قف نبك من ذكرى بيرم
عام 1961 كنت طالباً بمدرسة روض الفرج الثانوية عندما طلبت من الشاعر والصحفى الراحل عبدالسلام شهاب وكان من أصدقاء والدى المقربين..
أن يتوسط لى لمقابلة بيرم التونسى لكى أتمكن من إجراء حوار صحفى معه
لنشره فى مجلة «الجرس» التى تصدرها جماعة الصحافة بالمدرسة باعتبارى رئيساً
لتحريرها ومن حسن الحظ أن بيرم التونسى وافق وينبغى - كما حدد - أن ألتقى
به فى العاشرة صباحاً على مقهى اعتاد الجلوس عليه فى شارع السد بالسيدة
زينب!..
ركبت الترام من شبرا، حيث أسكن مستخدما طريقة «الشعبطة» على
السلم والقفز أحيانا مثل قرد فى جبلاية القرود من عربة إلى أخرى كلما
اقترب الكمسارى، وهى بالخبرة تعتبر أنجح طرق الوصول إلى الحى الذى نقصده
طالما أننا لا نملك ثمن التذكرة.. رحم الله «قرداً» عرف قدر جيبه!..
بالمصادفة
عندما وصلت إلى السيدة زينب وقبل تكملة الطريق للمقهى فى منتصف شارع السد
وقعت عليه عيناى وكان بيرم التونسى ساعتها يقف أمام أحد الباعة الجائلين
يتسوق متطلبات البيت من خضار وفاكهة وقد يتساءل البعض ولماذا وهو الملقب
بـ«فنان الشعب» لم يرسل «الخادم» أو «البواب» باعتبار أن كلاً منهما فرد من
أفراد الشعب الذى هو فنانه ليشترى الفاكهة أو الخضار بدلاً منه؟!.. وأقول
لكم عندما سألت صديقه الشاعر عبدالسلام شهاب عن ذلك، قال لى إنها هوايته بل
«مزاج» عنده أن يقف أمام البائع ينتقى ويختار بل ويستفسر عن أسعار ما
ينتقيه.. بنت المجنونة بكام النهاردة؟! مستفسراً عن سعر الطماطم!..
و«المقمعة» بنت الجزمة غالية بالشكل ده إزاي؟! مندهشا من سعر البامية!..
والبطاطس بتلاتة تعريفة من البائع اللى قبلك وليست بقرشين يا حرامى!.. ولو
لم افاجئه لكى أقدم له نفسى ساعتها لما توقف فى الفصال عن بقية سعر ما هو
موجود عند البائع من أصناف أخرى فاصوليا وقلقاس، وحرنكش وخلافه!
حضرتى
فؤاد معوض رئيس تحرير مجلة «الجرس» قلتها مزهواً بنفسى رافعاً رأسى فى
شموخ كما شموخ محمد التابعى ومصطفى وعلى أمين اثناء مقابلاتهم مع وزراء
ومفكرين!.. والممثلة «بسمة» عند لقائها بعمر حمزاوى!
كان المفروض من
بيرم التونسى بعد أن قدمت له نفسى أن يهلل فرحاً لاستقبالى والمفروض يمد
يده بالسلام، وهى فروض متعارف عليها عند استقبالك الضيف، ولكن ما حدث كان
العكس تماماً فعندما نظرت إليه أتأمله كان وجهه جامداً ليس به أثر للاحترام
ولا أثر للاهتمام منشغلاً عنى بإخراج «محفظته» ليأخذ منها بعض النقود
يمنحها للبائع!..
أما بعد ذلك وما حدث فلا شك أنه الإهانة الكبرى
للمقام العالى - مقام رئيس التحرير - وبيرم التونسى يطيل أصبعه مشيراً إلى
شخصى وهو يقول: شيل القفص ده لغاية القهوة يا رئيس التحرير!.. بما كان فى
القفص من ملوخية وطرشى وجبنة قريش وفجل وجرجير وبلح أمهات وعيش بلدى من فرن
الرمالى!..
اندهشت فليس هذا بيرم التونسى الذى كثيرا ما سمعت عن
بساطته وتواضع أخلاقه وأدبه الجم، حتى أفاجأ بأنه يعاملنى مثل «شيال» خضار
يعمل فى سوق روض الفرج!..
بصراحة - وعلى رأى أساتذة اللغة العربية -
أسقط فى يدى.. ارتبكت وتصبب عرقى بغزارة وضربت فى نافوخى أن تكون المعاملة
بالمثل أو كما يقولون «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه
الدم» فما المانع من الدفاع عن شرف كرامتى التى أهينت ولو بقبضة يد موجهة
إلى الفم الذى نطق بكلمة «شيل القفص ده يا واد» وإذا لم نستطع الضرب فلا
مانع من توجيه الشتيمة بأقذع الألفاظ ومن بعدها الجرى هربا من أمامه!..
تراجعت
عما كنت انتوى فعله فالرجل من ناحية السن فى مقام الوالد أو الخال إلى
جانب مقام أكبر فهو «المعلم» و«المناضل» ليس هذا من عندى ولكن كثيرين من
أساتذة ونقاد زمانه هم من منحوه اللقب نظراً لاهتمامه بقضايا المجتمع وكشفه
للتناقض الحاد بين طبقات المجتمع وانحيازه الدائم لمناصرة الغلابة
والفقراء ومنهم الحفاة الذين لم تدخل أقدامهم فى أحذية قط والجوعى الذين لم
يتذوقوا طعم اللحمة إلا مرة كل عيد.. إلى جانب محاربته الفساد والنهب
العام والمحسوبية الذى كتب عنها يقول «الواسطة لسه شغالة يا رجالة..
والحالة هى الحالة فى كل زمان.. تشغلك وأنت فراش كاتب بمعاش.. وتدخلك
للسيما بلاش ويا الإخوان.. إيه إللى خللى الملعونة.. تصبح فينا شريعة.. فوق
شرع نبينا شرع القرآن»؟!..
أكثر من ساعة كاملة وبيرم التونسى بعد
أن وصلنا المقهى كنت قد أنزلت القفص من على كتفى إلى منضدة بجواره.. وهو
يستمع إلى أسئلتى فى اهتمام شديد والإجابة عنها بكل جرأة وصراحة ولولا ضيق
مجال هذه المساحة لنشرت الحوار بالكامل ولزدنا تفصيلا بالقعدة التى شاركنا
فيها أحد أفراد شلته الصحفى الراحل عبدالفتاح غبن - والد المخرج والممثل
هناء عبدالفتاح، وايضا والد زوجة الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى -
وبما حدث يومها من أحداث وما قيل من نوادر وقفشات وزجل كتبه ساعتها اختصنى
به لنشره مع الحوار على صفحات «الجرس» يقول فيه رأيه عن جرائد تلك الأيام
«أربع جرائد أقوم الصبح أقراها.. طمست بصيرتى وضاع العقل وياها.. الأوله
حشوها تشليق وسفاهه.. والثانية توضيب وطباعة ووجاهة.. والثالثة تقول عن
أرتيست محلاها.. والرابعة بتحط فيها 600 عاهة.. أهى جرايد من القوت
أشتريناها.. ولما زاد الورق بـ «الكيلو» بعناها»!..
فعلا معلم
ومناضل يستحق أن نتذكره بمناسبة مرور خمسين عاما على رحيله تلك المناسبة
التى أقاموا له فيها احتفالية كبرى - الأسبوع الماضى - بمعرض الكتاب وصادف
وجودى ساعتها أن كنت واقفا أمام باب المقهى الذى التقيت فيه من قبل بعمنا
بيرم التونسى..
متذكراً إحدى أزجاله كان قد قالها فى مناسبة تشبه
المناسبة .. سألت شمروخ أستاذى الولى.. فقالوا بأن الشيخ منزله خلى.. وسار
إلى شبرا وحمل عفشه.. على ظهر جدى ذى ثلاث أرجل.. فقلت لقردى والحمار الذى
معى.. قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل!..
الله يرحم الاثنين معاً.. الرجل وأعماله الإبداعية فى كل ما كتبه.. فالرحمة كما يقولون تجوز على الميت والحى!..
الميت بيرم التونسى..
والحى أعماله التى أدعو لها بالعمر المديد!..
عام 1961 كنت طالباً بمدرسة روض الفرج الثانوية عندما طلبت من الشاعر والصحفى الراحل عبدالسلام شهاب وكان من أصدقاء والدى المقربين..
أن يتوسط لى لمقابلة بيرم التونسى لكى أتمكن من إجراء حوار صحفى معه
لنشره فى مجلة «الجرس» التى تصدرها جماعة الصحافة بالمدرسة باعتبارى رئيساً
لتحريرها ومن حسن الحظ أن بيرم التونسى وافق وينبغى - كما حدد - أن ألتقى
به فى العاشرة صباحاً على مقهى اعتاد الجلوس عليه فى شارع السد بالسيدة
زينب!..
ركبت الترام من شبرا، حيث أسكن مستخدما طريقة «الشعبطة» على
السلم والقفز أحيانا مثل قرد فى جبلاية القرود من عربة إلى أخرى كلما
اقترب الكمسارى، وهى بالخبرة تعتبر أنجح طرق الوصول إلى الحى الذى نقصده
طالما أننا لا نملك ثمن التذكرة.. رحم الله «قرداً» عرف قدر جيبه!..
بالمصادفة
عندما وصلت إلى السيدة زينب وقبل تكملة الطريق للمقهى فى منتصف شارع السد
وقعت عليه عيناى وكان بيرم التونسى ساعتها يقف أمام أحد الباعة الجائلين
يتسوق متطلبات البيت من خضار وفاكهة وقد يتساءل البعض ولماذا وهو الملقب
بـ«فنان الشعب» لم يرسل «الخادم» أو «البواب» باعتبار أن كلاً منهما فرد من
أفراد الشعب الذى هو فنانه ليشترى الفاكهة أو الخضار بدلاً منه؟!.. وأقول
لكم عندما سألت صديقه الشاعر عبدالسلام شهاب عن ذلك، قال لى إنها هوايته بل
«مزاج» عنده أن يقف أمام البائع ينتقى ويختار بل ويستفسر عن أسعار ما
ينتقيه.. بنت المجنونة بكام النهاردة؟! مستفسراً عن سعر الطماطم!..
و«المقمعة» بنت الجزمة غالية بالشكل ده إزاي؟! مندهشا من سعر البامية!..
والبطاطس بتلاتة تعريفة من البائع اللى قبلك وليست بقرشين يا حرامى!.. ولو
لم افاجئه لكى أقدم له نفسى ساعتها لما توقف فى الفصال عن بقية سعر ما هو
موجود عند البائع من أصناف أخرى فاصوليا وقلقاس، وحرنكش وخلافه!
حضرتى
فؤاد معوض رئيس تحرير مجلة «الجرس» قلتها مزهواً بنفسى رافعاً رأسى فى
شموخ كما شموخ محمد التابعى ومصطفى وعلى أمين اثناء مقابلاتهم مع وزراء
ومفكرين!.. والممثلة «بسمة» عند لقائها بعمر حمزاوى!
كان المفروض من
بيرم التونسى بعد أن قدمت له نفسى أن يهلل فرحاً لاستقبالى والمفروض يمد
يده بالسلام، وهى فروض متعارف عليها عند استقبالك الضيف، ولكن ما حدث كان
العكس تماماً فعندما نظرت إليه أتأمله كان وجهه جامداً ليس به أثر للاحترام
ولا أثر للاهتمام منشغلاً عنى بإخراج «محفظته» ليأخذ منها بعض النقود
يمنحها للبائع!..
أما بعد ذلك وما حدث فلا شك أنه الإهانة الكبرى
للمقام العالى - مقام رئيس التحرير - وبيرم التونسى يطيل أصبعه مشيراً إلى
شخصى وهو يقول: شيل القفص ده لغاية القهوة يا رئيس التحرير!.. بما كان فى
القفص من ملوخية وطرشى وجبنة قريش وفجل وجرجير وبلح أمهات وعيش بلدى من فرن
الرمالى!..
اندهشت فليس هذا بيرم التونسى الذى كثيرا ما سمعت عن
بساطته وتواضع أخلاقه وأدبه الجم، حتى أفاجأ بأنه يعاملنى مثل «شيال» خضار
يعمل فى سوق روض الفرج!..
بصراحة - وعلى رأى أساتذة اللغة العربية -
أسقط فى يدى.. ارتبكت وتصبب عرقى بغزارة وضربت فى نافوخى أن تكون المعاملة
بالمثل أو كما يقولون «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه
الدم» فما المانع من الدفاع عن شرف كرامتى التى أهينت ولو بقبضة يد موجهة
إلى الفم الذى نطق بكلمة «شيل القفص ده يا واد» وإذا لم نستطع الضرب فلا
مانع من توجيه الشتيمة بأقذع الألفاظ ومن بعدها الجرى هربا من أمامه!..
تراجعت
عما كنت انتوى فعله فالرجل من ناحية السن فى مقام الوالد أو الخال إلى
جانب مقام أكبر فهو «المعلم» و«المناضل» ليس هذا من عندى ولكن كثيرين من
أساتذة ونقاد زمانه هم من منحوه اللقب نظراً لاهتمامه بقضايا المجتمع وكشفه
للتناقض الحاد بين طبقات المجتمع وانحيازه الدائم لمناصرة الغلابة
والفقراء ومنهم الحفاة الذين لم تدخل أقدامهم فى أحذية قط والجوعى الذين لم
يتذوقوا طعم اللحمة إلا مرة كل عيد.. إلى جانب محاربته الفساد والنهب
العام والمحسوبية الذى كتب عنها يقول «الواسطة لسه شغالة يا رجالة..
والحالة هى الحالة فى كل زمان.. تشغلك وأنت فراش كاتب بمعاش.. وتدخلك
للسيما بلاش ويا الإخوان.. إيه إللى خللى الملعونة.. تصبح فينا شريعة.. فوق
شرع نبينا شرع القرآن»؟!..
أكثر من ساعة كاملة وبيرم التونسى بعد
أن وصلنا المقهى كنت قد أنزلت القفص من على كتفى إلى منضدة بجواره.. وهو
يستمع إلى أسئلتى فى اهتمام شديد والإجابة عنها بكل جرأة وصراحة ولولا ضيق
مجال هذه المساحة لنشرت الحوار بالكامل ولزدنا تفصيلا بالقعدة التى شاركنا
فيها أحد أفراد شلته الصحفى الراحل عبدالفتاح غبن - والد المخرج والممثل
هناء عبدالفتاح، وايضا والد زوجة الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى -
وبما حدث يومها من أحداث وما قيل من نوادر وقفشات وزجل كتبه ساعتها اختصنى
به لنشره مع الحوار على صفحات «الجرس» يقول فيه رأيه عن جرائد تلك الأيام
«أربع جرائد أقوم الصبح أقراها.. طمست بصيرتى وضاع العقل وياها.. الأوله
حشوها تشليق وسفاهه.. والثانية توضيب وطباعة ووجاهة.. والثالثة تقول عن
أرتيست محلاها.. والرابعة بتحط فيها 600 عاهة.. أهى جرايد من القوت
أشتريناها.. ولما زاد الورق بـ «الكيلو» بعناها»!..
فعلا معلم
ومناضل يستحق أن نتذكره بمناسبة مرور خمسين عاما على رحيله تلك المناسبة
التى أقاموا له فيها احتفالية كبرى - الأسبوع الماضى - بمعرض الكتاب وصادف
وجودى ساعتها أن كنت واقفا أمام باب المقهى الذى التقيت فيه من قبل بعمنا
بيرم التونسى..
متذكراً إحدى أزجاله كان قد قالها فى مناسبة تشبه
المناسبة .. سألت شمروخ أستاذى الولى.. فقالوا بأن الشيخ منزله خلى.. وسار
إلى شبرا وحمل عفشه.. على ظهر جدى ذى ثلاث أرجل.. فقلت لقردى والحمار الذى
معى.. قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل!..
الله يرحم الاثنين معاً.. الرجل وأعماله الإبداعية فى كل ما كتبه.. فالرحمة كما يقولون تجوز على الميت والحى!..
الميت بيرم التونسى..
والحى أعماله التى أدعو لها بالعمر المديد!..