e-Dewan.com
  • المشاركة مفتوحة للجميع .. لا تتردد في نشر مقالك في القسم المناسب في منتدى الديوان.

  • اللّٰهُمَّ إِنِّي أَفْتَتِحُ الثَّناءَ بِحَمْدِكَ وَأَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوابِ بِمَنِّكَ، وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ.

🔄 منقول: الحديث عن الغول والسبع والسلطان

العنوان:
🔄 منقول: الحديث عن الغول والسبع والسلطان

🔄 الموضوع يحتوي على محتوى منقول.

مرحبا ً بك في الــديــوان الإلكتروني

أهلا وسهلا بك زائرنا العزيز في الــديــوان الإلكتروني.

انظم إلينا و تمتع بتجربة رائعة, ستجد كل ما تبحث عنه.

التسجيل مجاني بالكامل

حديث عن الغول ، السبع ، السلطان و الولي الصالح .
محاولة نبش في الذاكرة و الوجدان الجمعي لساكنة منطقة جبالة و الريف .

من الحكايات الرائجة حول الغول و عالم الكائنات العجائبية بمنطقة الشمال المغربي ، حكاية الفلاح البسيط الذي تجرأ على مبارزة هذا الكائن الخطير و تمكن من دحره .
تروي الحكاية أن مزارعا اكتشف نزول غول بغابة قريبة من بيته . و كعادة الغيلان ، شرع هذا الضيف الثقيل الظل في افتراس كل ما يمر بقربه . أصبح عدد رؤوس الماشية بقطعان المنطقة يتناقص يوما عن يوم و على مرأى العين ، و ساد المنطقة شعور خانق بالهلع و الخوف .لكن الأدهى في الأمر كله ، كان اختيار الغول الاستقرار قرب نبع الماء الوحيد بالناحية .
صمم المزارع العزم على المقاومة مستهجنا الهروب و هجرة موطنه . و لوعيه بقوة خصمه الرهيبة ، قرر توسل الحيلة و الذكاء .
جمع أفراد أسرته و أطلعهم على الخبر الصادم مؤكدا على ضرورة الحذر و التآزر، ناصحا بعدم التوجه إلى النبع قبل الرصد الدقيق لتحركات الغول و التأكد من غيابه عن المكان و بالامتناع عن إحداث أقل ضوضاء قد تلفت انتباهه كاستعمال الرحى اليدوية أو إيقاد النار أو الإنارة ليلا ... بعدها ، انزوى في ركن من البيت للتفكير في الخطة الملائمة لرفع التحدي المميت .
عند حلول الصباح ، حمل الفلاح حبلا طويلا فوق كتفه و اتجه صوب العين حيث " عرين " الغول . كان هاجسه الأول الحرص على التحلي بالهدوء و الثقة بالنفس في كل حركة من حركاته . لذا ، شرع بهمة و حماس في ربط جذوع أشجار الفلين الضخمة ببعضها بالحبل و هو يرنم بالصفير لحنا محليا حينا و يرفع عقيرته بكلمات أغنية شعبية شهيرة حينا آخر مطلقا صيحات آمرة أو ناهية مصحوبة بإشارات من يديه نحو أشخاص وهميين جهة تلة قريبة . الجلبة المفتعلة أيقظت الغول من نعاسه كما كان منتظرا .
اقترب الكائن المتوحش من الفلاح و علامات الاندهاش بادية عليه . تظاهر الفلاح اليقظ ، لبرهة ، بتجاهل وجوده . ثم بسرعة و مكر صاح به ، و كأنه أشفق عليه من خطر ماحق مجهول : " انتبه للحبال أمامك و وراءك يا متهور !! لا تقف تحت هذه الأشجار العملاقة التي قد تتساقط عل رأسك بقوة في أية لحظة و تهشمه لأننا سنسحبها حالا ، هي و النبع و الأرض، جرا نحو معسكر الجنود القريب . أعداد الجنود الغفيرة أتت لقتال و صيد السباع . أنصحك بالهروب قبل وقوع المحظور ! هيا ، اهرب ، اهرب سريعا !! "
حك الغول رأسه بعصبية مصدرا همهمة غامضة ، بعدها هرول جهة الوادي ليقطع النهر نحو الجهة المقابلة و اختفى بين الأشجار .
تتبع الفلاح ، خفية ، آثاره قصد استكشاف مكان إقامته الجديد ثم عاد إلى بيته راضي الحال ، بادي الارتياح . كان يعلم جيدا أن المعركة ليست إلا في بدايتها ، لكنه كان يحس أنها كانت بداية موفقة . صحيح أن الصعاب و الأخطار المقبلة جسيمة لكن كفة التفاؤل بدت له راجحة . كل هذا زاد من إصراره و عزيمته ، فراح يعد العدة للمواجهة القادمة .
اعتمادا على حصيلة استطلاعاته ، قرر أن تجري معركة الغد في وطاء تشكله فسحة مجاورة للأحراج التي آوى إليها عدوه . و في صبيحة اليوم الموالي ، احتل موقعه المذكور و أخذ في مناداة الغول الذي كان لازال يغط في نومه العميق . كانت نداءاته المتكررة بالكاد تسمع بسبب شخيره المرتفع: " انهض يا كسول فالشمس طلعت و وصلت عنان السماء و أنت لا زلت تشخر كالسكران !! تعالى لتتدرب مع جنودي على استعمال السلاح القاتل الجديد ! انهض لأدربك على فن رمي الصخرة الصارخة التي تخترق الأجواء في صفير حاد يشبه صفير العواصف و الرعود ! تعالى لمشاهدة العجب العجاب!! "
بعد برهة أقبل الغول و على وجهه الذميم إمارات الغضب و الانزعاج . بادره الفلاح مبتسما : " أرجح أنك لن ترفض التباري معي في رمي الحجارة إلى أبعد مسافة و أطول مدة في السماء . هذا مفيد في اصطياد الطرائد الكبيرة دون عناء الجري وراءها . ألا ترى أنك أصبحت عجوزا ثقيل الحركات !!؟. بداية ، أرني طريقتك في رمي الحجر لأقيم قدراتك !! "
بعنف ، رفع الغول صخرة عظيمة و ألقى بها في الهواء لترتفع عاليا تم تهوي على بعد بضعة أمتار محدثة دويا مكتوما شبيها بصوت رعد بعيد ، بعيد جدا . كان المشهد مخيفا حقا إلا أن الفلاح تظاهر باستصغار الرمية و عدم إعجابه بها . ثم بعد ضحكة مفتعلة وحركات تحسر و أسف قال معلقا : " أهذا هو قصارى طاقتك ؟ أهذا كل ما يمكنك فعله ؟ لن ينفعك هذا أمام عدو ذكي و بعيد يتربص بك أو طريدة سمينة تحسن الاختفاء ... انظر ، و لاحظ السلاح الصارخ و الرمية القاتلة التي سأنفذها أمامك لتتعلم و تستفيد !! "
بخفة مدهشة ، أدخل الفلاح يده في جراب الدوم المعلق في خصره بحزام يتدلى من فوق كتفه ، انحنى متظاهرا بالتقاط حجر ، و في لمح البصر أطلق في الهواء طائر حجل كبير كان قد اصطاده بالأمس في فخ من خيوط . أصدر الطائر صرخته المعهودة مصحوبة برفرفة قوية بالجناحين و راح يبتعد بسرعة و صدى صوته المسترسل و العالي يملأ الفضاء إلى أن أصبح نقطة صغيرة في الأفق البعيد ليغيب بعدها عن الأنظار .
" أرأيت ؟ أسمعت ؟ الصخرة التي رميت بها لن تنقطع عن الزمجرة في السماء إلى أن تقع على رأس أحدهم فتهشمه تهشيما . "
طأطأ الغول رأسه من فرط الذهول و اغتنم الفلاح اللحظة لكي يختفي برشاقة و سرعة عن أنظار الكائن المتوحش .
من بعيد ، من فوق تلة عالية جلس يراقب ردود فعل الغول و تحركاته . بحسه البسيط و منطقه العفوي ، استنتج أن خصمه إن لم يغادر المكان اليوم ، فلا مناص من مواجهة جسدية و صدام بدني حاسم يكون الكلمة الفصل . لكن ، أنى له - و هو الفلاح النحيف ، المنهك الجسد لفرط الشقاء و سوء التغذية و الفقر الناجم عن حيف و جشع جباة الضرائب و غياب عدل السلطان – بمصارعة غول مفتول العضلات ، عظيم الحجم ،غليظ الطباع ؟
أصابه غم و ضيق شديد لكنه سرعان ما استعاد ثباته و ثقته بنفسه عند تذكره أن للوجود خالقه الحكيم الذي يتدبر أموره ، عادل في أحكامه رِؤوف و رحيم بعباده . تناول وجبة العشاء بين أهله حريصا على الابتسام ، محاولا بث المرح حوله بنكته و مستملحاته. بعدها استغرق في نوم هادئ و عميق .
قبل الشروق، التحق ببقعة أرض مستوية اعتادت الخنازير البرية الحفر فيها بحثا عما اعتادت التقوت به . تسلق صخرة عالية ، أخرج خنجرا لامعا من غمده و رفعه نحو السماء متخذا وضعية من يراقب و ينتظر هبوط عدو خفي من أعاليها . كان يدير رأسه في جميع الاتجاهات واضعا أصابع يده اليسرى أفقيا ، كواقية شمس ، فوق حاجبيه لتصويب الرؤية أكثر . كان يصيح مهددا : " انزل من هناك أيها الوحش الجبان ! هل أصابك الشلل هناك في السماء ؟ خنجري المسموم ، هذا ، المتعطش للدماء ينتظر بطنك المنتفخ النتن على أحر من الجمر !! "
و تماما كما توقع الفلاح ،حضر الغول لاستطلاع ما يجري . بادره الفلاح محذرا : " يا هذا انتبه جيدا إلى فوق ، لقد صارعت للتو غولا ضخما تبدو أنت قزما أمامه ... شاهد الحفر حولك فهي آثار المعركة الكبرى ... طوحت في النهاية بالغول في الهواء كما يطوح بالحجر في المقلاع و رميت به بعيدا جدا في السماء و ها أنا أنتظر هبوطه لأنتزع منه نفسه الأخير بخنجري هذا الذي لا يرتوي أبدا عطشه للدماء إن أخرج من غمده . و ها أنت ترى أنني قد أخرجته من غمده . !"
قبل أن ينهي الفلاح كلامه ، كان الغبار الذي أحدثه فرار الغول قد غطى جانبا من الفضاء و صوت وقع أقدامه الغليظة و الثقيلة فوق أغصان الأحراش و الحجارة لا يعلو فوقه صوت .
بابتهاج بالغ ، تتبع الفلاح من التلة العالية انسحاب الغول و مغادرته النهائية للمنطقة ثم اتجه نحو عشيرته لإعلان النبأ السار .
" ... و إذا كان عندي المفتاح ، كعشيتك التفاح . " على هذه العبارات تعلن الحكايات نهايتها على عادة أهل المنطقة و يخبر الحاكي أنه سيسكت عن الكلام المباح .
في واقع الأمر ، الحكاية هي مالكة المفتاح ، مفتاح القلوب . هي المسيطرة لكونها تملك سحر التشويق ، لأنها تستجيب لدعاء الأمل و لا تقفل أبواب الرجاء و التفاؤل في تحقيق العدالة ، لأنها تملك خريطة طريق النجاة و تؤكد إمكانية تحقيق المعجزات بالاجتهاد و الابتكار ، رافعة شعار " من أعمل فكره أتاه الإلهام و من دام اجتهاده أتاه التوفيق " ، لأنها رحيمة ، متعاطفة و تقف دائما بجانب الضعيف و المظلوم للانتقام لهما من الظالم المتكبر. إنها أخيرا الملاذ الأخير للضعيف إذ طالما كان رد الشعوب على الهزيمة و الواقع المحبط طرق أبواب الخيال و التخيل كرد فعل تعويضي .
نتساءل الآن : ما هي اللحظة التاريخية في الزمان المغربي التي قد تتناسب و بيئة نشأة و احتضان أحداث حكاية الغول و الفلاح ؟
يمكن ترشيح منطقة جبالة و الريف لتكون المسرح الفعلي للحكاية ، أولا لكونها انتشرت في هذا الفضاء بعينه إذ هي نتاج محلي صرف محكية بلغة محلية و ذات حمولة ثقافية جبلية صرفة تتجلى في طريقة الحياة و اللباس والأدوات المستعملة و الغطاء النباتي ... و لأنها ثانيا تعرضت لغزو خارجي فعلي في فترة كانت ساكنتها في حالة عوز و قلة حيلة لمجابهة غازي متغول و قوي .
التاريخ العام للمنطقة يفيدنا أن المغرب منذ أن انتشر الإسلام في ربوعه ، و بالخصوص مع الإمبراطوريات الثلاث ؛ المرابطية ، الموحدية و المرينية إلى نهاية القرن 14م لم تتجرأ قوة خارجية على مهاجمة ثغوره للبقاء بها . أحداث الحكاية قد تنطبق على فترة نهايات المرينيين و بدايات ضعفهم ، مع احتلال البرتغال لمدينة سبتة سنة 1415م و بالخصوص مع أيام حكم الوطاسيين و بداية الانتشار السعدي بل و حتى مع قيام الدولة السعدية و انتصارها في معركة وادي المخازن سنة 1578م . أحداث الحكاية تدور حول إبهار الفلاح للغول المسيطر على الأرض- النبع، أي الشاطئ- الثغر ، المرفأ بامتلاك الرمية الصارخة التي قد تكون بداية تعرف المغاربة على البارود و السلاح الناري و هي فترة تطابق مجهودات المرينيين و الوطاسيين في هذا المجال . لهذا سيكون من غير المعقول تصور إمكانية استغفال محتل أجنبي ، إسباني أو فرنسي في القرنين 18م و 19م لكون البون التسليحي و الصناعي- التقني كان قد أصبح شاسعا بين المغاربة و جيرانهم الشماليين .
هنا أفتح قوسا للإشارة إلى اهتمام المغاربة الكبير و الملفت للنظر بالبارود . لا بد أن الأوضاع الأمنية و السياسية السائدة آنذاك جعلتهم يلمسون فيه الحل السحري و القدرة الفائقة . رأى المغربي في البارود رمز القوة المفقودة و الضائعة التي يحلم بها : في فرقعة البارود المخيفة وجد التعبير المناسب عن الصرخة المكتومة في صدره و التي لا تنتظر إلا أقل إشارة لإطلاقها . ربما هنا يكمن سر الانتشار الواسع لظاهرة رقصة البواردية و مهرجانات الفروسية بين المغاربة .
لتصويب الرؤية أكثر، يمكن القول أن ثقة المغربي بنفسه بدأت تهتز و تصيبها الشقوق إثر هزيمة معركة "العقاب" التي منيت بها الجيوش الموحدية سنة 1212م على أرض الأندلس . من حينها كانت رياح التاريخ تتحول لصالح شعوب الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط . و بما أن سير زمن الشعوب متثاقل الخطى دائما ، فإن التحول يكون بطيئا و لا تلحظه إلا العقول المجددة و أصحاب النظر الثاقب ؛ هكذا أشار ابن خلدون قبل وفاته (1406م) إلى أن الزمان لم يعد يلعب لصالح المسلمين ، قارعا بذلك جرس الإنذار و لزوم استخلاص الدروس و العبر .
تخبرنا الوقائع أنه بعد احتلال سبتة ، و قد تمت بعده و قبله الإغارة مرارا على تطوان و هدمها ، أصبح جليا أمام ساكنة قبائل غمارة و أنجرة و الهبط أنه من المجازفة بالنفس و الإلقاء بها للتهلكة الاستمرار في السكن قرب السواحل ، لذا تم الالتجاء إلى المرتفعات و الشواهق طلبا للنجاة من القتل و السبي . من هنا قد يكون استهجان الفرار في الحكاية و انتصارها لموقف الفلاح البسيط العازم على البقاء بالأرض و المواجهة ( قصد حماية النبع- العين أو الثغر- المرفأ) . إنها دعوة صريحة للجهاد و عدم الاستسلام أو الخوف من العدو/ الغول، الممكن هزيمته .
تمكننا أحداث المنطقة كذلك من توسيع نطاق فضاء الحكاية لتشمل الريف الشرقي ، لأنه إن كان سكان غرب جبال الريف قد تخصصوا في مواجهة غول البرتغال فإن سكان شرق غمارة وجبال الريف تحملوا عبء مواجهة الغول القشتالي- الإسباني في جوار باديس و مليلية و غساسة . حدث هذا إثر معاهدة تقسيم النفوذ علي الفضاءين المتوسطي و الأطلسي بين البرتغال و الإسبان بإشراف الكنيسة الكاثوليكية سنة 1479م . أصبح لإسبانيا امتياز تملك ما يقع إلى الشرق من باديس جهة مليلية و الجزائر و ما بعدها داخل الحوض المتوسطي، و للبرتغال حرية التصرف مما يلي باديس نحو الغرب مرورا بثغور المتوسط و بعدها ثغور المحيط الأطلسي .
باختصار،أصبح المغربي في الشمال ، و كذا على امتداد الساحل الأطلسي ، يعيش زمنا خرافيا و سورياليا فيه انقلبت الأمور رأسا على عقب . كان فيما مضى سيدا، له الكلمة العليا و أصبح الآن يغزى في عقر داره . تحولت بلاده من دار سلام إلى دار حرب . و هذا من علامات "آخر الزمان" ، مقولة زمن الأزمات و المحن .
بعد محاولة تحديد الفترة التاريخية التي تناسب ظروف نشأة الحكاية، لنحاول الآن تحديدا أدق لمن كان يمكن أن ينعته المغاربة بالغول في ظرفيتهم الصعبة المشار إليها و من كان يمكنه تجسيد الخطر الماحق على المواطن البسيط و طبقة المسحوقين .
الوصف السابق ينطبق على العدو الخارجي الذي يأتي من بعيد بمراكب أتقن صنعها ، لكن ماذا لو لم يكن العدو خارجيا فقط ؟ ماذا لو كان المواطن البسيط في البوادي الشاسعة ، و في المدن كذلك ، يواجه أكثر من غول واحد ؟ ماذا لو كان يواجه غولا برؤوس متعددة ( للإشارة ، هناك حكايات حول غيلان لا تستسلم إلا بعد قطع رؤوسها السبعة لامتلاكها "سبعة أرواح.".) ؟
يقول مثل شعبي قديم رائج بين قبائل المنطقة : " ثلاثة كيديو مولاهم للقبار : زمار و زميار و اربعطشار[ أربعة عشر] زمار " .
زمار ( بسكون الزاي و فتح الميم دون تشديدها) لفظة تدل على كل شي ضار و ذي خطر يكون مصدر المصائب و الإزعاج . زميار ( تصغير دارجي لزمار ، بسكون الزاي و كسر الميم و ياء مفتوحة فوقها شدة ) تدل على نفس معنى سابقتها إلا أن خطرها أدهى لكونه يتسم بالخفاء و التمويه و الخداع . أما اربعطشار زمار فهي المشاكل العويصة و المعقدة جدا التي تتشابك فروعها و تندلع بسببها فتن قاتلة و أحقاد مزمنة .
ترى الحكمة الشعبية في المثل أن أصل المشاكل ثلاث أمور : 1) زمار: و هو السلطان أو المخزن و مؤسساته . 2) زميار: و هو فقيه خطبة الجمعة وبالتالي كل داعية و واعظ مشبوه صاحب أغراض دنيوية . 3) اربعطشار زمار : الزوجة الغنية و أملاكها المالية و العقارية وأفراد أسرتها و عشيرتها و المشاكل العويصة الناتجة عنها نفسيا و اجتماعيا التي يكابدها زوج تعيس أغرته الثروة الخادعة .
هناك إذن مصدر داخلي لنشأة الغول و خروجه من قمقمه، يمثلها السلطان ، حاشيته و أدواته ، ثم طبقة الفقهاء و الدعاة – الوعاظ و المحرضين المتطلعين و مؤسسو الزوايا ، ثم شريحة الانتهازيين اللذين يجتذبهم بريق المال فيخادعون ويحتالون و يخونون ضمائرهم و الناس من أجله .
النقطة الأخيرة تثير انتباهنا إلى أن الغول/العدو لا يكتفي بالتواجد داخل المجتمع و يكون ظاهرا للعيان ، بل قد يكون خفيا ، باطنيا و صعب الاكتشاف ، يترعرع داخل الفرد ذاته فيكون الإنسان بذلك هو غول نفسه و عدوها الأخطر . من هنا نتفهم موقف تيار المتصوفة الملامتيين الذين ذهبوا إلى أبعد حد في تحقير أنفسهم و إذلالها قصد لجمها عبر مجاهدتها ( أمثلة عديدة يقدمها ابن عسكر في كتابه "دوحة الناشر" منها حديثه عن الشيخ العالم أحمد الحداد الخمسي بقرية شرافات شرق شفشاون ) .
كخلاصة لما سبق يمكننا رسم اللوحة التالية عن الغول/ الخطر المهدد للمغربي في عصر أفول نجم الدولة القوية الحامية :
- غول خارجي : يمثله العدو الأيبيري المتربص بالثغور
- غول داخلي حيواني : يجسده السبع المتربص بالماشية ، قاطع طرق التجارة و قاتل الإنسان .
- غول داخلي اجتماعي : يجسده السلطان و جهازه المخزني + الفقهاء و أنماط من علماء الدنيا و زخرفها
- غول داخلي نفسي : تمثله النفس الأمارة بالسوء ، اللوامة و نقيضها : النفس المطمئنة .
نرى أنه سيكون مفيدا الوقوف قليلا عند الغول / السبع كمصدر نكد و تنغيص في حياة المغربي .
تتحفنا المصادر المغربية بمعلومات كافية عن هذا الحيوان و علاقاته المتوترة بالساكنة القروية خاصة منها تلك التي تناولت العصرين الموحدي و المريني– الوطاسي . الأسد كان حاضرا بشكل ملفت بالمغرب ، من بسيط أنكاد شرقا عند ملوية و نواحي مليلية و منها إلى نهر سبو و بلاد الهبط و أزغار و نواحي طنجة و مكناس و سهل سايس و فاس و جبال الأطلس و مناطق عدة من الجنوب . يشير الحسن الوزان - من الفترة الوطاسية - أن أشرس أسود المغرب هي تلك المتواجدة على ضفاف سبو قرب المعمورة .
ازدهرت بالمغرب مع المرينيين عادة إقامة حفل فرجة يبارز فيها السبع الثور بعد أن كان الاهتمام بالأسود مقتصرا، مع الموحدين ، على ترويضها لاتخاذها حيوانات زينة بقصور الخلفاء . و قد أدى هذا الميل نحو السبع إلى بروز ظاهرة ثقافية- فكرية تحول فيه ملك الغابة إلى رمز معنوي للقوة و السيطرة استعمله المتصوفة الأولياء لتأكيد قدراتهم الخارقة- التي مكنتهم منها المشيئة الإلهية كهبة - لرحمة و إغاثة العباد . تميز، في البداية ، الولي أبو يعزى يلنور( المعروف بسيدي بوعزة) بقدراته و كراماته في مجال ترويض الأسود و التحكم فيها و تسخيرها . إلا أن الأمور تطورت من بعده إلى الكلام عن قدرة فهم الولي للغة هذا الحيوان بل و كذلك إلى اكتساب القدرة على التحول جسديا إلى صورة السبع ( مثال الولي الحاج حسون المدفون قرب باديس ) و مع وصول انتشار كرامات الأولياء حدها الأقصى ظهر الحديث عن قدرة الأولياء على استخدام السباع في مجال استتباب الأمن و حراسة البساتين و رعي و حراسة قطعان الماشية بل و حتى في أعمال حراثة الأرض و تكسير الخشب و جمع وحمل الحطب و القيام بكل ما هو من اختصاص الحمار و البغل .
أما عن أسباب إعجاب المغاربة بالأسد واحترامهم له ، فيجدر بنا ملاحظة أن الإنسانية – التي عرفت الحيوان عن قرب – كلها تتفق على إعلان نفس الاحترام و الرهبة أمامه ..ذلك يعود لمزايا عديدة منها شكله المهيب و الجذاب ، سطوته داخل الغابة و عالم الحيوانات إذ لا أحد يصمد أمام زمجرته ، تعففه و تعاليه عن أكل الجيف ، إقدامه و عدم خشيته من أحد ، ثباته أمام أي عدو وقتاله حتى النهاية و دون استسلام أبدا . و أخيرا، و هو السبب الأهم ، كونه صاحب القسمة الأفضل و الأكبر . الفلاح البسيط في المغرب كان يقدم المثال التالي عند شكواه من مصير سنة كاملة من تعبه وشقائه، مقسما إياها كالتالي : قسمتين له ،قسمتين للسلطان مقابل 8 أقسام ينفرد بها السبع وحده . في لاوعي و مخيال المغربي كان السلطان الأكبر والحاكم الفعلي للبلاد هو السبع . فقد كان يمثل، في مخيال المغاربة ، صورة الغول و السلطان و قد يتجلى لهم أحيانا في شكل ولي صالح ينفذ مشيئة إلهية غير قابلة للفهم أو الرد بل تتطلب " التسليم" و الإيمان بالقضاء و القدر.
جولة سريعة بين مجموعة الأمثال الرائجة إلى يومنا عن السبع تمكن من تكوين صورة عن الشهرة الواسعة و الكاريزما التي حظي بها في قلوب و ذاكرة المغارة :
- كن سباع و كولني ، لا تكن قط و تقمشني
- إذا غابوا السبوعا ، كيظهروا الضبوعا .
- إذا شفت الكلب بالمتاع ، قل لو أهلا بسيدي السباع .
- شكون يقدر يقول للسبع فمو خانز .
- كن سباع يخافوك الناس ، كن خروف ياكلوك الذياب .
- الحمية غلبت السبع .
رأيت أنه سيكون مفيدا إغناء الحديث عن السبع بوقفة عند كاتب " سبع سنوات في إفريقيا " للرحالة البرتغالي بيدرو سوزا Pedro Sousa الذي حل بمدينة تطوان أشهرا قبل احتلالها من قبل قوات الجنرال O’Donnell الإسبانية سنة 1860م ووصفه لخرجة في جبالها قصد قنص فهد عاث فسادا بإحدى القرى القريبة . ثم ينتقل إلى تلمسان و مناطق عدة في القطر الجزائري الذي كان يومئذ قد احتل من طرف فرنسا . و من المناطق الوسطى بالجزائر يصف بتفصيل دقيق مختلف طرق الإيقاع بالسبع أردنا ذكرها لطرافتها باختصار شديد .
يذكر الرحالة ثلاث طرق معتمدة : 1) طريقة الزوبية أو الحفرة العميقة . 2) طريقة "الملبدة" أو الكمين . 3) طريقة الإفزاع و الترويع بالصياح و هي طريقة تتميز بها على الخصوص قبيلة تونسية .
تتلخص الأولى في جذب السبع إلى حفرة عميقة (10 أمتار) قرب زريبة ماشية تقوم بدور الطعم له ليقع فيها . بينما تتم الثانية بنصب كمين على ممر يسلكه السبع عادة حيث يختفي القناصة داخل خندق يحفر لهذا الغرض و يموه بجذوع و أغصان الأشجار. من داخل حفرة الخندق المحفور يتم ترصده عبر فتحات بين هذه الجذور و رميه بالبنادق حينما يقبل لافتراس كبش أو حمار يوضع له كطعم . أحيانا يقام الكمين فوق الأشجار حيث يصعد القناصة لانتظار حضوره في صمت . الطريقة الثالثة تقوم على إرغام السبع على الخروج من عرينه نهارا إثر الجلبة و الصراخ بأعلى صوت ثم إطلاق نار البنادق عليه من مكان عال و محصن، كالصخور العالية و الأشجار الباسقة .
و يبدو مما يذكره الرحالة ، أن طريقة الزوبية هي الطريقة البدائية الأولى التي استخدمتها ساكنة الشمال الإفريقي لكونها لا تعتمد البنادق كأسلحة نارية لم تكن قد ظهرت بالمنطقة بعد . إلا أن للطريقة الثالثة القائمة على الصياح و الصراخ و الجلبة بعض جوانب الشبه مع طريقة مواجهة الفلاح البسيط للغول في فسحات و أحراج الغابة القريبة من نبع الماء .
ما هي انعكاسات أوضاع الفوضى الاجتماعية و حضور الغيلان في حياة الفلاح البسيط و غيره من بسطاء مجتمع عصره من الحرفيين و التجار الصغار والباعة و باقي الشرائح الدنيا و ما هي الحلول الاستعجالية المقترحة للخروج من الوضع الصعب ؟
مر بنا أن المغربي اكتشف بهلع و حسرة أن أعداءه الضعفاء بالأمس لم يعودوا كما كانوا و عض أصابع الندم على ما فاته من فرص لبناء الشوكة و القوة . و ما زاد طين إحباطه بلة ، ملاحظته أن الأمور لا تزداد مع الأيام إلا تدهورا . وقد أثبتت الدراسات الأنتروبولوجية و السوسيولوجية ، في مختلف المجتمعات و الأوساط ، أن كل بيئة تسودها الفوضى و العنف و غياب الأمن على الذات و الأهل و الممتلكات لا يمكنها أن تنتج إلا ظواهر اجتماعية سلبية كاللصوصية ، الإجرام ، انتشار الشعوذة و الاحتيال ، تدني المستوى التعليمي ، الفقر، البطالة ... و كلها ظواهر تدخل الشعوب في دوامة و دائرة مفرغة يصعب الخروج منها ، خاصة أذا تواجد غول خارجي متربص يتحالف مع الغيلان الداخلية . الكلام هنا هو بالأساس عن مكائد غيلان البشر ، أما الغول/السبع ،الحيوان ، فلم يعد بإمكانه ،اليوم ، إلا لعب دور الغول/الفرجة خلف قضبان حدائق الحيوان.
عموما يمكن القول أن مناخ حكاية الفلاح البسيط ساده :
- إحساس عام و مكين بالخوف و القلق .
- شعور عميق بالذنب مع الاعتقاد بالتعرض للغضب الإلهي .
- انتشار فكرة اقتراب الساعة و يوم الحساب الأخير ، مقولة "آخر الزمان".
- ترقب ظهور المهدي المنتظر و انتشار الفكر المهدوي ( ابن محلي ، العباس الغماري ، الهادي الماسي ، ابن الفرس"القحطاني" ... )
- التضرع بالأولياء و أضرحتهم و الاستشفاء بتراب قبورهم و طلب حماية الصالحين .
- ظهور أدعياء القدرة على إصلاح أحوال الناس و المجتمع مع حضور لافت لظاهرة الزوايا .
- ذيوع الخرافة و الشعوذة و الإيمان بالعين و شيوع فكرة الإنسان العائن أو البعاج الذي يملك قدرة الإضرار و الإصابة بعينه ( مثال الولي أبي داود مزاحم الذي ، حسب ما يذكره البادسي في كتابه "المقصد الشريف" ، " لا يرى أحدا يفعل معصية كبيرة أو صغيرة إلا وهلك ."
لكن ، وسط هذه الأجواء المحمومة ، لم تنعدم المبادرات الجادة و العملية لمواجهة الأوضاع و محاولة إنقاذ البلاد ؛ منها مثلا ، لا حصرا ، دور الوطاسيين الملحوظ لولا اتساع الفتق و صعوبة الرتق . محاولة الحسن الوزان تدخل في هذا النطاق . فبعد هزيمة محمد الشيخ الوطاسي و سوء حظه أمام البرتغاليين ، وقد كان قاب قوسين أو أدنى من الانتصار عليهم سنة 1515م على أبواب أصيلا ، أرسل صاحب كتاب "وصف إفريقيا " الذي كان حاضرا في المعركة إلى مماليك مصر في مهمة طلب المساعدة . لكنه عند وصوله وجد أن سليم الأول العثماني قد غزا القطر المصري
 
Taha Ali

Taha Ali

عضو جديد
عـضـو
النشاط: 4%
جميل البحث والتنقيب عن التراث نحن تربينا على القصص وتناولتها الأجيال جيل بعد جيل
يجب عليك تسجيل الدخول أو حساب جديد لمشاهدة المحتوى
 
تعليق
أعلى