- التعديل الأخير بواسطة المشرف:
- المشاهدات: 108
- الردود: 1
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
قصص إدجار آلن بو -1-
******************
كان يوماً غائمًا مظلمًا كئيبًا من أيام الخريف، كنت أرحل وحيداً علي ظهر حصاني في تلك البقعة الموحشة من الريف، اقترب المساء، فجأة وجدت نفسي أمام ذلك البيت الرهيب ...
داخلني شعور كاسح من الانقباض والخوف والتوجس لمجرد رؤية المنزل الذي كنت أعرف صاحبه جيداً، توقفت بتوجس شعر به حصاني الذي أمتطي صهوته، نظرت إلي المشهد حولي، تلك المساحات الواسعة من الأراضي التي كان من المفترض أن تكون خضراء مثل أي أرض زراعية أخرى ولكنها ويا للعجب... جدباء!
تنبت فيها نباتات قليلة ضارة وأعشاب شكلها مخيف بينما ترتفع جذوع الأشجار الجافة بلا أوراق تغطيها رمادية اللون كئيبة المنظر وكأنها آلاف الأشباح تحيط بالمنزل..
بينما المنزل نفسه كان قديمًا، أسطوريًا، يربض هناك علي مقربة مني وكأنه كيان غامض قادم من أزمنة موغلة في القدم، نوافذه المفتوحة تشبه الأعين الخاوية الميتة ...
أثار المشهد كله في قلبي اكتئاب لا مثيل له ورغم ذلك فقد اقتربت بجوادي، وجهته نحو بركة سوداء شنيعة تومض وميضًا هادئًا بالقرب من المنزل.
نظرت إلي بركة المياه التي عكست صورة القصر وما حوله ولكن كلها كانت بلون رمادي زادها كآبة ورهبة.
سقط قلبي بين قدمي رعبًا من المشهد كله، ومع ذلك فقد انتويت أن أقيم في هذا القصر الكئيب عدة أسابيع.
إن صاحبه وقاطنه الآن رودريك آشر، كان واحداً من رفاق صباي، ولكن مرت سنوات طويلة دون أن أراه.
في الواقع لقد حضرت إلي هنا بعد أن وصلتني رسالته الملحة إلحاحًا كبيراً في الحضور، كنت في الجانب الأقصى من البلاد ورغم ذلك لم أتردد في ذلك.
فقد دلت الرسالة علي حالة صاحبها ومعاناته الفظيعة.
لقد تحدث آشر في تلك الرسالة عن مرض جسدي حاد أقعده واضطراب عقلي أغمه آملًا أن تكون زيارتي له- بصفتي كنت أقرب صديق إليه- سبباً في تخفيف وطأة الألم عنه.
وعلي الرغم من أننا كنا رفيقين في صبانا فقد كنت أعرف عنه أقل القليل، لقد بالغ آشر بشدة في إخفاء كل معلومة عنه وكان متحفظًا بشدة في الحديث عن عائلته ومع ذلك كنت أعرف أن عائلته عريقة تشتهر بحساسية خاصة في المزاج.
كما أنها انهمكت في الفترة الأخيرة في أعمال الخير السخية وإن كانت خفية.
كانت العائلة كلها عبارة عن سلسلة نسب واحد تنحدر من أصل واحد
دارت في رأسي العديد من الأفكار السلبية في أغلبها وأنا أرى انعكاس القصر وأشباح الأشجار في المياه الراكدة، إلا أني عندما رفعت رأسي انتابني إحساس غامض غريب.
إن هذا القصر والأراضي المحيطة به والتي تخص عائلة آشر كلها محاطة بأثير ما ...
غلالة من الأثير لا علاقة لها بهواء السماء بل هي عبارة عن بخار يخرج من الأشجار المتعفنة الجذوع وبركة المياه السوداء الآسنة، بخار مهلك غامض بليد راكد رمادي اللون بالكاد يمكن تمييزه.
وفي لحظة نفضت عن عقلي كل ما اعتبرته أوهام وخيالات وتقدمت بجوادي ملتمسًا بوابة القصر.
كنت أحاول أن أتمسك بأقصى درجات الشجاعة، نظرت أتفحص المنزل عن قرب..
كان يبدو قديما قدم الدهر نفسه، انتشرت فطريات علي واجهته متدلية من الإفريز، ورغم قدم القصر فلا يبدو عليه أي علامة من علامات قرب الانهيار، دخلت إلي القصر وهناك وجدت خادما ينتظرني .
أخذ فرسي ثم أدخلني إلي قاعة قوطية المعالم، ثم اقتادني في صمت دون أن يتفوه بكلمة عبر ممرات مظلمة معقدة.
كان الكثير مما قابلني أثناء سيري خلف الخادم قد أدى الي مشاعر كئيبة مخيفة انتابني منذ أن وطأت قدمي أراضي آل آشر،
من رموز نقشت علي جدران القصر إلى تلك الأرضية السوداء سواد الأبنوس إلي الصور التي وضعت بطريقة منظمة علي جدران القصر ،كل تلك الأشياء أثارت في خيالات غريبة وأفكار ساهمت في زيادة رهبتي من الموقف كله.
وعلي درجة من درجات السلم قابلت طبيب العائلة الذي حياني وقد اكتست ملامحه بمزيج من الحيرة والمكر، حينئذٍ فتح الخادم بابًا وقادني إلي مجلس سيده.
كانت الحجرة التي وجدت نفسي فيها ضخمة جداً ومن خلال نوافذ ضيقة طويلة جدًا دخلت أشعة ضوء ضعيفة بالكاد جعلتني أميز مكونات الغرفة وأثاثها البالي وتلك الستائر البالية اللون الكئيبة المنظر التي وجدت علي الحائط ،
بينما تناثر عدد من الكتب والآلات الموسيقية في كل مكان ولكنها فشلت أن تضفي أي حيوية علي المشهد الحزين.
لقد شعرت أني أتنفس في جو من الحزن الشديد خيم علي الحجرة
ظللت أتجول بعيني في الغرفة لحظات حتي اصطدم بصري به هو ..
رودريك آشر.
نهض آشر من مكانه حيث كان متكئًا علي أريكة، وفي جهد متكلف من رجل في مثل حالته الصحية، حياني بمودة بالغة ثم جلس، لفنا الصمت برهة، اختلست إليه نظرات تحمل مزيج من الشفقة والرهبة.
أوه يا إلهي!
كم تغير صديق صباي في فترة زمنية قصيرة تغيرًا مذهلًا، غير أن ملامح وجهه كانت دائماً مميزة، بشرة شديدة الشحوب، عينان واسعتان لامعتان، أنف مقوس عِبري.
غير أن التغير الهائل الذي طرأ علي الشخص الجالس أمامي الآن جعلني أشك للحظة أنه هو رفيقي القديم آشر.
لقد شحب لون الجلد بشدة، وأصبح للعينين بريق خارق كما نما شعره الحريري بلا عناية ولا تهذيب،
في النهاية كان للرجل مظهر شيطاني مرعب.
أخيراً قطع آشر الصمت وبدأ يتحدث ..
صعقني علي الفور أسلوبه المتناقض بشكل مذهل في الكلام، كَمْ هياج عصبي ونبرة عالية مخيفة إلى انطفاء وهدوء في النبرة، ومن نبرة يائسة محبطة مما ألم به إلى بعض الحماس والتفاؤل من وجودي.
لقد كان الرجل حقًا يمر بحالة نفسية لا يتحملها بشر.
تحدث عن هدف زيارتي وعن رغبته الشديدة في رؤيتي وعن السلوان الذي يتوقع أن أقدمه له.
ثم دخل في تفاصيل مرضه، قال إنه شر عائلي يتعلق ببنية العقل، لقد عانى كثيرًا من حدة مرضية في حواسه حتي أنه لا يحتمل أن يأكل إلا طعام خالي من الطعم، ولا يرتدي إلا ملابس من نسيح واحد، روائح الأزهار كلها قابضة لصدره وتشعره بالضيق، تتألم عيناه من أي ضوء حتي لو كان ضعيفًا، أما الأصوات أي أصوات- ماعدا أصوات الآلات الوترية فقط - تؤلم حواسه بشكل لا يحتمل.
قال لي:
" سوف أهلك. حتما سوف أهلك، أخشى من أحداث المستقبل ليس في حد ذاتها ولكن في نتائجها.
في حالتي هذه أشعر أنه يجب أن يأتي الوقت الذي اعتزل فيه الحياة، أنا في صراع مع شبح مقيت يدعى: "الخوف "
اكتشفت مع وجودي في القصر ملمحًا فريدًا عن حالة آشر، كان مكبلا بأفكار وانطباعات خرافية حول القصر الذي يقيم فيه،
أستطيع أن أتكهن أن القصر الكئيب المفزع والبِركة المعتمة والأشجار الشبحية والأراضي القاحلة المحيطة بالقصر قد انعكست تمامًا علي روحه فطبعتها بطابع شاذ غريب.
لهذا تجد آشر ملازم للقصر لم يغامر بمغادرته لسنوات طويلة.
عرفت أن جزء كبير من الغم الذي أصابه كان بسبب مرض أخته رفيقة روحه وآخر سلالة آل أشر معه, الليدي مادلين ..
وبينما كان يتحدث, مرت هي في جزء بعيد من الجناح ، فراشة رقيقة مريضة تمر دون حتي أن تلحظ وجودي مع أخيها.
كانت مريضة بشدة ..
هزال مستمر في الجسد، نوبات متقطعة من الاغماء، عجز الأطباء عن علاجها، ورغم ذلك لم تستسلم للرقود في الفراش.
قضيت أيام عديدة في المنزل مع صديقي آشر، محاولًا أن أخفف عنه عبء ما يقاسي،
رسمنا، قرأنا، كما عزف علي جيتار لساعات ظللت أسمعه، ولكن وللغرابة فإن كل ذلك لم ينجح في ابهاج روحه التي بدت وكأنها تشع ظلامًا وكآبة كافية لإغراق كل أشياء الكون المادية منها والمعنوية.
لن أستطيع أن أنسى أبدًا ذكرى ما اختبرت وعايشت مع صديقي آشر وفي منزله ذلك سواء من موسيقاه الحزينة الكئيبة التي سوف يتردد صداها في أذني للأبد،
أو تلك اللوحات الفنية التي تفتقر عنها خياله المعقد التي ارتجف رعبًا كلما تذكرتها.
ذات مرة جلست أسمعه يعزف علي الآلة الوحيدة التي لا تسبب له ألما سمعيًا... الجيتار،
كان منهمكاً في العزف وكأنه في عالم آخر ثم بدأ يلقي أبيات من الشعر تناغمًا ما يعزف من الموسيقى ...
*****************************************
في أكثر الوديان خضرة...
المسكون بالملائكة الطيبين ...
ارتفع إلى السماء قصر جميل ..
قصر فخم مشرق ...
في أراضي الملك .
رايات صفراء، ذهبية، رائعة ..
رفرفت علي سطحه في الهواء ..
نسمة رقيقة هبت ...
في ذلك اليوم الجميل ..
رائحة عبقة ملأت المكان .
السائرون في ذلك الواد السعيد رأوه ..
ولي العهد يجلس في وضع يلائم مجده ..
باللؤلؤ والياقوت متوهجًا ..
كان باب القصر جميل ..
لكن المخلوقات الشريرة في أثواب الحزن ..
أغارت علي عرش الملك ..
آه ..فلنبكي قصة المُلك الزائل.
والمجد الذي دفنه الزمن.
والمسافرون الآن في ذلك الوادي..
يرون عبر النوافذ الحمراء ...
تلك الأشكال البشعة التي تتحرك علي نغمات نشاذ ..
ومن الباب يندفع حشد مهول لن يبتسم بعد الآن.
*******************************************
أدركت تمامًا عندما سمعت القصيدة إلي أي مدى وصل تأثر أشر بالمحيط به.
حتي الكتب التي كنا نطالعها كانت تنسجم تمامًا مع خياله، كان من تلك الكتب:
"الجنة والجحيم" سويدنبورج .
" كشف المصير" روبرت فلود
"رحلة إلي المسافة الزرقاء" تيك.
" مدينة الشمس" كامبانيلا.
"تعليمات إلي الرهبان الذين يستجوبون الهراطقة" أمريك دي جيرون.
كان أشر يجلس حالمًا لساعات بعد قراءتها.
أما العمل الأساسي الذي يثير فيه البهجة كان قراءة كتاب نادر جدًا جدًا وغريب كتب بحروف قوطية بعنوان:
" حراسة الموتى طبقًا لجوقة كنيسة مانز "
كان تأثير هذا الكتاب غريباً علي مزاجه، ذات مساء وبعد قراءة أجزاء منه وجدت أشر يسير إلي قائلًا إنه أصبح الوحيد المتبقي من عائلة آشر ولم يعد هناك وجود لليدي مادلين.
اجتاحتني موجة كاسحة من الحزن والألم و فهمت ما يقصد,
ولكن ما قاله بعد ذلك جعل قلبي يسقط بين قدمي رعبًا.
أخبرني آشر أنه أصبح الآن آخر سلالة عائلة أشر، لم يعد ثمة وجود لليدي (مادلين) بعد الآن،
موجة كاسحة من الحزن اكتسحتني، تلاها موجة من الدهشة العارمة تحولت علي الفور إلي رعب من تفكير الرجل.
لقد قرر أن يحتفظ بجثتها لمدة أسبوعين قبل أن يدفنها الأخير في قبو من الأقبية العديدة داخل حوائط المبني ...
لم أستطع معارضته في تصرفه الشاذ هذا.
عاونته علي دفن الجسد بعد أن كفَّنه، حملناه إلي قبو في أسفل القصر، يبدو أنه لم يفتح منذ عشرات السنوات،
كان القبو صغيرًا، رطبًا، يخلو تماماً من أي وسيلة أو منفذ إضاءة والأهم أنه كان يوجد مباشرة أسفل غرفة نومي في القصر،
وضعنا التابوت في القبو الرهيب، وقام آشر بزحزحة غطائه ليلقي نظرة أخيرة علي وجه أخته، نظرت بدوري إلى وجه الليدي الميتة وسرت في جسدي قشعريرة, لقد كانت الليدي نسخة مطابقة لأخيها في الشبه, بالإضافة إلى أن المرض الذي أدى إلى موتها ترك علي وجهها علامات مرعبة.
عُدنا إلي غرفنا في القصر، انقضت أيام من الحزن المرير، أعقبها تغيرات في الاختلال العقلي الذي كان صديقي مصابًا به.
فقد أهمل اهتماماته العادية من قراءة إلى رسم إلي موسيقي، وأصبح يتجول في غرفات القصر بخطوات واسعة وبلا هدف، بينما اكتست ملامحه بشحوب غير عادي،
شحوب الموت ...
تلاشي بريق عينيه تماماً، كما أن صوته القوي الذي ينفذ إلي أعماق محدثه قد أصبح مرتجفًا، وكأنما آشر يحمل شر ما, يسبب له خوف ورعب يعاني منه.
رأيته يحدق في الفراغ لساعات طويلة بأقصى درجات الانتباه وكأنه يصغي إلى صوت خيالي، لا يسمعه إلا هو.
لكن ما بدأت ألاحظه فيما بعد أن حالته تلك أرعبتني قد أثرت في.
شعرت أن روحه تغزو روحي وأن مخاوفه تنتقل تدريجيًا إلي.
وقد كان...
ففي الليلة الثامنة لدفن الليدي مادلين, حاولت أن أنام ولكن النوم جافاني تمامًا، تملكتني حالة من العصبية، جلست لساعات أتأمل أثاث الغرفة الكئيب، والستائر البالية التي تتلوى كالأشباح من تأثير نسمات هواء.
جلست في الفراش مفتوح العينين أصغي إلي صوت لا يسمعه أحد سواي، لا أعرف هل هو موجود في الواقع أم في عقلي فقط؟!
هيمنت رجفة لا تقاوم علي جسدي وجثم علي قلبي كابوس من الإنذار بالخطر، فتحت عيني لأقصى درجة أحدق في ظلام الغرفة وأصغيت السمع لأقصي درجة.
هنا سمعت أصوات مبهمة تأتيني متقطعة علي فترات زمنية، لا أعرف لها مصدرًا، هببت مسرعًا من مجلسي وارتديت ملابسي،
شعرت أنني يجب ألا أنام أثناء الليل، ظللت أتجول ذهابًا وإيابًا داخل الجناح،
فجأة تجمدت مكاني عندما سمعت صوت خطوات خفيفة علي السلم المجاور لغرفتي،
اقتربت الخطوات من الباب ثم طرق صاحبها طرقات خفيفة علي بابي، انتزعت نفسي من الرعب الذي أصابني وبحذر فتحت الباب لاصطدم بوجهه ..
كانت علامات الجنون التام بادية في نظرة عينيه، ورغم ذلك فقد رحبت بوجوده، دخل إلي الغرفة وبادرني قائلًا...
"وأنت لم تره؟ لم تره إذًا، لكن ..توقف ،لسوف تراه الآن "
ثم اتبع مقولته بأن أطفأ مصباحا كان في يده، ثم أسرع إلى إحدى النوافذ وفتحها علي مصرعيها للعاصفة.
دخلت العاصفة بعنف إلى الجناح حتي كانت ترفعنا من أماكننا من قوة الرياح،
كانت ليلة من تلك الليالي التي يمتزج فيها الجمال بالرعب، حيث رياح عاصفة قوية جداً مع سحب كثيفة تجمعت فوق القصر حتي أخفت القمر والنجوم،
لم يكن هناك برق ولكن سحابة من بخار تومض في ضوء غير طبيعي خافت إلا أنه واضح للعين يحوط القصر كله.
اقتربت من آشر وأمسكت بيده أقوده بعيداً عن النافذة وأنا أقول بصوت قارب الصراخ:
"لا يجب أن تشاهد هذا! "
هذه الظواهر التي تربكك، ليست إلا ظاهرة كهربائية شائعة، ربما أن أصلها يرجع إلى الغاز المنبعث من البركة.
فلنغلق النافذة، إن الهواء في الخارج بارد جدًا وخطر علي صحتك،
ها هي رواية من الروايات المفضلة إليك، سأقرأها لك، وسوف تنقضي هذه الليلة المروعة ونحن نقرأ معًا"
قلت ذلك وأنا أرفع بيدي أمام وجهه إحدى رواياته الموجودة في غرفتي،
وبالفعل نجحت في تهدئته وجلس بينما جلست أقرأ له وصلت إلي جزء من القصة يقول:
"اثرلد الذي كان شجاعًا بالسليقة زادت شجاعته بسبب تأثير النبيذ الذي تجرعه، وكان راغبًا في لقاء الناسك الذي رفض مقابلته، رفع صولجانه دفعة واحدة وبضربات، صنع ثغرة في ألواح الباب الخشبية، ثم حطمه بعنف حتي أن ضجيج الخشب الجاف والمكتوم قد أزعج الغابة وتردد صداه عبرها"
عند هذه الجملة بالتحديد توقفت، لأنه هُيء لي أنني أسمع صوت قادم من بعيد أو من عميق من القصر ذاته يتماثل وصفه - وياللصدفة - مع تلك العبارة التي أنهيت للتو قراءتها .
حاولت أن أتجاهل ما أسمع أو اعتبره مجرد تهيؤات جالت بعقلي بسبب ذلك الجو المرعب المقبض الذي أعيشه الآن أو حتي أوعز سببه لتلك العاصفة العاتية في الخارج والتي تصطدم بقوة بنوافذ وأبواب القصر وتسبب أصواتا مخيفة.
ورغم كل ذلك لم أستطع أن أقنع نفسي بالمبررات الواهية التي سقتها، حاولت أن أعيد القراءة ولكني ولسبب لا أعرفه نظرت لأسفل،
بأرضية الجناح الذي أعيش به, وتذكرت ما الذي يوجد هناك في الأسفل في القبو في أعماق القصر تحت جناحي مباشرة ...
ورغم ذلك أكملت القراءة متجاهلًا ذلك الصوت الذي أسمعه ..
"لكن البطل أثرلد وفور أن حطم الباب ودخل، شعر بدهشة تلاها غضب عارم عندما لم يجد أثرًا للناسك وعوضًا عن ذلك وجد كائن رهيب ينتظره ...
تنين غاضب يقذف نيران ملتهبة من لسانه يقوم بحراسة قصر ذهبي، أرضيته من فضة.
رفع أثرلد صولجانه وهبط به بعنف بضربة قاصمة علي رأس التنين الذي أطلق صرخة مروعة اهتزت لها الجدران وسد أثرلد أذنيه من هولها، ثم سقط أرضًا بلا حراك "
توقفت مرة أخري بعد تلك الجملة، لكن هذه المرة كانت دهشتي أكبر ورعبي أعمق، لقد سمعت صوت صرخة خفيضة، طويلة، غير عادية أبدًا ، تأتي من مكان ما بعيد في القصر،
وصل رعبي لأقصى درجاته مع تلك الصدفة الثانية، ورغم ذلك كنت حريصًا علي عدم ذكر تلك الملاحظة حفاظًا علي أعصاب صديقي آشر الذي لم أكن متيقنًا من سماعه ما سمعت،
ورغم ذلك فقد لاحظت تبدلًا غريبا في سلوكه خلال الدقائق الأخيرة.
فمن مكانه الجالس فيه، أدار تدريجيًا كرسيه بحيث أصبح يواجه باب غرفتي، لمحت شفتيه ترتجفان وكأنه يغمغم بصمت، فجأة سقط رأسه فوق صدره،
لكني تأكدت أنه لم ينم، لقد كانت عيناه مفتوحتان عن آخرهما، وكان جسده يرتجف بشدة.
تجاوزت كل هذا، وأكملت القراءة:
من أجل نفسي أولاً.. كنت أريد أن تمر تلك الليلة الرهيبة بأي شكل، فقط تشرق شمس الصباح ووقتها أرى ما يمكن فعله.
"قضى البطل علي التنين الرهيب، ثم أزاح جثته جانبًا واقترب ببسالة فوق طريق القلعة الفضي وأمامه كان يوجد ترس نحاسي فوق الجدار وعندما مد يده ليلتقطه,
فجأة سقط راكعًا علي قدميه فوق الأرض الفضية بسبب ذلك الصوت المدوي الرهيب الذي انطلق في القاعة صامًا الآذان "
كان الدرع النحاسي قد سقط أرضا"
ما أن نطقت تلك الجملة حتي - كما لو أن ترسًا نحاسيًا ضخمًا قد سقط بالفعل أرضًا في مكان ما من القصر- قفزت بعنف من مكاني فور سماعي لذلك الصوت الواضح العميق الرنان،
لكن آشر استمر في الاهتزاز في كرسيه بعنف،
وضعت يدي علي كتفه فارتعد بعنف وارتعشت ابتسامة سقيمة حول شفتيه، وجدت غمغمة غامضة تخرج من بين شفتيه، كان يهذي بطريقة مرضية،
قربت أذني من فمه لأحاول معرفة ما يقول، كان يواصل هذيانه وحركته واهتزازه وكأنه لا يدرك وجودي أصلا، سمعت كلماته الشنيعة التي اصطدمت بأذني كألف رعد في تلك الليلة العاصفة:
" ألا تسمعه؟
بلي أسمعه وسمعته. سمعته منذ عدة دقائق، عدة ساعات، عدة أيام، طويلة...طويلة .
إلا أنني لا أجرؤ، كم أنا مثير للشفقة، بائس، تعس، لا أجرؤ أن أتحدث..
لقد ..
لقد وضعناها حية في القبر.
ألم أقل لك أن حواسي حادة؟
الآن أقول لك إنني سمعتها تتحرك حركات ضعيفة في الكفن، سمعتها منذ أيام، أيام عديدة، إلا أنني لا أجرؤ أن أتحدث، والآن.. الليلة..
أثرلد، تحطيم باب الناسك، صرخة موت التنين وقعقعة الترس.
بل قل علي الأحرى انتزاع غطاء كفنها وصرير مفصلات سجنها، وصراعها مع قنطرة القبو المغطاة بالنحاس.
إلي أين أهرب؟
ألن تصل هنا حالا؟
ألا تسرع لكي توبخني علي تسرعي؟
ألم أسمع خطواتها فوق السلالم؟
مجنون ..
هنا قفز من مكانه بعنف وصرخ بأعلى صوته:
" مجنون ! أقول لك إنها الآن تقف أمام الباب"
وكأن قوة كلماته وعنفها أدى إلي فتح الباب الخشبي الضخم في تلك اللحظة وخارج الباب وقفت هي ...
نظرت إلي أخيها الواقف أمام الباب نظرة لا تعرف لها معنى ثم صرخت صرخة منتحبة خفيضة وسقطت فوق جسده فأسقطته أرضًا، كانت الآن جثة هامدة ضحية الأهوال التي مرت بها.
في دقائق قليلة كنت أفر من هذا القصر الملعون وكأن آلاف الشياطين تطاردني،
في قفزات سريعة دون أن أنظر خلفي قطعت الممرات والسلالم حتي باب الخروج حتي وجدت نفسي أمام القصر، فجأة انطلق عبر الطريق ضوء شديد،
التفت لأرى من أين يمكن أن يأتي وميض غير مألوف إلى هذا الحد، كان الضوء من القمر الذي ظهر الآن مكتمل دموي اللون يلقي أشعته علي القصر وما يحيط به، بينما كان هناك صدع في جدار القصر يمتد في اتجاه ملتو من الأرض حتي السطح، كان موجوداً من قبل ولكنه كان بسيطًا الآن وجدته يتسع ويتعمق بشكل مخيف، وفي لحظات ومع هبوب موجة عاصفة كاسحة تباعدت جدران القصر كلها وانهارت أرضا تماماً بينما انطلقت من الداخل صرخة طويلة رهيبة معذبة كصرخة آلاف الأموات.
وأمام عيني الذاهلتين انغلقت ببطء وصمت البِركة العميقة وقد احتوت بداخلها بقايا ..
" منزل أشر" .
سقوط منزل آشر.
******************
كان يوماً غائمًا مظلمًا كئيبًا من أيام الخريف، كنت أرحل وحيداً علي ظهر حصاني في تلك البقعة الموحشة من الريف، اقترب المساء، فجأة وجدت نفسي أمام ذلك البيت الرهيب ...
منزل آشر المخيف.
داخلني شعور كاسح من الانقباض والخوف والتوجس لمجرد رؤية المنزل الذي كنت أعرف صاحبه جيداً، توقفت بتوجس شعر به حصاني الذي أمتطي صهوته، نظرت إلي المشهد حولي، تلك المساحات الواسعة من الأراضي التي كان من المفترض أن تكون خضراء مثل أي أرض زراعية أخرى ولكنها ويا للعجب... جدباء!
بينما المنزل نفسه كان قديمًا، أسطوريًا، يربض هناك علي مقربة مني وكأنه كيان غامض قادم من أزمنة موغلة في القدم، نوافذه المفتوحة تشبه الأعين الخاوية الميتة ...
أثار المشهد كله في قلبي اكتئاب لا مثيل له ورغم ذلك فقد اقتربت بجوادي، وجهته نحو بركة سوداء شنيعة تومض وميضًا هادئًا بالقرب من المنزل.
نظرت إلي بركة المياه التي عكست صورة القصر وما حوله ولكن كلها كانت بلون رمادي زادها كآبة ورهبة.
إن صاحبه وقاطنه الآن رودريك آشر، كان واحداً من رفاق صباي، ولكن مرت سنوات طويلة دون أن أراه.
في الواقع لقد حضرت إلي هنا بعد أن وصلتني رسالته الملحة إلحاحًا كبيراً في الحضور، كنت في الجانب الأقصى من البلاد ورغم ذلك لم أتردد في ذلك.
فقد دلت الرسالة علي حالة صاحبها ومعاناته الفظيعة.
لقد تحدث آشر في تلك الرسالة عن مرض جسدي حاد أقعده واضطراب عقلي أغمه آملًا أن تكون زيارتي له- بصفتي كنت أقرب صديق إليه- سبباً في تخفيف وطأة الألم عنه.
وعلي الرغم من أننا كنا رفيقين في صبانا فقد كنت أعرف عنه أقل القليل، لقد بالغ آشر بشدة في إخفاء كل معلومة عنه وكان متحفظًا بشدة في الحديث عن عائلته ومع ذلك كنت أعرف أن عائلته عريقة تشتهر بحساسية خاصة في المزاج.
كما أنها انهمكت في الفترة الأخيرة في أعمال الخير السخية وإن كانت خفية.
كانت العائلة كلها عبارة عن سلسلة نسب واحد تنحدر من أصل واحد
دارت في رأسي العديد من الأفكار السلبية في أغلبها وأنا أرى انعكاس القصر وأشباح الأشجار في المياه الراكدة، إلا أني عندما رفعت رأسي انتابني إحساس غامض غريب.
إن هذا القصر والأراضي المحيطة به والتي تخص عائلة آشر كلها محاطة بأثير ما ...
غلالة من الأثير لا علاقة لها بهواء السماء بل هي عبارة عن بخار يخرج من الأشجار المتعفنة الجذوع وبركة المياه السوداء الآسنة، بخار مهلك غامض بليد راكد رمادي اللون بالكاد يمكن تمييزه.
وفي لحظة نفضت عن عقلي كل ما اعتبرته أوهام وخيالات وتقدمت بجوادي ملتمسًا بوابة القصر.
كنت أحاول أن أتمسك بأقصى درجات الشجاعة، نظرت أتفحص المنزل عن قرب..
كان يبدو قديما قدم الدهر نفسه، انتشرت فطريات علي واجهته متدلية من الإفريز، ورغم قدم القصر فلا يبدو عليه أي علامة من علامات قرب الانهيار، دخلت إلي القصر وهناك وجدت خادما ينتظرني .
أخذ فرسي ثم أدخلني إلي قاعة قوطية المعالم، ثم اقتادني في صمت دون أن يتفوه بكلمة عبر ممرات مظلمة معقدة.
كان الكثير مما قابلني أثناء سيري خلف الخادم قد أدى الي مشاعر كئيبة مخيفة انتابني منذ أن وطأت قدمي أراضي آل آشر،
من رموز نقشت علي جدران القصر إلى تلك الأرضية السوداء سواد الأبنوس إلي الصور التي وضعت بطريقة منظمة علي جدران القصر ،كل تلك الأشياء أثارت في خيالات غريبة وأفكار ساهمت في زيادة رهبتي من الموقف كله.
وعلي درجة من درجات السلم قابلت طبيب العائلة الذي حياني وقد اكتست ملامحه بمزيج من الحيرة والمكر، حينئذٍ فتح الخادم بابًا وقادني إلي مجلس سيده.
كانت الحجرة التي وجدت نفسي فيها ضخمة جداً ومن خلال نوافذ ضيقة طويلة جدًا دخلت أشعة ضوء ضعيفة بالكاد جعلتني أميز مكونات الغرفة وأثاثها البالي وتلك الستائر البالية اللون الكئيبة المنظر التي وجدت علي الحائط ،
بينما تناثر عدد من الكتب والآلات الموسيقية في كل مكان ولكنها فشلت أن تضفي أي حيوية علي المشهد الحزين.
لقد شعرت أني أتنفس في جو من الحزن الشديد خيم علي الحجرة
ظللت أتجول بعيني في الغرفة لحظات حتي اصطدم بصري به هو ..
رودريك آشر.
نهض آشر من مكانه حيث كان متكئًا علي أريكة، وفي جهد متكلف من رجل في مثل حالته الصحية، حياني بمودة بالغة ثم جلس، لفنا الصمت برهة، اختلست إليه نظرات تحمل مزيج من الشفقة والرهبة.
أوه يا إلهي!
كم تغير صديق صباي في فترة زمنية قصيرة تغيرًا مذهلًا، غير أن ملامح وجهه كانت دائماً مميزة، بشرة شديدة الشحوب، عينان واسعتان لامعتان، أنف مقوس عِبري.
غير أن التغير الهائل الذي طرأ علي الشخص الجالس أمامي الآن جعلني أشك للحظة أنه هو رفيقي القديم آشر.
لقد شحب لون الجلد بشدة، وأصبح للعينين بريق خارق كما نما شعره الحريري بلا عناية ولا تهذيب،
في النهاية كان للرجل مظهر شيطاني مرعب.
أخيراً قطع آشر الصمت وبدأ يتحدث ..
صعقني علي الفور أسلوبه المتناقض بشكل مذهل في الكلام، كَمْ هياج عصبي ونبرة عالية مخيفة إلى انطفاء وهدوء في النبرة، ومن نبرة يائسة محبطة مما ألم به إلى بعض الحماس والتفاؤل من وجودي.
لقد كان الرجل حقًا يمر بحالة نفسية لا يتحملها بشر.
تحدث عن هدف زيارتي وعن رغبته الشديدة في رؤيتي وعن السلوان الذي يتوقع أن أقدمه له.
ثم دخل في تفاصيل مرضه، قال إنه شر عائلي يتعلق ببنية العقل، لقد عانى كثيرًا من حدة مرضية في حواسه حتي أنه لا يحتمل أن يأكل إلا طعام خالي من الطعم، ولا يرتدي إلا ملابس من نسيح واحد، روائح الأزهار كلها قابضة لصدره وتشعره بالضيق، تتألم عيناه من أي ضوء حتي لو كان ضعيفًا، أما الأصوات أي أصوات- ماعدا أصوات الآلات الوترية فقط - تؤلم حواسه بشكل لا يحتمل.
قال لي:
" سوف أهلك. حتما سوف أهلك، أخشى من أحداث المستقبل ليس في حد ذاتها ولكن في نتائجها.
في حالتي هذه أشعر أنه يجب أن يأتي الوقت الذي اعتزل فيه الحياة، أنا في صراع مع شبح مقيت يدعى: "الخوف "
اكتشفت مع وجودي في القصر ملمحًا فريدًا عن حالة آشر، كان مكبلا بأفكار وانطباعات خرافية حول القصر الذي يقيم فيه،
أستطيع أن أتكهن أن القصر الكئيب المفزع والبِركة المعتمة والأشجار الشبحية والأراضي القاحلة المحيطة بالقصر قد انعكست تمامًا علي روحه فطبعتها بطابع شاذ غريب.
لهذا تجد آشر ملازم للقصر لم يغامر بمغادرته لسنوات طويلة.
عرفت أن جزء كبير من الغم الذي أصابه كان بسبب مرض أخته رفيقة روحه وآخر سلالة آل أشر معه, الليدي مادلين ..
وبينما كان يتحدث, مرت هي في جزء بعيد من الجناح ، فراشة رقيقة مريضة تمر دون حتي أن تلحظ وجودي مع أخيها.
كانت مريضة بشدة ..
هزال مستمر في الجسد، نوبات متقطعة من الاغماء، عجز الأطباء عن علاجها، ورغم ذلك لم تستسلم للرقود في الفراش.
قضيت أيام عديدة في المنزل مع صديقي آشر، محاولًا أن أخفف عنه عبء ما يقاسي،
رسمنا، قرأنا، كما عزف علي جيتار لساعات ظللت أسمعه، ولكن وللغرابة فإن كل ذلك لم ينجح في ابهاج روحه التي بدت وكأنها تشع ظلامًا وكآبة كافية لإغراق كل أشياء الكون المادية منها والمعنوية.
لن أستطيع أن أنسى أبدًا ذكرى ما اختبرت وعايشت مع صديقي آشر وفي منزله ذلك سواء من موسيقاه الحزينة الكئيبة التي سوف يتردد صداها في أذني للأبد،
أو تلك اللوحات الفنية التي تفتقر عنها خياله المعقد التي ارتجف رعبًا كلما تذكرتها.
ذات مرة جلست أسمعه يعزف علي الآلة الوحيدة التي لا تسبب له ألما سمعيًا... الجيتار،
كان منهمكاً في العزف وكأنه في عالم آخر ثم بدأ يلقي أبيات من الشعر تناغمًا ما يعزف من الموسيقى ...
*****************************************
في أكثر الوديان خضرة...
المسكون بالملائكة الطيبين ...
ارتفع إلى السماء قصر جميل ..
قصر فخم مشرق ...
في أراضي الملك .
رايات صفراء، ذهبية، رائعة ..
رفرفت علي سطحه في الهواء ..
نسمة رقيقة هبت ...
في ذلك اليوم الجميل ..
رائحة عبقة ملأت المكان .
السائرون في ذلك الواد السعيد رأوه ..
ولي العهد يجلس في وضع يلائم مجده ..
باللؤلؤ والياقوت متوهجًا ..
كان باب القصر جميل ..
لكن المخلوقات الشريرة في أثواب الحزن ..
أغارت علي عرش الملك ..
آه ..فلنبكي قصة المُلك الزائل.
والمجد الذي دفنه الزمن.
والمسافرون الآن في ذلك الوادي..
يرون عبر النوافذ الحمراء ...
تلك الأشكال البشعة التي تتحرك علي نغمات نشاذ ..
ومن الباب يندفع حشد مهول لن يبتسم بعد الآن.
*******************************************
أدركت تمامًا عندما سمعت القصيدة إلي أي مدى وصل تأثر أشر بالمحيط به.
حتي الكتب التي كنا نطالعها كانت تنسجم تمامًا مع خياله، كان من تلك الكتب:
"الجنة والجحيم" سويدنبورج .
" كشف المصير" روبرت فلود
"رحلة إلي المسافة الزرقاء" تيك.
" مدينة الشمس" كامبانيلا.
"تعليمات إلي الرهبان الذين يستجوبون الهراطقة" أمريك دي جيرون.
كان أشر يجلس حالمًا لساعات بعد قراءتها.
أما العمل الأساسي الذي يثير فيه البهجة كان قراءة كتاب نادر جدًا جدًا وغريب كتب بحروف قوطية بعنوان:
" حراسة الموتى طبقًا لجوقة كنيسة مانز "
كان تأثير هذا الكتاب غريباً علي مزاجه، ذات مساء وبعد قراءة أجزاء منه وجدت أشر يسير إلي قائلًا إنه أصبح الوحيد المتبقي من عائلة آشر ولم يعد هناك وجود لليدي مادلين.
اجتاحتني موجة كاسحة من الحزن والألم و فهمت ما يقصد,
ولكن ما قاله بعد ذلك جعل قلبي يسقط بين قدمي رعبًا.
أخبرني آشر أنه أصبح الآن آخر سلالة عائلة أشر، لم يعد ثمة وجود لليدي (مادلين) بعد الآن،
موجة كاسحة من الحزن اكتسحتني، تلاها موجة من الدهشة العارمة تحولت علي الفور إلي رعب من تفكير الرجل.
لقد قرر أن يحتفظ بجثتها لمدة أسبوعين قبل أن يدفنها الأخير في قبو من الأقبية العديدة داخل حوائط المبني ...
لم أستطع معارضته في تصرفه الشاذ هذا.
عاونته علي دفن الجسد بعد أن كفَّنه، حملناه إلي قبو في أسفل القصر، يبدو أنه لم يفتح منذ عشرات السنوات،
كان القبو صغيرًا، رطبًا، يخلو تماماً من أي وسيلة أو منفذ إضاءة والأهم أنه كان يوجد مباشرة أسفل غرفة نومي في القصر،
وضعنا التابوت في القبو الرهيب، وقام آشر بزحزحة غطائه ليلقي نظرة أخيرة علي وجه أخته، نظرت بدوري إلى وجه الليدي الميتة وسرت في جسدي قشعريرة, لقد كانت الليدي نسخة مطابقة لأخيها في الشبه, بالإضافة إلى أن المرض الذي أدى إلى موتها ترك علي وجهها علامات مرعبة.
عُدنا إلي غرفنا في القصر، انقضت أيام من الحزن المرير، أعقبها تغيرات في الاختلال العقلي الذي كان صديقي مصابًا به.
فقد أهمل اهتماماته العادية من قراءة إلى رسم إلي موسيقي، وأصبح يتجول في غرفات القصر بخطوات واسعة وبلا هدف، بينما اكتست ملامحه بشحوب غير عادي،
شحوب الموت ...
تلاشي بريق عينيه تماماً، كما أن صوته القوي الذي ينفذ إلي أعماق محدثه قد أصبح مرتجفًا، وكأنما آشر يحمل شر ما, يسبب له خوف ورعب يعاني منه.
رأيته يحدق في الفراغ لساعات طويلة بأقصى درجات الانتباه وكأنه يصغي إلى صوت خيالي، لا يسمعه إلا هو.
لكن ما بدأت ألاحظه فيما بعد أن حالته تلك أرعبتني قد أثرت في.
شعرت أن روحه تغزو روحي وأن مخاوفه تنتقل تدريجيًا إلي.
وقد كان...
ففي الليلة الثامنة لدفن الليدي مادلين, حاولت أن أنام ولكن النوم جافاني تمامًا، تملكتني حالة من العصبية، جلست لساعات أتأمل أثاث الغرفة الكئيب، والستائر البالية التي تتلوى كالأشباح من تأثير نسمات هواء.
جلست في الفراش مفتوح العينين أصغي إلي صوت لا يسمعه أحد سواي، لا أعرف هل هو موجود في الواقع أم في عقلي فقط؟!
هيمنت رجفة لا تقاوم علي جسدي وجثم علي قلبي كابوس من الإنذار بالخطر، فتحت عيني لأقصى درجة أحدق في ظلام الغرفة وأصغيت السمع لأقصي درجة.
هنا سمعت أصوات مبهمة تأتيني متقطعة علي فترات زمنية، لا أعرف لها مصدرًا، هببت مسرعًا من مجلسي وارتديت ملابسي،
شعرت أنني يجب ألا أنام أثناء الليل، ظللت أتجول ذهابًا وإيابًا داخل الجناح،
فجأة تجمدت مكاني عندما سمعت صوت خطوات خفيفة علي السلم المجاور لغرفتي،
اقتربت الخطوات من الباب ثم طرق صاحبها طرقات خفيفة علي بابي، انتزعت نفسي من الرعب الذي أصابني وبحذر فتحت الباب لاصطدم بوجهه ..
آشر...
كانت علامات الجنون التام بادية في نظرة عينيه، ورغم ذلك فقد رحبت بوجوده، دخل إلي الغرفة وبادرني قائلًا...
"وأنت لم تره؟ لم تره إذًا، لكن ..توقف ،لسوف تراه الآن "
ثم اتبع مقولته بأن أطفأ مصباحا كان في يده، ثم أسرع إلى إحدى النوافذ وفتحها علي مصرعيها للعاصفة.
دخلت العاصفة بعنف إلى الجناح حتي كانت ترفعنا من أماكننا من قوة الرياح،
كانت ليلة من تلك الليالي التي يمتزج فيها الجمال بالرعب، حيث رياح عاصفة قوية جداً مع سحب كثيفة تجمعت فوق القصر حتي أخفت القمر والنجوم،
لم يكن هناك برق ولكن سحابة من بخار تومض في ضوء غير طبيعي خافت إلا أنه واضح للعين يحوط القصر كله.
اقتربت من آشر وأمسكت بيده أقوده بعيداً عن النافذة وأنا أقول بصوت قارب الصراخ:
"لا يجب أن تشاهد هذا! "
هذه الظواهر التي تربكك، ليست إلا ظاهرة كهربائية شائعة، ربما أن أصلها يرجع إلى الغاز المنبعث من البركة.
فلنغلق النافذة، إن الهواء في الخارج بارد جدًا وخطر علي صحتك،
ها هي رواية من الروايات المفضلة إليك، سأقرأها لك، وسوف تنقضي هذه الليلة المروعة ونحن نقرأ معًا"
قلت ذلك وأنا أرفع بيدي أمام وجهه إحدى رواياته الموجودة في غرفتي،
وبالفعل نجحت في تهدئته وجلس بينما جلست أقرأ له وصلت إلي جزء من القصة يقول:
"اثرلد الذي كان شجاعًا بالسليقة زادت شجاعته بسبب تأثير النبيذ الذي تجرعه، وكان راغبًا في لقاء الناسك الذي رفض مقابلته، رفع صولجانه دفعة واحدة وبضربات، صنع ثغرة في ألواح الباب الخشبية، ثم حطمه بعنف حتي أن ضجيج الخشب الجاف والمكتوم قد أزعج الغابة وتردد صداه عبرها"
عند هذه الجملة بالتحديد توقفت، لأنه هُيء لي أنني أسمع صوت قادم من بعيد أو من عميق من القصر ذاته يتماثل وصفه - وياللصدفة - مع تلك العبارة التي أنهيت للتو قراءتها .
حاولت أن أتجاهل ما أسمع أو اعتبره مجرد تهيؤات جالت بعقلي بسبب ذلك الجو المرعب المقبض الذي أعيشه الآن أو حتي أوعز سببه لتلك العاصفة العاتية في الخارج والتي تصطدم بقوة بنوافذ وأبواب القصر وتسبب أصواتا مخيفة.
ورغم كل ذلك لم أستطع أن أقنع نفسي بالمبررات الواهية التي سقتها، حاولت أن أعيد القراءة ولكني ولسبب لا أعرفه نظرت لأسفل،
بأرضية الجناح الذي أعيش به, وتذكرت ما الذي يوجد هناك في الأسفل في القبو في أعماق القصر تحت جناحي مباشرة ...
ورغم ذلك أكملت القراءة متجاهلًا ذلك الصوت الذي أسمعه ..
"لكن البطل أثرلد وفور أن حطم الباب ودخل، شعر بدهشة تلاها غضب عارم عندما لم يجد أثرًا للناسك وعوضًا عن ذلك وجد كائن رهيب ينتظره ...
تنين غاضب يقذف نيران ملتهبة من لسانه يقوم بحراسة قصر ذهبي، أرضيته من فضة.
رفع أثرلد صولجانه وهبط به بعنف بضربة قاصمة علي رأس التنين الذي أطلق صرخة مروعة اهتزت لها الجدران وسد أثرلد أذنيه من هولها، ثم سقط أرضًا بلا حراك "
توقفت مرة أخري بعد تلك الجملة، لكن هذه المرة كانت دهشتي أكبر ورعبي أعمق، لقد سمعت صوت صرخة خفيضة، طويلة، غير عادية أبدًا ، تأتي من مكان ما بعيد في القصر،
وصل رعبي لأقصى درجاته مع تلك الصدفة الثانية، ورغم ذلك كنت حريصًا علي عدم ذكر تلك الملاحظة حفاظًا علي أعصاب صديقي آشر الذي لم أكن متيقنًا من سماعه ما سمعت،
ورغم ذلك فقد لاحظت تبدلًا غريبا في سلوكه خلال الدقائق الأخيرة.
فمن مكانه الجالس فيه، أدار تدريجيًا كرسيه بحيث أصبح يواجه باب غرفتي، لمحت شفتيه ترتجفان وكأنه يغمغم بصمت، فجأة سقط رأسه فوق صدره،
لكني تأكدت أنه لم ينم، لقد كانت عيناه مفتوحتان عن آخرهما، وكان جسده يرتجف بشدة.
تجاوزت كل هذا، وأكملت القراءة:
من أجل نفسي أولاً.. كنت أريد أن تمر تلك الليلة الرهيبة بأي شكل، فقط تشرق شمس الصباح ووقتها أرى ما يمكن فعله.
"قضى البطل علي التنين الرهيب، ثم أزاح جثته جانبًا واقترب ببسالة فوق طريق القلعة الفضي وأمامه كان يوجد ترس نحاسي فوق الجدار وعندما مد يده ليلتقطه,
فجأة سقط راكعًا علي قدميه فوق الأرض الفضية بسبب ذلك الصوت المدوي الرهيب الذي انطلق في القاعة صامًا الآذان "
كان الدرع النحاسي قد سقط أرضا"
ما أن نطقت تلك الجملة حتي - كما لو أن ترسًا نحاسيًا ضخمًا قد سقط بالفعل أرضًا في مكان ما من القصر- قفزت بعنف من مكاني فور سماعي لذلك الصوت الواضح العميق الرنان،
لكن آشر استمر في الاهتزاز في كرسيه بعنف،
وضعت يدي علي كتفه فارتعد بعنف وارتعشت ابتسامة سقيمة حول شفتيه، وجدت غمغمة غامضة تخرج من بين شفتيه، كان يهذي بطريقة مرضية،
قربت أذني من فمه لأحاول معرفة ما يقول، كان يواصل هذيانه وحركته واهتزازه وكأنه لا يدرك وجودي أصلا، سمعت كلماته الشنيعة التي اصطدمت بأذني كألف رعد في تلك الليلة العاصفة:
" ألا تسمعه؟
بلي أسمعه وسمعته. سمعته منذ عدة دقائق، عدة ساعات، عدة أيام، طويلة...طويلة .
إلا أنني لا أجرؤ، كم أنا مثير للشفقة، بائس، تعس، لا أجرؤ أن أتحدث..
لقد ..
لقد وضعناها حية في القبر.
ألم أقل لك أن حواسي حادة؟
الآن أقول لك إنني سمعتها تتحرك حركات ضعيفة في الكفن، سمعتها منذ أيام، أيام عديدة، إلا أنني لا أجرؤ أن أتحدث، والآن.. الليلة..
أثرلد، تحطيم باب الناسك، صرخة موت التنين وقعقعة الترس.
بل قل علي الأحرى انتزاع غطاء كفنها وصرير مفصلات سجنها، وصراعها مع قنطرة القبو المغطاة بالنحاس.
إلي أين أهرب؟
ألن تصل هنا حالا؟
ألا تسرع لكي توبخني علي تسرعي؟
ألم أسمع خطواتها فوق السلالم؟
مجنون ..
هنا قفز من مكانه بعنف وصرخ بأعلى صوته:
" مجنون ! أقول لك إنها الآن تقف أمام الباب"
وكأن قوة كلماته وعنفها أدى إلي فتح الباب الخشبي الضخم في تلك اللحظة وخارج الباب وقفت هي ...
نعم كانت الليدي مادلين في كفنها الأبيض والذي لوثته الدماء دليل علي صراع مرير مرت به البائسة التي دفنت حية.
نظرت إلي أخيها الواقف أمام الباب نظرة لا تعرف لها معنى ثم صرخت صرخة منتحبة خفيضة وسقطت فوق جسده فأسقطته أرضًا، كانت الآن جثة هامدة ضحية الأهوال التي مرت بها.
الآن كان لابد من قرار، ولم أتردد في اتخاذ القرار.
في دقائق قليلة كنت أفر من هذا القصر الملعون وكأن آلاف الشياطين تطاردني،
في قفزات سريعة دون أن أنظر خلفي قطعت الممرات والسلالم حتي باب الخروج حتي وجدت نفسي أمام القصر، فجأة انطلق عبر الطريق ضوء شديد،
التفت لأرى من أين يمكن أن يأتي وميض غير مألوف إلى هذا الحد، كان الضوء من القمر الذي ظهر الآن مكتمل دموي اللون يلقي أشعته علي القصر وما يحيط به، بينما كان هناك صدع في جدار القصر يمتد في اتجاه ملتو من الأرض حتي السطح، كان موجوداً من قبل ولكنه كان بسيطًا الآن وجدته يتسع ويتعمق بشكل مخيف، وفي لحظات ومع هبوب موجة عاصفة كاسحة تباعدت جدران القصر كلها وانهارت أرضا تماماً بينما انطلقت من الداخل صرخة طويلة رهيبة معذبة كصرخة آلاف الأموات.
وأمام عيني الذاهلتين انغلقت ببطء وصمت البِركة العميقة وقد احتوت بداخلها بقايا ..
" منزل أشر" .
تمت.
ترجمة : أحمد عبد الرحيم
ترجمة : أحمد عبد الرحيم
التعديل الأخير بواسطة المشرف: