- المشاهدات: 866
- الردود: 6
لاتزال عتمة غرفتي و حتى اليوم تضاء بين الفينة و الأخرى بذكرى تلك القصة السريالية الغريبة التي شهدت أطوارها كمتفرج مسرح بائس من نافذة شقتي القذرة المكلفة بشكل غريب ، و التي كانت تطل على سوق فهريار ، كان ذلك المكان بالنسبة لسكان المنطقة الشمالية الرابضين في قصورهم العالية مجرد مكب قمامة و ذلك التصريح رغم عدوانيته إلا أنه يحمل بين جنباته الكثير من الصحة و الصدق ، فالطريق كانت غير معبدة و غارقة في الطين الذي خلفته أمطار ديسمبر الباردة و على قارعتيها إنتشرت طاولات الباعة العشوائية فجعلت بدن ذلك الشارع البشع مكتضا بالمتسوقين و همهماتهم الغريبة ، كانوا يشبهون لحد كبير نفرا من السمك الهائم وسط المحيط ، خبيب كان كعادته يصرخ مهللا بجودة رغيف الخبز القذر الذي يصنعه داخل مرتعه المهترئ دون أن ينسى تمرير يده عبر لحيته الحمراء الكثيفة بين الفينة و الأخرى و نصير في نهاية الشارع يحمل سمكة ضخمة متعفنة بدت رغم ضخامتها صغيرة مقارنة بيده و يلوح بها مبتسما كالمعتوه يمينا و شمالا كأنها جائزة يانصيب ، أما الفتى زبير فقد كان يجلس بهدوء قرب كرسي تلميع الأحذية خاصته و الذي تركه له عمه بعد وفاته منذ فترة ليست بالبعيدة ، كان الفتى منطويا منعزلا يبدو لك للوهلة الأولى أنه فاقد لنعمة العقل لكنه في الحقيقة مجرد غلام مجروح عاش أربعين عاما في جسد شاب عشريني ، حتى جسده كان نحيفا لدرجة مخيفة ضف لذلك لحيته السوداء التي لم تقترن بذلك الشعر الأشعث القاتم المنحدر من ذقنه و التي أعطته مظهرا منفرا لحد كبير ، كنت قد إنتهيت من كوب قهوتي فوضعته على حافة النافذة و رحت ألمح ذلك الرجل الثري القاطن في المنطقة الشمالية و هو يترجل كالطاووس من سيارة سوداء معتمة طابق سوادها سواد بدلته الفخمة ، كان ذلك الغريب يتردد بكثرة في الأسابيع القليلة الماضية على طاولة زبير و قد كان هذا الأخير ينظر له بطريقة لم أرها في بشري من قبل إذ إمتزجت على محياه ملامح القرف مع ملامح الخوف و القلق ، في البداية كنت مرتبكا محتارا غارقا في بئر من التساؤلات الشاذة الغريبة لكن في ليلة معتمة بائسة حزينة رأيت تلك السيارة السوداء مرة أخرى و قد ركنت قرب منزل زبير الذي إستقر خلف كرسيه العتيق مباشرة و من متنها خرجت فتاة يافعة ، قصيرة نحيفة لم ألمح من وجهها الكثير رغم أن النظارات كانت على عيني ، لكن قلة البصر لم تمنعني من وصل النقاط فإبنة الغريب كانت حبيبة زبير و قد كانا يقضيان الليالي معا في مرتعه ، هل هي قصة حب أم قصة إستغلال ؟ لم أعرف حقا .
***
صبيحة كل يوم كان زبير يودع تلك الفتاة ثم يتحرك صوب طاولة خبيب ليتجاذبا أطراف الحديث ، كانا لحد ما صديقين بل و تشاركا سقفا واحدا لفترة ليست بالقليلة ، خبيب كان يطمع دوما في مكان زبير بحكم أنه يقع عند نهاية السوق مما يسهل على المارة أخذ الخبز كآخر شيئ قبل المغادرة لكن زبير كان دوما يجد طريقة للمفاوضة مع صديقه ، الفتى زبير كان يبدو سعيدا مبتهجا في جل المحادثات التي كان يخوضها مع خبيب الذي كان نافرا منه ، مشمئزا ، رافضا له تماما ، ربما لم يلحظ زبير ذلك لكن من مكان وقوفي أنا فقد كان الأمر واضحا تماما ، حديثهم لم يكن طويلا و لم يكن قصيرا أيضا و كان دوما ينتهي بإبتسامة مزيفة يرسمها خبيب على محياه ، نصير أيضا كان يتردد على طاولة خبيب لكن حديثهما كان دوما قصيرا مقتضبا و يأخذ مكانه عادة وقت الغداء أين يختفي زبير لمدة قليلة .
تلك الليالي بين زبير و الفتاة تكررت كثيرا و في ملامح الفتى أمكنني أن أرى تغيرا من البؤس للغبطة ، كان ذلك المسكين يرى في تلك الشابة الصغيرة حياته كلها لكن وجب عليه أن يكون أدرى من ذلك ، وجب عليه أن يدرك أن الحياة مخادعة غدارة لا تؤتمن قط و إن تجسدت له في هيئة فتاة نحيفة ثرية لقدر كبير فذلك اليوم كان صادما حتى لي أنا معاذ البائس بشكل كبير ، أما بالنسبة له هو فقد كان الأمر بمثابة خنجر يخترق قلبه بهدوء ، فمثل كل صباح ركنت تلك السيارة السوداء المريبة قرب كرسي الفتى لكن من ترجل منها لم يكن ذلك الرجل الغريب الضخم بل كانت إبنته النحيفة التي قدمت لحبيبها المزعوم ورقة بيضاء أمكنني أن أحزر أنها دعوة زفاف لم يكن الغرض الحقيقي الواقعي من وراءها دعوة ذلك البائس الفقير للعرس بل كانت بمثابة هدنة أنهت علاقتهما الماجنة السرية و لو وصفتها بالكلمات تلك الواقعة الصغيرة لكنت سأقول :
- الآن و قد أشبعت غرائزي ، حان الوقت لأستقر أخيرا مع بائس جاهل لا يعلم ما كنت أفعله في الظلام معك .
راح ذلك الفتى بعد مغادرة السيارة يشتم بصوت عال شد إنتباه جل المارة بل و إنه حطم أحد أقدام الكرسي بعدما ركله بقوة مفرغا غضبه الجسيم فيه و كان ليحطمه كله لو لم يوقفه نصير الذي دفعه بعيدا عنه و راح يواسيه بعدما أجهش بالبكاء كطفل صغير ظل طريق العودة للمنزل .
***
إختفت الألوان من حياة ذلك المسكين و أضحت أيامه رمادية بائسة ، كان يجلس كل يوم غارقا في وحدة لم أرها من قبل و يطرد كل شخص يضع حذائه فوق كرسيه ، كان شاردا معظم الوقت و حتى إستراحات الغداء القصيرة التي كان يأخذها إنقطعت تماما ، خبيب كان يمر عليه بين الفينة و الأخرى و في يده قطعة خبز يضعها له بين كفيه لعله يبتلعها لكنه يستمر فقط بالتحديق فيها قبل أن يقدمها لأحد المارة القلائل الذي لازالوا يمرون قربه بعد إنهياره العجيب ذاك ، كنت أنتظر منه أن يعود لرشده بعد فترة لكن أسابيعا مرت و ذلك الفتى لايزال متسمرا في مكانه دون حراك ، كنت قد لاحظت و إن كان في ملاحظتي نوع من الشك المريب إبتسامة غريبة خبيثة تلوح في أفق محيا خبيب ، إبتسامة كنت أراها فقط عند نهاية محادثتهما أما الآن فهي مستقرة على وجهه كالعث في كومة ملابس قديمة ، حاولت فعلا في تلك الصبيحة التي لاحظت فيها شعلة المكر تلك أن أخمن ما سر الإبتسامة الغريبة لكن سيل أفكاري توقف مع توقف سيارة بيضاء لها بدن شبيه ببدن الحوت قرب مكان زبير مباشرة ، في كرسيها الخلفي جلست الفتاة مسترخية في فستان عرس أبيض بياض الثلج في يوم شتوي بائس و بجانبها رجل منتفخ الوجه ، حاد الملامح كنت متأكدا أنه عريسها الجديد بحكم بدلته السوداء ذات الياقة ، بهدوء ترجل من السيارة و في يده مسدس رمادي صوبه تجاه زبير و سحب الزناد دون أدنى تردد فإستقرت الرصاصة في جمجمة الفتى و تناثرت دماءه على الكرسي ملامسة مجموعة الأحذية التي كانت تنتظر التلميع ، سقط الفتى ميتا كأنه لم يعش يوما قط و سار ذلك الرجل صوب خبيب و قد سحب من جيبه مبلغا ضخما ناوله إياه ثم إنطلق مبتعدا وسط صدمة و هلع كل من كان واقفا هناك ، لمحت في خضم تلك الفوضى نصير يتلبد كالفأر صوب طاولة خبيب و هو يضحك ملئ شدقيه ، بسرعة أشار لطاولته و راح يحرك يديه بطريقة فهمت منها أنه يود أن يحتفل مع صديقه الجديد بشواء سمكة على الغداء ، و لو أمكنني أن أترجم تلك المحادثة لقلت :
- لقد حصلت على مكان الفتى أيها الذكي اللعين ، لقد غدرت به بطريقة لم أر لها مثيلا من قبل ، لقد إنتظرت و إنتظرت حتى لحظة ضعفه ثم غرست براثنك فيك و نهشت عظامه كفريسة مسكينة لا قوة لها .
***
صبيحة اليوم التالي لمحت لحظة فتحي تلك النافذة الخشبية العفنة رجلا غريبا يقف خلف طاولة زبير ، لم تكن ملامحه تقترب من ملامح الفتى لكنني خمنت أنه أحد أبناء عمه من خارج المدينة ، كان نحيلا مثله لكنه أنيق اللباس ، يرتدي قميصا أبيضا نقيا و سروالا أسودا مرتبا ، لم يدم تركيزي معه طويلا إذ صرفت نظري عنه بعدما لاحظت نصير يسير قاطعا الشارع و بين يديه سمكة مشوية وضعها فوق طاولة خبيب الذي كان ينتظره بشغف ربما منذ نسمات الصباح الأولى فذلك الأصهب اللعين كان إستغلالا متحركا ، بخفة قطع السمكة مستعملا سكين الخبز ثم أخذ لقمة أولى و ثانية تحت أنظار صديقه الذي وقف متفرجا ، كان يأكل بشراهة لم أرها فيه قط من قبل لكنه توقف فجأة و قد جحظت عيناه بطريقة عجيبة مخيفة مرعبة ، الخبز في يمناه سقط على الأرض القذرة و جسده إستسلم فجثى على ركبتيه ... لقد كانت سمكة سامة شلت عروقه و بعد لحظات ستسقطه ميتا دون حراك ، نصير نظر يمينا و شمالا آملا أن لا يلحظه أحد من المتسوقين القلائل الذين كانوا يتجولون كأنهم أجساد بلا أرواح ثم أقحم يده في جيب خبيب و سحب بهدوء ذلك المبلغ المالي القذر قبل أن يدفعه بقدمه بطريقة فيها الكثير من النذالة ، بهدوء و مكر حاول التحرك صوب طاولته مجددا لكن الرجل الغريب الذي كان خلف طاولة زبير تقدم منه ببطئ و قد سحب من جيبه شارة شرطي أشهرها في وجهه بحدة .
" ساذج أنا حقا حين إعتقدت أن زبير كان الضحية ،
ساذج أنا حين ظننت أنه كان الأغبى من بينهم جميعا " . نصير حاول أن يهرب و بدأ برمي الأشياء صوب الشرطي الذي أشهر مسدسه مطلقا عدة تحذيرات لم يمتثل لها نصير بغباء كبير فلم يترك للظابط خيار آخر سوى إطلاق النار عليه ليصيبه في صدره و يرديه قتيلا ، بحذر تحرك الضابط صوب الجثة و حمل مبلغ المال الذي سقط على الأرض و لو أمكنني ترجمة تلك النظرة الحادة التي رمق بها الجثة لقلت :
- إن القلم ليفسد الورقة البيضاء و إن الممحاة لتمحي ما كتب القلم و كلاهما لا يدريان أن اليد ستمزق الورقة في النهاية .
***
أغلقت نافذتي بعد نهاية تلك التراجيديا الغريبة و سرت صوب مطبخي لأعد كوب قهوة آخر يعيد سير الدم في عروقي ، بنوع من الحيرة راقبت ذلك البن الأسود المرحي و هو يطبخ بهدوء و أنا أتحدث مع نفسي قائلا :
- لقد كانت فعلا حكاية غريبة عجيبة غير مفهومة لحد كبير ، حكاية بدأت بالحب و الأمانة و إنتهت بالغدر و الخيانة .
القصة نشرت سابقا على موقع كابوس.