التعديل الأخير بواسطة المشرف:
ألف حياة (بين الواقع والخيال ) عن تناسخ الأرواح نتحدث-2-
***
الحمار يدير الساقية مغمى العينين كالعادة ،صوت المفاصل المعدنية للساقية القديمة مع صوت خرير المياه شكل موسيقى تصويرية لمشهد أسطوري يجري هناك بجوار الساقية...
الأب عبد العال يقف كالصنم لا يتحرك ينظر إلي بقعة مضيئة ركع فيها الطفل علي الصغير.
ناظرًا إلي السماء بخشوع، رافعاً يديه لأعلى ومن حنجرته تخرج كلمات مبهمة غامضة بصوت مرتفع.
تجمد محمود في مكانه هو أيضاً، لم يفهم ماذا يحدث هنا؟!
أليس هذا هو أخيه علي الطفل ذو الستة أعوام؟!
ماذا يفعل؟!
بأي لغة يتحدث؟
لماذا يشعر أن ما يقال هو أشبه بصلاة.
نعم صلاة أو دعاء لا يعرف ما هو ولا ما معناه ولا لغته.
لماذا يشتم من الكلام لغة قديمة جداً، ليست مثل أي لغة أخرى معروفة؟
وكأن الطفل لا يشعر بوجودهم، واصل ما يفعل بينما لم يعرف الأب ولا محمود ما يفعلان.
اكتفيا بالمشاهدة وقد أسقط في أيديهم وعجزوا عن التصرف كما عجزوا عن الفهم.
مضت نحو نصف ساعة علي هذا الوضع، فجأة توقف علي عن الكلام وسقط أرضا, في هذه اللحظة تحرك الأب عبد العال ومحمود نحو الطفل بسرعة، يتفقدانه في قلق.
نسيا رعبهما مما كان يحدث منذ قليل.
لم يكن علي به أي إصابة أو أذى، كان مغشيا عليه فقط.
استيقظ علي هزات والده وأخيه، نظر إليهما ولم يبد أنه يفهم شيء علي الإطلاق.
عندما سألاه عما كان يفعل أوعن تلك اللغة التي كان يتحدث بها، لم يتذكر أي شيء لم يفهم عما يتحدثان أصلاً.
عندما سمعت الأم القصة، سقط قلبها بين قدميها خوفاً، لقد كانت تظن أنها واهمة وكانت تحلم عندما رأت علي يتحدث تلك اللغة الغريبة ,الحق أن تلك الفكرة قد أراحتها وقتها ولكن الآن تأكد أنها لم تكن تحلم أو تتوهم.
علي العشاء اجتمعت العائلة ولكن بعد أن نام علي, ودار نقاش حول الموضوع.
بالطبع لا تتوقع أن عائلة بتلك الدرجة من البساطة في الفكر والثقافة قد تفكر في أمراض نفسية أو غيرها, لم يكن هناك إلا فكرة واحدة تجول بالخواطر...
مس الجن.
وكان القرار بزيارة الشيخ "فتاح".
بالطبع الشيخ فتاح يمثل في القرية مركز ثقل كبير، إنه ذلك الرجل العراف الذي يأتي الناس إليه من كل أنحاء القرى بل والمحافظات المجاورة ليفك عمل لإحداهن أو يرشد عن شيء ثمين ضائع لأحدهم أو يعمل عمل لآخر.
الشيخ فتاح "مخاوي جن"
الشيخ فتاح هو من سوف يعرف .
وكان القرار.
وفي اليوم التالي ذهب عبد العال مصطحباً علي بعد العشاء إلى بيت الشيخ فتاح محاولا ألا يراهم أحد.
بينما كانت الأم في البيت مع محمود ينهشها القلق علي ابنها الصغير.
مضت نحو ساعتين علي رحيلهما ولكنهما مضتا كسنتين على الأم
وأخيراً أخيرًا, عاد الأب مع علي.
لم يكن يبدو عليهما الراحة ولا الاطمئنان، وبآخر ما تمتلك من قوة أعصاب سألت الأم:
ماذا حدث ؟ ماذا قال لكما الشيخ؟
أسرع الطفل إليها واحتضنها وقد انفجر في البكاء بينما نظر إليها عبد العال وقال باقتضاب وبلهجة حزينة:
قال لي اسأل زوجتك عما جرى لجدها.
عند تلك الجملة سقط قلبها بين قدميها رعبًا وبدا أن الأمور تأخذ منحنى أسوأ مما تصورت بكثير .
-----------------------------
-ماذا قال لك عن أبي بالضبط؟
سألت الأم وقد ذهب الدم منها عندما سمعت آخر جملة قالها عبد العال عن والدها...وقبل أن يرد عبد العال، أكملت ...
-وما علاقة أبي بابني علي؟
كان الضيق والحزن يظهر على وجه عبد العال، جلس علي كنبة خشبية في صالة بيته الريفي البسيط ونظر لزوجته بتركيز وقال:
طبعاً أنت تذكرين كيف مات والدك؟
سرحت المرأة بخيالها وبدت أمارات الحزن الشديد علي وجهها وهي تتذكر...
كانت صغيرة وقتها ولكنها كانت متزوجة عبد العال،
منذ عشرين عاماً بالضبط، كانت في هذا البيت.
جاء من يخبرها أن والدها قد مات.
وقتها شعرت بفزع لم تشعر به في حياتها، انطلقت كالمجنونة إلي بيت أهلها القريب من هنا، كانت والدتها وأختها تصرخان وتولولان بينما جاء بعض الجيران إلى بيتهم.
والدها كان مريض سكر، وكان رجلا طاعنًا في السن.
يبدو أن أجله قد انقضى.
حزنت وبكت وصرخت كما لم تفعل من قبل ،تقطعت عروقها ألمًا وحسرة علي والدها، رافقت الجنازة حتي المقابر رغم رفض رجال الأسرة لكن أحداً لم يستطع منعها هي ووالدتها.
قضت أسوأ ليلة في حياتها بالفعل، كان الحزن يخيم علي البيت والشارع وجزء كبير من البلد، لقد كان والدها رجلاً طيباً ومحبوباً من الكل بالفعل.
لكن ما حدث في الصباح كان غريبًا بحق.
غريباً ومخيفا.
لقد جاء "حسن التربي" المسؤول عن مدافنهم شرق النيل إلى بيتهم.
كان الرجل مرتبكًا ومنظره مريب بحق، طلب أن يقابل أخيها الأكبر، كان موجود في البيت يتلقى عزاء والده وبالصدفة كان زوجها عبد العال جالس معه.
استغرب أخيها وزوجها سبب هذه المقابلة في هذا الوقت..
انتظرا أن يتكلم حسن، لم يكن يبدو في حالته الطبيعية أبداً،
عيناه محمرتان بشدة وأسفلهما انتفاخ يدل على عدم نوم وقلق وحالة نفسية سيئة جداً..
بدأ يتحدث بارتباك شديد, حتى أنه لم يعرف كيف يبدأ.
جو من القلق والتوتر ساد الجلسة، أخيرا تحدث حسن:
"أمس بعد أن دفنا المرحوم والدك، عدت إلي بيتي، أنا أسكن قريباً من المقابر شرق النيل كما تعرفون، نمت علي الفور كان اليوم مرهقاً بشدة والحرارة شديدة.
استيقظت في المساء بعد أن تناولت العشاء بحثت عن ساعتي فلم أجدها،
هي ساعة غالية أحضرها لي والدي من العراق عندما كان يعمل هناك، بحثت في كل مكان لكن لا أثر لها.
ظللت أحاول أن أتذكر ..
هل كنت أرتديها وانا أفتح باب القبر الذي يخصكم لدفن والدك..
لكني لم أتذكر وفي نفس الوقت كدت أفقد عقلي بسبب تلك الساعة.
عندها قررت أن أقوم بمحاولة أخيرة للبحث عنها..
وبالفعل قررت أن أذهب للبحث عند القبر.
دفن الموتى هو عملي، أنا لا أخشى الموتى ولا أخشى القبور.
الليلة قمرية، الضوء يملأ المكان اقتربت من القبر وأنا ابحث وانتظر في لحظة أن أرى ساعتي تلمع هنا او هناك تحت ضوء القمر.
لكن عوضًا عن ذلك وما إن اقتربت من القبر حتي سمعت صوتاً مريباً جمد الدم في عروقي.
تجمدت مكاني لحظات أصغي السمع لعلي واهم أو لعله صوت ذئب هناك علي مبعدة أو حتي كلب ضال.
لكن الصوت كان مختلفا, كان صوتاً بشريا أو شبه بشري.
الحق أنني تسمرت في الأرض لم أستطع أن أتحرك لحظات حددت مصدر الصوت.
لقد كان قادماً من هناك.
من قبر والدكم.
---------------------------
* اتسعت العيون دهشة وفزع عندما قال حسن التربي جملته الأخيرة تلك..."الصوت كان قادم من قبر والدكم"
فزع عبد العال وأخو زوجته حتي أن أحدهما لم يجرؤ علي الكلام، أشار له عبد العال أن يكمل كلامه، فأكمل:
كأنه صوت بشري ينادي..
تعرفون علي من كان ينادي؟
كان ينادي علي أنا, أو هكذا تخيلت أني أسمع...
انتزعت نفسي انتزاعًا بعد أن تجمدت أرضاً من الرعب.
انطلقت بأقصى سرعة لا ألوي على شيء، اتعثر، أسقط وأقوم مرة أخرى، ظللت أجري وأجري بلا هدى حتي أنني عندما وصلت إلي شاطئ النيل لم أستطع أن أوقف نفسي فخضت في مياه النيل ووقعت فيها.
أخيرًا عدت إلي بيتي وأنا مبتل تماماً بكل ملابسي وعلي وجهي أمارات الرعب.
سألتني زوجتي بفزع عما حدث لي، طلبت منها برجاء وأنا أكاد أبكي ألا تتحدث بصوت مرتفع حتى لا تلفت الانتباه، وأن تطفئ كل الأنوار الموجودة في البيت وتغلق الأبواب جيدا.
لابد أنها ظنت أنني جننت.
لم أنم حتى الصباح، وأنا متوقع أن يأتي إلي صاحب الصوت في أي لحظة.
ما أن أشرقت الشمس حتي شعرت ببعض الأمان، انتظرت أول عبَّارة تعبر النيل من الشرق إلي هنا وجئت أخبرك.
----------------------------------------
* وقت طويل من الصمت عم الجلسة، حسن لم يعد لديه ما يقوله والآخران في ذهول مطلق لا يعرفا ما يقولان،
في النهاية تحدث أخي:
- هل عرف أحد تلك القصة منك؟
- لا، إطلاقا، لم أتفوه بكلمة لأحد ولا حتى زوجتي.
نظر أخي إلي زوجي عبد العال طويلاً، ثم نظر إلي حسن وقال:
- هيا بنا؟
- إلي أين؟
- إلي القبر.
يتبع...
أحمدعبدالرحيم
التعديل الأخير بواسطة المشرف: