناطق أخرى سقطت تحت حكم النسر النمساوي الذي بدأ باستكشاف المناطق الجديدة لتشييد مخيمات عسكرية في الغالب و تشديد دفاعاته. تم إرسال عدد من الخبراء في الطبوغرافيا للجبال و المناطق الوعرة لرسم صورة واضحة للقيادة عن تلك المناطق.
على ضفاف نهر دانوب شمال شرق صربيا وقرب العاصمة بلغراد حاليا رحبت قرية صيد صغيرة بأحد الخبراء المدعو بروفيزالد فرامبولد والذي كان قد قضى وقتا لا بأس به في تلك المناطق الوعرة ومر على عدد من القرى المشابهة لتلك القرية لكنه لم يشهد قط طقوسا كتلك التي شهدها في تلك القرية الصغيرة تحديدا.
خلال قيامه بواجباته لفت انتباه فرامبولد صوت حشد غاضب اجتمع في مقبرة القرية فقرر إلقاء نظرة سريعة، بعد دفعه لبعض الأجساد وصل فرامبولد لمقدمة الحشد ولاحظ مجموعة من الأشخاص يستخرجون جثة حديثة. في دفتر ملاحظاته دون فرامبولد أن الجثة كانت "نظرة"، الأظافر كانت موجودة لم يأكلها التراب والشعر كذلك، و قد دفنت على الأرجح قبل أسبوع أو نحو ذلك. تساءل فرامبولد لماذا قد يستخرج القريون جثة حديثة وهم يرددون شتائم غاضبة و بينهم قس يتلو كلمات من الكتاب المقدس وهو ينظر لرجلين اقتربا من الجثة و في يد أحدهما وتد بينما حمل الآخر مطرقة. فرامبولد شاهد بينما وضع الرجل الأول الوتد فوق صدر الجثة ليحمل الثاني المطرقة عاليا فوق رأسه قبل يضرب الوتد الخشبي بقوة جعلته يخترق صدر الجثة حتى يصل للقلب. لم يتعجب فرامبولد من المنظر وحسب لكنه تعجب أيضا من كمية الدم التي خرجت من الجثة واصفا إياها بالكثيفة ومؤكدا على أنه سمع أنين ألم خفيف يصدر منها. حيرة بروفيزالد لم تنتهي هنا إذ أشعل القريون النار في الجثة بطريقة منظمة توحي بأن هذا الطقس ليس بالجديد عليهم، بينما ارتفعت رائحة الجلد المحترق لتملأ المقبرة سأل فرامبولد دليله في تلك المنطقة عن ما شاهده للتو ليجيب الأخير أنهما شهدا للتو آخر مرحلة من مراحل إعدام "مصاص دماء".
بعد إعتزاله في مضجعه كتب بروفيزالد تقريرا مفصلا عما شهده تلك الأمسية. التقرير نشر تلك الصائفة عام 1725 وقد كان أول وثيقة رسمية تذكر فيها كلمة "مصاص دماء". تحدث فرامبولد أيضا عن الرجل الذي أحرقت جثته قائلا أنه كان رجلا يسمى بيتار بياغولوفيك.
جزء تقرير فرامبولد الذي ذكر فيه كلمة "مصاص دماء"
قصة بيتار:
قبل عشرة أسابيع من حضور فرامبولد للقرية، تم دفن بيتار في المقبرة المحلية بعد صراع مع المرض لكن بعد الجنازة بأيام قليلة شهدت القرية عددا من الوفيات الغريبة أين كان السكان يصابون بمرض مفاجئ يأخذ حياتهم بعد يوم أو يومين. على أسرة موتهم قال الضحايا أنهم شهدوا قبل مرضهم كابوسا يرون فيه بيتار أو صورة متوحشة منه يخنقهم بقوة قبل أن يستيقظوا و ما هي إلا سويعات قبل أن يتفشى المرض في أجسادهم. سكان القرية أدركوا أن بيتار لم يكن شخصا عاديا بل إنه كان وحشا وجب التعامل معه بشكل عاجل.
عكس النمساووين، كان قتل "مصاصي الدماء" بالنسبة لسكان المنطقة البلقانية أمرا مألوفا. و جثة بيتار التي كانت محفوظة بشكل غريب رغم أنه كان تحت التراب لمدة عشرة أسابيع لم تترك أي مجال للشك بالنسبة للقرويين الذين رأوا أن "نظارة" الجثة كانت دليلا على أكل بيتار لأرواح الأشخاص المرضى الذين ظهر لهم في كوابيسهم.
تقرير فرامبولد و الذي أثار إنتباه وحفيظة البلاط النمساوي ذاع صيتا حتى وصل لعدد من المناطق الأخرى خارج المملكة وقيل أن ملك النمسا بنفسه طلب أن ترسل كل التقارير التي تتعلق بهذه المخلوقات للمحكمة الملكية مباشرة. يفسر هذا سبب إرسال بعثة طبية و أخرى عسكرية للتأكد من صحة التقارير التي خرجت من قرية "مدفيجيا" ست سنوات بعد حادثة حرق مصاص الدماء التي دونها فرامبولد.
التحقيق في قرية مدفيجيا:
افترض الأطباء في البداية أن القرية قد تفشى فيها فيروس مميت لكن السكان أكدوا للبعثة أن الضحايا كانوا يموتون بعد يوم أو يومين فقط دون أعراض مرض واضحة. بأمر من الملازم "شنيتزل" قائد العمليات البرية في المنطقة تم إرسال عدد من المختصين في الأوبئة للتحقق من الأمر بقيادة الطبيب "غلاسر" الذي حاول كشف الحقيقة بعيدا عن الأساطير و الخرافات لكن عدد الضحايا ارتفع بشكل كبير في خضم تحقيقه ولم يصمد معظمهم يوما واحدا بعد إصابتهم بالمرض.
غلاسر توجه بعد ذلك للمصدر ونبش عددا من الجثث للقيام ببعض الاختبارات عليها. لاحظ الأخير بعد استخراجه جثة عمرها بضع أسابيع أن حالتها كانت جيدة بشكل غريب وكأنها دفنت قبل بضع ساعات فقط و نفس الأمر بالنسبة لعدد من الجثث الأخرى التي أصابها "الوباء". كما أنها كانت في حالة جيدة ولم تظهر عليها أي رضوض أو جروح قد تسبب التهابات يمكن أن تؤدي للوفاة إذا لم يتم علاجها، ليتأكد القريون أنهم كانوا فعلا في حضرة "مصاص دماء" واحد أو مجموعة منهم.
لم يجد غلاسر ما يكتبه في تقريره ورأى بدوره أن نظرية القرويين قد تكون صحيحة. ما زاد الطين بلة هو الاشتباكات المتزايدة بين القرويين و السلطات النمساوية التي منعت القيام بأي طقوس لقتل "مصاصي الدماء".
بحلول عام 1732 تم إرسال عدد من الكتائب للمنطقة بقيادة "آرون فاستنبوشر" لفرض النظام ومرة أخرى تم إرسال جراح عسكري يدعى يوهان فلوكينغر مع الكتائب. مثل أي رجل علم حاول فلوكينغر تفسير الأمر بطريقة منطقية بعيدا عن الأساطير لكنه بعد قراءته للتقارير التي كتبت من قبل الخبراء الذين حضروا قبله أدرك أنه أمام حالة طبية لم يتم اكتشافها بعد. حاول ضباط الكتائب أخذ عدد من شهادات القرويين لعلهم يجدون فيها خللا أو شذوذا يمكنهم من دحض نظرية "مصاصي الدماء" لكن الشهادات كانت متطابقة بشكل لا يوصف كما أن القرويين تعاملوا مع الأمر بشكل جدي جدا و تحدثوا عنه كمسلمة لا كأسطورة.
شهادات القرويين:
بدأت المشكلة حسب القرويين قبل خمس سنوات بعد وفاة رجل ألباني يدعى "أرنان بايل". قال أرنان قبل بأيام من موته لعدد من أصدقائه أنه حاول حماية نفسه من الموت على يد مصاصي الدماء عن طريق أكل شيء من تراب قبر أحدهم والتبرك بدماءه لكن جهوده لحماية نفسه من مصاصي الدماء لم تكن كافية لمنعه من الموت إذ توفي بعد سقوطه من مكان عال و دق عنقه. ليس هذا وحسب بل أنه جهوده لم تمنعه حتى من التحول إلى مصاص دماء بعد وفاته.
بعد شهر من موت "بايل" ذكر أربع قرويين أنهم شاهدوا الأخير في كوابيسهم بصورة غير طبيعية. أعين متوحشة وجلد صلب قاس. بعد أيام من هذه المشاهدات بدأت الجثث تتكدس. القريون الأربعة توفوا بعد أيام قليلة فقط.
تأكد السكان من أن "بايل" كان المشكلة و سارعوا لاستخراج جثته التي كانت في حالة ممتازة، بل إنهم لاحظوا وجود دم على جثته و بين أسنانه. تخلصوا منها بسرعة و نثروا رماد جثته لتلتقطها الرياح لكن ذلك لم يكن كافيا.
نهاية مسلسل مصاصي الدماء في القرية:
17 حالة وفاة أخرى ظهرت في ظرف وجيز ووقف فلوكينغر عاجرا أمام إيجاد تفسير منطقي للأمر واستعان بالقرويين ليربط الخيوط ببعضها البعض.
حسب المحليين فإنه خلال 40 يوما كاملة لم يتغذى "أرنان" على القرويين و حسب بل إنه امتص أيضا دماء بعض العجول التي تم ذبحها واستهلاكها لاحقا ما سرّع من عملية تفشي العدوى بين السكان.
جزء من تقرير فلوكينغر و مرة أخرى تظهر كلمة "مصاص دماء"
أخذ القريون على عاتقهم مهمة التخلص من اللعنة التي تلاحقهم و خططوا لحرق كل الجثث التي وسمت بأنها ملوثة بدم مصاصي الدماء واستطاعوا بالفعل حرق جثة واحدة بعد غرز وتد فيها لكن الكتائب أوقفت جميع الطقوس. فلوكينغر حاول إيجاد تفسير ينهي به النزاع الحاصل ودرس عددا من جثث الضحايا الذين تراوحت أعمارهم بين 60 عاما حتى رضع بعمر 8 أيام فقط لكنه لم يستطع تأكيد وجود أي وباء يمكن أن يؤثر على الجثث بطريقة عكسية فيجعلها تتحنط عوض أن تتعفن.
رازحين تحت الضغط، قررت الكتائب مغادرة القرية و سمحت للقرويين بالاستمرار في طقوسهم. 17 جثة تم حرقها بعد مغادرة الكتائب وبشكل ما توقفت حالات الوفاة المفاجئة في القرية ولم تصل للمملكة أي تقارير أخرى عن وفيات غريبة في المنطقة.
تحليل القصة:
أسطورة مصاصي الدماء اليوم تعتبر مبتذلة لحد كبير، حتى في السينما تم الاستغناء عنها منذ فترة طويلة وتحولت لكوميديا في مرات قليلة، لكن إذا ما تركنا العالم الحديث خلفنا و نظرنا للأمر بمنظور مجموعة قرويين بسطاء ذوي تعليم محدود فإننا سنجد أنفسنا أمام حالة كلاسيكية من الهستيريا الجماعية. صدق الناس فعلا وجود مصاصي الدماء لأن الجمهور _كما يقول غوستاف لوبون_ سهل أن تتحكم في عواطفه. فيسير في أي اتجاه رفقة الجماعة وهذا ما حصل هنا، الأغلبية آمنت بوجود مصاصي الدماء وتبعتها بعد ذلك الأقلية ما خلق صورا قد تكون غير حقيقية لدى الكثير منهم.
عدة قتل مصاصي الدماء من تلك الفترة
في المناطق الريفية لصربيا اليوم أسطورة مصاصي الدماء لازالت حية و آخر ظهور علني لها كان عام 2012 حين انتشر الهلع بين أركان قرية صغيرة بعد سقوط طاحونة هوائية قيل أنها كانت تأوي مصاص دماء أصبح طليقا بعد تحطمها. طبعا لا يوجد أي تسجيل لحالات وفاة غريبة لكن الهستيريا يمكنها أن تجعل الناس يربطون الاحداث بطريقة غير منطقية. وفاة طبيعية لشخص مسن مثلا يمكن تفسيرها على أن لها علاقة بمصاصي الدماء في السياق المناسب. لكن رغم ذلك لا يمكننا أن نستثني تماما احتمالية وجود شيء مشابه أو ربما وجود مصاصي دماء من الأساس! رغم أن الأمر مستحيل.
ختاما:
ما حدث في قرى صربيا خلال فترة حكم النمسا قد يكون وباءا مجهولا تفشى بسرعة بين الناس الذين سارعوا لربطه بالأسطورة، الجثث ربما لم تتحلل كليا لكن المبالغة كانت حاضرة والهلع الجماعي قد يخلق آثارا مشابهة فيجعل العامة ترى الجثث شبه المتحللة على أنها "نظرة"، لكن يجب أن ننوه إلى أن كل الاحتمالات تبقى واردة وخطيرة في نفس الوقت. إذا ما صدقنا وجود مصاصي الدماء أم صدقنا بوجود مرض لا علاج له يقتل الشخص في يوم أو أقل من ذلك.
المصادر:
YouTube: wartime stories
يجب تسجيل الدخول لمشاهدة الروابط