- المشاهدات: 56
- الردود: 1
التفوق الاستراتيجي الميداني ضروري للفوز بأي حرب، لكن هذا لا يعني أن العدو ليس بشرا يمكن اللعب على أوتاره لدفعه للتراجع ومن هنا جاءت فكرة الحرب النفسية التي بدأت بالدعاية لكنها وجدت طريقها لساحة المعركة بطرق مختلفة أبرزها وأكثرها رعبا "قاذف اللهب" والذي اكتسب سمعة سيئة لازالت تلاحق قدماء الحرب حتى اليوم.
البداية:
أول ظهور لقاذفات اللهب الحديثة كان عام 1913 عندما قام مخترع ألماني يُدعى ريتشارد فيدلر بترويض اللهب وتحويله من وحش ضار لا يمكن التحكم به إلى سلاح فعال يمكن التحكم فيه. كانت الفكرة الأساسية من قاذف اللهب هي نشر النار ضد موقع العدو من خلال إطلاق دفعة مركزة من الوقود المحترق. لكن فيدلر لم يكن أول من جاء بفكرة تسليح النار إذ استخدمت من قبل في الأسهم وبعدها في القرن الخامس قبل الميلاد، في شكل أنابيب طويلة مملوءة بمواد مشتعلة مثل الفحم أو الكبريت، وكانت تُستخدم بنفس الطريقة التي يستخدم بها المرء بندقية النفخ. لكن قاذف اللهب الحديث كان أكثر وحشية إذ طور فيدلر نموذجين، سماهما "قاذف اللهب الكبير" وقاذف اللهب الصغير" للجيش الإمبراطوري للقيصر عام 1901 واستمر في تطويره لمدة 12 عامًا بسبب المشاكل التكنولوجية التي اعترضته وكذا التغلب على اعتراضات هيئة الأركان العامة الألمانية. في النهاية تم اعتماد كلا النموذجين من flammenwerfer - وهي كلمة ألمانية تعني "قاذف اللهب" - للاستخدام الميداني من قبل ثلاث كتائب تابعة لقوات "الصدمة" الخاصة التابعة للجيش الألماني خلال الحرب العالمية الأولى.
كان قاذف اللهب الأصغر والأخف وزنًا، kleinflammenwerfer، أو "قاذف اللهب الصغير"، مصممًا للاستخدام المحمول ويمكن أن يحمله رجل واحد. طريقة عمله كانت تشتمل على عنصرين هما الهواء المضغوط وثاني أكسيد الكربون أو النيتروجين كمحفز، كان قاذف اللهب هذا يطلق تيارًا من الزيت المحترق لمسافة 18 مترا وكانت مدة فعاليته قصيرة جدا لا تتجاوز دقيقتين بسبب خزان الوقود المحمول والذي يجب أن يكون خفيف الوزن وبالضرورة صغير الحجم والسعة، إضافة لمشكلة الحجم كان قاذف اللهب الصغير يعاني من مشكلة ثانية وهي ضرورة استبدال جهاز الاشعال في حالة الاستخدام المتقطع ما أدى إلى عمر افتراضي محدود لـ kleinflammenwerfer.
عمل النموذج الأكبر، grossflammenwerfer، أو "قاذف اللهب الكبير"، بطريقة مماثلة ولكن مدى فعاليته كان ضعف النموذج الأصغر تقريبًا. ويمكن أن يطلق نفاثة من اللهب لمدة 40 ثانية تقريبًا دون توقف ولكن عيبه كان استخدام المزيد من الوقود وبالتالي خزانا أكبر ما يعني حجما أكبر. كان القاذف ثقيلًا جدًا لدرجة أنه لا يمكن حمله وتشغيله بواسطة رجل واحد.
القاذف في يد قوات الصدمة الألمانية:
على الرغم من المشاكل، دخل كلا النموذجين الخدمة في الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الأولى. كان تأثيره عند استخدامه لأول مرة ضد القوات الفرنسية في أكتوبر 1914 ضخما وأثار ضجة واسعة في صفوف الجيوش الأخرى بسبب تصميمه والفكرة التي لم تجسد في الحرب من قبل، ومع ذلك، كان استخدامه من قبل القوات الألمانية متذبذبا ومحصورًا في جزء معزول من الجبهة الغربية، لكن سرعان ما مرت الصدمة الأولية والغموض حول هذا "السلاح العجيب" الجديد، وتبنت جيوش الحلفاء قاذف اللهب - الذي تم استخدامه بطرق غير أخلاقية ومناسبة لطبيعة الحرب العالمية الأولى التي كانت سيئة السمعة بشكل خاص نظرا لمحاولة كل جانب رفع مستوى الوحشية في تعامله مع الجانب الآخر (إقرأ مقال: وحشية الجيش الكندي في الحرب العالمية الأولى). الأمر الغريب في كل هذه الفوضى التي أحدثها قاذف اللهب هو أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت متأخرة، ولم تتبن قاذفة لهب خاصة بها أثناء الصراع. بل إن الجيش الأمريكي انتظر حتى عام 1940 ليطور قاذف لهب خاص به.
قوات الصدمة اعتبرت قاذفات اللهب نجاحا استراتيجيا فقررت استخدامه بشكل أساسي ضد كتيبة من جنود بريطانيين كانوا متحصنين في حفرة هوج، وهي منطقة عرفت مواجهة طويلة خلال حملة إيبرس سالينت في منطقة فلاندرز في بلجيكا. انطلقت قوات الصدمة الألمانية من مواقعها بعد الساعة الثالثة صباحًا بقليل في 30 يوليو 1915، واستخدمت قاذفة اللهب بفعالية، حيث رسم الجنود صورة مرعبة في الظلام بخزانات غاز محمولة مربوطة على ظهورهم وفوهات مضاءة متصلة بكل أسطوانة. أثبت الهجوم المفاجئ بالسلاح الجديد الغريب أنه فعال للغاية ضد البريطانيين الذين اضطروا للتراجع واستطاعوا صد هجوم قوات الصدمة رغم دفع خطهم ولكن بعد يومين من القتال العنيف، خسر البريطانيون 31 ضابطًا و751 رجلاً في أول مواجهة لهم مع قاذف اللهب.
بعد نجاح هجوم هوج، تبنى الجيش الألماني استخدام قاذفات اللهب على نطاق واسع في جميع جبهات القتال. واستُخدمت قاذفات اللهب في مجموعات تتألف كل منها من ستة أفراد، وكان كل جهاز يخدمه رجلان. وكان الهدف الرئيسي هو إبعاد خط الدفاع الأول للعدو في بداية الهجوم، للدفع بجنود المشاة دون صد عنيف. وكان مشغلو قاذفات اللهب أنفسهم يعيشون حياة محفوفة بالمخاطر على عدة مستويات. إذ كان السلاح في حد ذاته عدوا لمشغله بسبب إمكانية انفجار الأسطوانات التي تحمل الوقود في أي لحظة. إضافة لذلك كان هناك وسم على حاملي قاذفات اللهب في ساحة المعركة وكانت الأولوية لدى جنود العدو هي الإطاحة بحاملي قاذفات اللهب أولا لأنهم الخطر الأكبر وثانيا لأن خزانات الوقود التي كانوا يحملونها على ظهورهم كانت غير محصنة وبالتالي فإن إمكانية انفجارها بعد إطلاق النار عليها كانت عالية.
قاذف اللهب الأكبر رغم فعاليته إلا أنه كان غير محمول بسبب وزنه العالي.
ورغم الخطر الكبير الذي شكلته قاذفات اللهب إلا أن الجيش البريطاني كان مهتما بها. فقام بتجربة عدة نماذج محلية الصنع استعدادًا لهجوم السوم عام 1916. واستطاعوا بناء أربعة نماذج عملاقة تزن طنين تقريبًا، وتم تثبيتها مباشرة في الخنادق الأمامية التي كانت تبعد 54 مترا فقط من الخطوط الألمانية. تم تجميع كل سلاح بعناية قطعة بقطعة، ورغم أن الجيش الألماني تمكن من تدمير وحدتين بريطانيتين إلا أن الوحدات المتبقية أدت دورها بفعالية وأطلقت نيرانا يبلغ مداها حوالي 82 مترا لكن وزنها الثقيل وثباتها في مكان واحد جعلا الجيش البريطاني يتخلى عن الفكرة.
التجربة البريطانية أثبتت أن ميزة "القدرة على تحريك السلاح" كانت عاملا حاسما في تحديد الخدمة المستقبلية لقاذف اللهب. طور الفرنسيون وحدة محمولة مكونة من فرد واحد خاصة بهم تسمى schilt، بتصميم متفوق على النموذج الألماني، وتم استخدامها في هجمات الخنادق خلال عامي 1917 و1918. أنتج الألمان لاحقًا نسخة أخف وزنًا من flammenwerfer في عام 1917 والمعروفة باسم wex، والتي جاءت بميزة جديدة وهي الاشتعال الذاتي وجهاز اشتعال قابل لإعادة الاستخدام دون الحاجة لتغييره وهي مشكلة عانى منها الجهاز الأول. في المجموع، شن الألمان حوالي 650 هجومًا بقاذفات اللهب خلال الحرب العالمية الأولى وهو عدد ضخم لسلاح حديث الخدمة.
أيقونة الحرب النفسية:
استخدمت القاذفات لاحقا بطرق مبتكرة فكانت تستعمل لاختراق التحصينات عن طريق النوافذ والأبواب، وبالتالي يمكن استخدامها ضد العدو حتى عندما لا يكون في خط البصر المباشر، وحتى عندما لا تصل النيران إلى الجنود مباشرة، فإنها كانت تستهلك الكثير من الأكسجين خاصة في المساحات الضيقة ما يؤدي لحالات اختناق وموت، كما تم تطوير تقنية "الطلقة الرطبة" وهي تقنية رش كمية من الوقود في منطقة محددة واشعالها عن طريق دفعة لهب فتنتج كرة نارية ضخمة. ومع زيادة قدرتها على الحركة، أصبحت قاذفة اللهب أكثر رعبًا وتم تركيبها مع نهاية الحرب العالمية الأولى على الدبابات، وهو الابتكار الذي استمر إلى الحرب العالمية الثانية. أصبح قاذف اللهب سلاحًا فريدًا من نوعه يمكن استخدامه في العديد من المواقف مثل تدمير مواقع العدو، وتطهير مناطق شاسعة وحرمان العدو من الأرض والحشائش التي قد يستخدمها للاختباء والأهم من ذلك، إلحاق رعب نفسي شديد بالجنود المتأثرين به.
قاذف اللهب وحسب العديد من خبراء الأسلحة أمثال جوناثان فيرغسون، المكلف بالأسلحة والعتاد في المتحف الملكي للعتاد بالمملكة المتحدة، لم يكن سلاحا عمليا بتاتا وكان خطيرا على مستخدمه وعلى الكتيبة كلها بسبب إمكانية انفجاره في أي لحظة لكن فكرة قذف اللهب كانت نفسية أكثر منها استراتيجية، خاصة خلال الهجمات الليلية والهجمات على مساحات ضيقة مكتظة بالجنود الذين إما يموتون اختناقا أو حرقا في مساحة صغيرة، كانت نهاية مؤلمة ودافعا للتفكير أكثر من مرة قبل دخول الحرب، الموت برصاصة من رشاش أو بندقية كان أسرع لكن الموت حرقا كان بطيئا وقاسيا ووحشيا لحد كبير.
قاذف اللهب الأصغر غير تكتيكات الحرب.
القاذف في الحرب العالمية الثانية:
كان الطراز الأمريكي M2-2 هو أكثر قاذفات اللهب استخدامًا على الإطلاق خلال الحرب العالمية الثانية، وسبقه الطراز M1A1، الذي دخل الخدمة في عام 1942. وقد تم توزيع كلا الطرازين على الجيش وسلاح مشاة البحرية، وصنعت الولايات المتحدة ما يقرب من 25000 وحدة خلال الحرب واستخدم كلا الطرازين بشكل أساسي على الجبهتين خاصة عند مواجهة الجيش الإمبراطوري الياباني في جزر المحيط الهادئ. وكان الهدف منه تطهير مخابئ اليابانيين وقتل الجنود الانتحاريين الذي اعتمدوا على تقنية "البانزاي*". في إيو جيما وحدها، وصل حوالي 485 قاذف لهب إلى الشاطئ على ظهور الجنود أو على متن دبابات. لكنها لم تكن شائعة الاستخدام في المسرح الأوروبي، حيث تحرك القتال بسرعة كبيرة جدًا بحيث لم يتمكن الألمان من بناء تحصينات قوية تتطلب استخدام قاذفات اللهب لتحطيمها.
تطلب الطراز الأمريكي M2، مثل سابقاته في الحرب العالمية الأولى، فريقًا من الرجال لتشغيله واستخدم وقود الديزل أو البنزين العادي أو البنزين الهلامي، المعروف لاحقًا باسم النابالم. يتألف السلاح من شقين رئيسيين هما مجموعة الخزان ومجموعة المدافع. تزن مجموعة الخزان حوالي 30 رطلاً وتشتمل على خزانين للوقود وخزان هواء مضغوط ومنظم ضغط ورأسين أمان. تزن مجموعة المدافع ستة أرطال وتتكون من مدفع قاذف اللهب وخراطيم الوقود ومشغلين أحدهما لتشغيل تدفق الوقود والآخر لإشعال التيار باستخدام إحدى خراطيش الإشعال الخمسة المتوفرة. تزن الوحدة بأكملها 15 كيلوغراما فارغة و28 كيلوغراما عندما تمتلئ بالوقود والدافع. تم ربط الجهاز بالكامل بإطار العبوة بحزام سريع الفك في حالة اضطرار المشغل إلى التخلص من الوحدة على عجل ورغم أن النموذج الأمريكي اشتمل على تحسينات عديدة إلا أن سلامة المستخدم لم تتغير وكان كل ما يتطلبه الأمر هو طلقة واحدة نحو الخزان أو شظية فقط لإحداث انفجار ضخم. الأمر الآخر هو نظام الإشعال غير الموثوق به لمعظم النماذج الأمريكية، والذي يتطلب من المشغل استخدام ولاعة السجائر الشهيرة من نوع zippo لإشعال النار بشكل متكرر.
الطراز الأمريكي أصبح أيقونة في الثقافة الشعبية بظهوره في عدد من ألعاب الفيديو والأفلام.
كان الألمان، كما هو الحال مع معظم تقنياتهم، يطورون باستمرار قاذف اللهب طوال الحرب العالمية الثانية، مستخدمين ما لا يقل عن 10 نماذج مختلفة - ثابتة ومحمولة، محمولة على رجل أو على مركبة. كانت تشبه إلى حد كبير النماذج الأمريكية، باستثناء استخدام النيتروجين المضغوط لدفع الوقود بدلاً من الهواء المضغوط. استخدم أحد النماذج غير العادية خراطيش مسدس فارغة عيار 9 مم كنظام إشعال لكنه فقد حظوته لدى الألمان بعد استخدامه في غزو فرنسا خلال المراحل الأولى من الحرب واستمر استخدامه في العمليات الانتقامية طوال بقية الحرب، وخاصة كجزء من سياسات "الأرض المحروقة" النازية أثناء انسحابهم من روسيا في عام 1944.
لا تزال قاذفات اللهب موجودة في العديد من الترسانات العسكرية الحديثة:
كانت الولايات المتحدة الأمريكية من الدول القليلة التي استمرت في استخدام قاذفات اللهب إذ شهدت سلسلة M2 عودة في الحرب الكورية، قبل أن تحل محلها سلسلة M9A1 عام 1956. كانت سلسلة M9A1 الأخف وزنًا مشابهة لـ M2 ولكنها كانت تحتوي على زناد ضغط أعيد تصميمه ليكون ملائما أكثر لليد وحافظة لبندقية اللهب مثبتة على حزام لزيادة الأمان. استمر استخدام قاذف اللهب في فيتنام، حيث خلقت أنفاق قوات الفيت كونغ نفس المشاكل التكتيكية التي فرضتها الكهوف والمخابئ اليابانية في الحرب العالمية الثانية. كان قاذف اللهب فعالاً أيضًا في العمليات الهجومية ضد القرى والمباني الفيتنامية، والتي كانت مصنوعة إلى حد كبير من مواد سهلة التدمير. تم استبدال قاذف اللهب M9A1 في نهاية المطاف في الخدمة الأمريكية في عام 1974 بتكنولوجيا جديدة تمامًا، وهي قاذف الصواريخ الحارقة M202A1. سمح هذا السلاح بمدى وحماية أكبر لمستخدميه، ودقة أفضل، وفعالية أكبر ضد المركبات، والتي لا تستطيع قاذفات اللهب التقليدية مهاجمتها إلا في أندر الظروف، حيث تتطلب من المشغل الاقتراب بشكل خطير من هدف متحرك.
مع زيادة قدرة المشاة على الحركة، ومعها تطوير ذخيرة أكثر فعالية لتدمير التحصينات، تضاءل استخدام قاذف اللهب بشكل كبير بعد ذروته في الحرب العالمية الأولى وحملات المحيط الهادئ في الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، لا تزال قاذفات اللهب موجودة في ترسانات العديد من الجيوش اليوم ويتم استخدامها غالبا لحرق الأراضي كجزء من الحرب النفسية ليبقى قاذف اللهب واحدا من أكثر الأسلحة المرعبة في سجلات الحروب الحديثة.
هوامش:
البانزاي: أو الهجوم الانتحاري. هو تكتيك من تكتيكات الجيش الامبراطوري الياباني، يقوم أساسا على اندفاع الجندي بسرعة عالية صوب العدو وفي يده سلاح مزود بحربة لطعن أي شخص في طريقه.
المصادر:
البداية:
أول ظهور لقاذفات اللهب الحديثة كان عام 1913 عندما قام مخترع ألماني يُدعى ريتشارد فيدلر بترويض اللهب وتحويله من وحش ضار لا يمكن التحكم به إلى سلاح فعال يمكن التحكم فيه. كانت الفكرة الأساسية من قاذف اللهب هي نشر النار ضد موقع العدو من خلال إطلاق دفعة مركزة من الوقود المحترق. لكن فيدلر لم يكن أول من جاء بفكرة تسليح النار إذ استخدمت من قبل في الأسهم وبعدها في القرن الخامس قبل الميلاد، في شكل أنابيب طويلة مملوءة بمواد مشتعلة مثل الفحم أو الكبريت، وكانت تُستخدم بنفس الطريقة التي يستخدم بها المرء بندقية النفخ. لكن قاذف اللهب الحديث كان أكثر وحشية إذ طور فيدلر نموذجين، سماهما "قاذف اللهب الكبير" وقاذف اللهب الصغير" للجيش الإمبراطوري للقيصر عام 1901 واستمر في تطويره لمدة 12 عامًا بسبب المشاكل التكنولوجية التي اعترضته وكذا التغلب على اعتراضات هيئة الأركان العامة الألمانية. في النهاية تم اعتماد كلا النموذجين من flammenwerfer - وهي كلمة ألمانية تعني "قاذف اللهب" - للاستخدام الميداني من قبل ثلاث كتائب تابعة لقوات "الصدمة" الخاصة التابعة للجيش الألماني خلال الحرب العالمية الأولى.
كان قاذف اللهب الأصغر والأخف وزنًا، kleinflammenwerfer، أو "قاذف اللهب الصغير"، مصممًا للاستخدام المحمول ويمكن أن يحمله رجل واحد. طريقة عمله كانت تشتمل على عنصرين هما الهواء المضغوط وثاني أكسيد الكربون أو النيتروجين كمحفز، كان قاذف اللهب هذا يطلق تيارًا من الزيت المحترق لمسافة 18 مترا وكانت مدة فعاليته قصيرة جدا لا تتجاوز دقيقتين بسبب خزان الوقود المحمول والذي يجب أن يكون خفيف الوزن وبالضرورة صغير الحجم والسعة، إضافة لمشكلة الحجم كان قاذف اللهب الصغير يعاني من مشكلة ثانية وهي ضرورة استبدال جهاز الاشعال في حالة الاستخدام المتقطع ما أدى إلى عمر افتراضي محدود لـ kleinflammenwerfer.
عمل النموذج الأكبر، grossflammenwerfer، أو "قاذف اللهب الكبير"، بطريقة مماثلة ولكن مدى فعاليته كان ضعف النموذج الأصغر تقريبًا. ويمكن أن يطلق نفاثة من اللهب لمدة 40 ثانية تقريبًا دون توقف ولكن عيبه كان استخدام المزيد من الوقود وبالتالي خزانا أكبر ما يعني حجما أكبر. كان القاذف ثقيلًا جدًا لدرجة أنه لا يمكن حمله وتشغيله بواسطة رجل واحد.
القاذف في يد قوات الصدمة الألمانية:
على الرغم من المشاكل، دخل كلا النموذجين الخدمة في الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الأولى. كان تأثيره عند استخدامه لأول مرة ضد القوات الفرنسية في أكتوبر 1914 ضخما وأثار ضجة واسعة في صفوف الجيوش الأخرى بسبب تصميمه والفكرة التي لم تجسد في الحرب من قبل، ومع ذلك، كان استخدامه من قبل القوات الألمانية متذبذبا ومحصورًا في جزء معزول من الجبهة الغربية، لكن سرعان ما مرت الصدمة الأولية والغموض حول هذا "السلاح العجيب" الجديد، وتبنت جيوش الحلفاء قاذف اللهب - الذي تم استخدامه بطرق غير أخلاقية ومناسبة لطبيعة الحرب العالمية الأولى التي كانت سيئة السمعة بشكل خاص نظرا لمحاولة كل جانب رفع مستوى الوحشية في تعامله مع الجانب الآخر (إقرأ مقال: وحشية الجيش الكندي في الحرب العالمية الأولى). الأمر الغريب في كل هذه الفوضى التي أحدثها قاذف اللهب هو أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت متأخرة، ولم تتبن قاذفة لهب خاصة بها أثناء الصراع. بل إن الجيش الأمريكي انتظر حتى عام 1940 ليطور قاذف لهب خاص به.
قوات الصدمة اعتبرت قاذفات اللهب نجاحا استراتيجيا فقررت استخدامه بشكل أساسي ضد كتيبة من جنود بريطانيين كانوا متحصنين في حفرة هوج، وهي منطقة عرفت مواجهة طويلة خلال حملة إيبرس سالينت في منطقة فلاندرز في بلجيكا. انطلقت قوات الصدمة الألمانية من مواقعها بعد الساعة الثالثة صباحًا بقليل في 30 يوليو 1915، واستخدمت قاذفة اللهب بفعالية، حيث رسم الجنود صورة مرعبة في الظلام بخزانات غاز محمولة مربوطة على ظهورهم وفوهات مضاءة متصلة بكل أسطوانة. أثبت الهجوم المفاجئ بالسلاح الجديد الغريب أنه فعال للغاية ضد البريطانيين الذين اضطروا للتراجع واستطاعوا صد هجوم قوات الصدمة رغم دفع خطهم ولكن بعد يومين من القتال العنيف، خسر البريطانيون 31 ضابطًا و751 رجلاً في أول مواجهة لهم مع قاذف اللهب.
بعد نجاح هجوم هوج، تبنى الجيش الألماني استخدام قاذفات اللهب على نطاق واسع في جميع جبهات القتال. واستُخدمت قاذفات اللهب في مجموعات تتألف كل منها من ستة أفراد، وكان كل جهاز يخدمه رجلان. وكان الهدف الرئيسي هو إبعاد خط الدفاع الأول للعدو في بداية الهجوم، للدفع بجنود المشاة دون صد عنيف. وكان مشغلو قاذفات اللهب أنفسهم يعيشون حياة محفوفة بالمخاطر على عدة مستويات. إذ كان السلاح في حد ذاته عدوا لمشغله بسبب إمكانية انفجار الأسطوانات التي تحمل الوقود في أي لحظة. إضافة لذلك كان هناك وسم على حاملي قاذفات اللهب في ساحة المعركة وكانت الأولوية لدى جنود العدو هي الإطاحة بحاملي قاذفات اللهب أولا لأنهم الخطر الأكبر وثانيا لأن خزانات الوقود التي كانوا يحملونها على ظهورهم كانت غير محصنة وبالتالي فإن إمكانية انفجارها بعد إطلاق النار عليها كانت عالية.
قاذف اللهب الأكبر رغم فعاليته إلا أنه كان غير محمول بسبب وزنه العالي.
ورغم الخطر الكبير الذي شكلته قاذفات اللهب إلا أن الجيش البريطاني كان مهتما بها. فقام بتجربة عدة نماذج محلية الصنع استعدادًا لهجوم السوم عام 1916. واستطاعوا بناء أربعة نماذج عملاقة تزن طنين تقريبًا، وتم تثبيتها مباشرة في الخنادق الأمامية التي كانت تبعد 54 مترا فقط من الخطوط الألمانية. تم تجميع كل سلاح بعناية قطعة بقطعة، ورغم أن الجيش الألماني تمكن من تدمير وحدتين بريطانيتين إلا أن الوحدات المتبقية أدت دورها بفعالية وأطلقت نيرانا يبلغ مداها حوالي 82 مترا لكن وزنها الثقيل وثباتها في مكان واحد جعلا الجيش البريطاني يتخلى عن الفكرة.
التجربة البريطانية أثبتت أن ميزة "القدرة على تحريك السلاح" كانت عاملا حاسما في تحديد الخدمة المستقبلية لقاذف اللهب. طور الفرنسيون وحدة محمولة مكونة من فرد واحد خاصة بهم تسمى schilt، بتصميم متفوق على النموذج الألماني، وتم استخدامها في هجمات الخنادق خلال عامي 1917 و1918. أنتج الألمان لاحقًا نسخة أخف وزنًا من flammenwerfer في عام 1917 والمعروفة باسم wex، والتي جاءت بميزة جديدة وهي الاشتعال الذاتي وجهاز اشتعال قابل لإعادة الاستخدام دون الحاجة لتغييره وهي مشكلة عانى منها الجهاز الأول. في المجموع، شن الألمان حوالي 650 هجومًا بقاذفات اللهب خلال الحرب العالمية الأولى وهو عدد ضخم لسلاح حديث الخدمة.
أيقونة الحرب النفسية:
استخدمت القاذفات لاحقا بطرق مبتكرة فكانت تستعمل لاختراق التحصينات عن طريق النوافذ والأبواب، وبالتالي يمكن استخدامها ضد العدو حتى عندما لا يكون في خط البصر المباشر، وحتى عندما لا تصل النيران إلى الجنود مباشرة، فإنها كانت تستهلك الكثير من الأكسجين خاصة في المساحات الضيقة ما يؤدي لحالات اختناق وموت، كما تم تطوير تقنية "الطلقة الرطبة" وهي تقنية رش كمية من الوقود في منطقة محددة واشعالها عن طريق دفعة لهب فتنتج كرة نارية ضخمة. ومع زيادة قدرتها على الحركة، أصبحت قاذفة اللهب أكثر رعبًا وتم تركيبها مع نهاية الحرب العالمية الأولى على الدبابات، وهو الابتكار الذي استمر إلى الحرب العالمية الثانية. أصبح قاذف اللهب سلاحًا فريدًا من نوعه يمكن استخدامه في العديد من المواقف مثل تدمير مواقع العدو، وتطهير مناطق شاسعة وحرمان العدو من الأرض والحشائش التي قد يستخدمها للاختباء والأهم من ذلك، إلحاق رعب نفسي شديد بالجنود المتأثرين به.
قاذف اللهب وحسب العديد من خبراء الأسلحة أمثال جوناثان فيرغسون، المكلف بالأسلحة والعتاد في المتحف الملكي للعتاد بالمملكة المتحدة، لم يكن سلاحا عمليا بتاتا وكان خطيرا على مستخدمه وعلى الكتيبة كلها بسبب إمكانية انفجاره في أي لحظة لكن فكرة قذف اللهب كانت نفسية أكثر منها استراتيجية، خاصة خلال الهجمات الليلية والهجمات على مساحات ضيقة مكتظة بالجنود الذين إما يموتون اختناقا أو حرقا في مساحة صغيرة، كانت نهاية مؤلمة ودافعا للتفكير أكثر من مرة قبل دخول الحرب، الموت برصاصة من رشاش أو بندقية كان أسرع لكن الموت حرقا كان بطيئا وقاسيا ووحشيا لحد كبير.
قاذف اللهب الأصغر غير تكتيكات الحرب.
القاذف في الحرب العالمية الثانية:
كان الطراز الأمريكي M2-2 هو أكثر قاذفات اللهب استخدامًا على الإطلاق خلال الحرب العالمية الثانية، وسبقه الطراز M1A1، الذي دخل الخدمة في عام 1942. وقد تم توزيع كلا الطرازين على الجيش وسلاح مشاة البحرية، وصنعت الولايات المتحدة ما يقرب من 25000 وحدة خلال الحرب واستخدم كلا الطرازين بشكل أساسي على الجبهتين خاصة عند مواجهة الجيش الإمبراطوري الياباني في جزر المحيط الهادئ. وكان الهدف منه تطهير مخابئ اليابانيين وقتل الجنود الانتحاريين الذي اعتمدوا على تقنية "البانزاي*". في إيو جيما وحدها، وصل حوالي 485 قاذف لهب إلى الشاطئ على ظهور الجنود أو على متن دبابات. لكنها لم تكن شائعة الاستخدام في المسرح الأوروبي، حيث تحرك القتال بسرعة كبيرة جدًا بحيث لم يتمكن الألمان من بناء تحصينات قوية تتطلب استخدام قاذفات اللهب لتحطيمها.
تطلب الطراز الأمريكي M2، مثل سابقاته في الحرب العالمية الأولى، فريقًا من الرجال لتشغيله واستخدم وقود الديزل أو البنزين العادي أو البنزين الهلامي، المعروف لاحقًا باسم النابالم. يتألف السلاح من شقين رئيسيين هما مجموعة الخزان ومجموعة المدافع. تزن مجموعة الخزان حوالي 30 رطلاً وتشتمل على خزانين للوقود وخزان هواء مضغوط ومنظم ضغط ورأسين أمان. تزن مجموعة المدافع ستة أرطال وتتكون من مدفع قاذف اللهب وخراطيم الوقود ومشغلين أحدهما لتشغيل تدفق الوقود والآخر لإشعال التيار باستخدام إحدى خراطيش الإشعال الخمسة المتوفرة. تزن الوحدة بأكملها 15 كيلوغراما فارغة و28 كيلوغراما عندما تمتلئ بالوقود والدافع. تم ربط الجهاز بالكامل بإطار العبوة بحزام سريع الفك في حالة اضطرار المشغل إلى التخلص من الوحدة على عجل ورغم أن النموذج الأمريكي اشتمل على تحسينات عديدة إلا أن سلامة المستخدم لم تتغير وكان كل ما يتطلبه الأمر هو طلقة واحدة نحو الخزان أو شظية فقط لإحداث انفجار ضخم. الأمر الآخر هو نظام الإشعال غير الموثوق به لمعظم النماذج الأمريكية، والذي يتطلب من المشغل استخدام ولاعة السجائر الشهيرة من نوع zippo لإشعال النار بشكل متكرر.
الطراز الأمريكي أصبح أيقونة في الثقافة الشعبية بظهوره في عدد من ألعاب الفيديو والأفلام.
كان الألمان، كما هو الحال مع معظم تقنياتهم، يطورون باستمرار قاذف اللهب طوال الحرب العالمية الثانية، مستخدمين ما لا يقل عن 10 نماذج مختلفة - ثابتة ومحمولة، محمولة على رجل أو على مركبة. كانت تشبه إلى حد كبير النماذج الأمريكية، باستثناء استخدام النيتروجين المضغوط لدفع الوقود بدلاً من الهواء المضغوط. استخدم أحد النماذج غير العادية خراطيش مسدس فارغة عيار 9 مم كنظام إشعال لكنه فقد حظوته لدى الألمان بعد استخدامه في غزو فرنسا خلال المراحل الأولى من الحرب واستمر استخدامه في العمليات الانتقامية طوال بقية الحرب، وخاصة كجزء من سياسات "الأرض المحروقة" النازية أثناء انسحابهم من روسيا في عام 1944.
لا تزال قاذفات اللهب موجودة في العديد من الترسانات العسكرية الحديثة:
كانت الولايات المتحدة الأمريكية من الدول القليلة التي استمرت في استخدام قاذفات اللهب إذ شهدت سلسلة M2 عودة في الحرب الكورية، قبل أن تحل محلها سلسلة M9A1 عام 1956. كانت سلسلة M9A1 الأخف وزنًا مشابهة لـ M2 ولكنها كانت تحتوي على زناد ضغط أعيد تصميمه ليكون ملائما أكثر لليد وحافظة لبندقية اللهب مثبتة على حزام لزيادة الأمان. استمر استخدام قاذف اللهب في فيتنام، حيث خلقت أنفاق قوات الفيت كونغ نفس المشاكل التكتيكية التي فرضتها الكهوف والمخابئ اليابانية في الحرب العالمية الثانية. كان قاذف اللهب فعالاً أيضًا في العمليات الهجومية ضد القرى والمباني الفيتنامية، والتي كانت مصنوعة إلى حد كبير من مواد سهلة التدمير. تم استبدال قاذف اللهب M9A1 في نهاية المطاف في الخدمة الأمريكية في عام 1974 بتكنولوجيا جديدة تمامًا، وهي قاذف الصواريخ الحارقة M202A1. سمح هذا السلاح بمدى وحماية أكبر لمستخدميه، ودقة أفضل، وفعالية أكبر ضد المركبات، والتي لا تستطيع قاذفات اللهب التقليدية مهاجمتها إلا في أندر الظروف، حيث تتطلب من المشغل الاقتراب بشكل خطير من هدف متحرك.
مع زيادة قدرة المشاة على الحركة، ومعها تطوير ذخيرة أكثر فعالية لتدمير التحصينات، تضاءل استخدام قاذف اللهب بشكل كبير بعد ذروته في الحرب العالمية الأولى وحملات المحيط الهادئ في الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، لا تزال قاذفات اللهب موجودة في ترسانات العديد من الجيوش اليوم ويتم استخدامها غالبا لحرق الأراضي كجزء من الحرب النفسية ليبقى قاذف اللهب واحدا من أكثر الأسلحة المرعبة في سجلات الحروب الحديثة.
هوامش:
البانزاي: أو الهجوم الانتحاري. هو تكتيك من تكتيكات الجيش الامبراطوري الياباني، يقوم أساسا على اندفاع الجندي بسرعة عالية صوب العدو وفي يده سلاح مزود بحربة لطعن أي شخص في طريقه.
المصادر:
يجب تسجيل الدخول لمشاهدة الروابط
⚟ هذا العضو في عطلة / إجازة. قد يتأخر وقت الاستجابة حتى تاريخ 2025/5/15 ⚞