الجزء الثاني لرواية كشاش الحمام (كيوبت)
الفصل الأول: دوران المحمل
——————————-
العام: 1246 ميلادية
المكان: وادي العلاّقي على بعد مائة وثمانون كيلومتر جنوب شرقي يبا سوان (أسوان حاليا).
جفت عروق الأرض ودها الإياس رحمها. للعام الثاني علي التوالي تضن السماء بأمطارها الحولية علي أهل الوادي، فما عادت مدلهمة ولا عادوا يلمحون رقع العشب الأخضر الرابية علي قطرات الرحمة والتى اعتادوها في مثل ذلك التوقيت لترعى عليها حلالهم غنم وإبل.
كثرت حومات الكواسر وأضحي صفيرها مألوفا لدى الرعاة جل أوقات النهار في عزف مرجف للقلوب تمسح بعيون ثاقبة كل بقعة فيه باحثة عن هائم جف حلقه وتخثر دمه فصار يبطئ من حركته قصرا في انتظار مصير متوقع.
أينما تولي ناظريك تبدو لك درجات متباينة بين البني والرمادي تحيلها شمس الغروب لوحة كهرمانية كئيبة قادمة من عوالم الرسام النرويجي إدوارد مونش.
في تلك الحقبة لم تكن المنطقة قد عرفت بعد مناجم الذهب، والعشائر النوبية فيها تحيا على الرعي وقطع الجرانيت من الجبال، ما جعل القحط رزيئة حدبت ظهورهم، زادتها قتامة أنباء تواترت مع الرحل العابرون القادمون من بقاع وادي النيل تشي بأن منسوبه ينحسر بدوره في سلوك غريب علي واحد من أعظم شرايين الكرم والجود على سطح المعمورة.
صلوا ودعوا، قدموا الأضاحي فداءا وتقربا إلى الخالق علها تحل بهم ساعة استجابة تدفع عنهم شظف غادر وتعيدهم حثيثا أدراج الحياة.
فوق واحدة من التراكيب الجرانيتية الملساء صعد "جمال الدين" الصبي ذو الأربعة عشر ربيعا حاملا بين يديه صحن أمتلأ عن نصفه بدماء لم تزل دافئة لذبيحة نحروها لتوهم، شرع يطبع أكفه الملطخة بها على الجدران في أزواج متقابلة ثم جفف يداه بحفنات من تراب وتربع جالسا القرفصاء ضاما ركبتاه بذراعيه نحو صدره رافعا رأسه الى السماء يترقب للغيوم طليعة أو نذير.
دون لتوه هنا دليل على الطاعة، أو هكذا صور له عقله الصغير، ما عليه إذن إلا أن ينتظر وأن يردد أدعية الإستسقاء التي علمه إياها سيده (جده). علمه أيضا أن الصبر مفتاح الفرج، وهو ما يعني حسب تقديره ساعة لا أكثر تتوسط بعدها الشمس كبد السماء وتأتي علي جلسته، عندها يري الله اكف الدماء فيرسل إلي الوادي سحبا حبلي رمادية.
وسط هجيج الرياح الجافة تذكر والده الراحل، ما كان الأب ليسمح أبدا بأن يلقى هو أو جده وأي من عشيرتهم معاناة كتلك، عرفه بارعا في إيجاد الحلول، ناجعا في التنفيذ، كان نجمه الذي إنكدر ولم يعد هنا.
داعبت أصابعه الحرز المعلق على شكل قلادة إلي حبل رفيع حول رقبته والذي يحوى حجر خفيف الوزن في حجم بيض اليمام، كان قد اهداه إياه الأب قبل وفاته.
يتذكر كلماته وقتها: " هذا يا ولدي حجر الشعرى القادم إلينا من وسط النجوم، في جوهره مورد الحكمة وعلم المستنير الحصيف، اجعله على مقربة منك، وهو لأكبر أبناؤك بعدك".
لم يفهم مقصده وقد بدا الحجر كقطعة جرانيت سوداء أخرى يراها في كل مكان، لكنه يبقى إرث أبيه الوحيد وذكراه المعلقة على مقربة من قلبه حيث يجب وأن تكون.
لا يتذكر أمه، رحلت هى الأخرى وهي تلده، وتأتيه فى أحلامه دائما مستترة الوجه.
مرت به خمس ساعات يبدل فيها موقعه بين الصخور متتبعا حركة الظل، صنع خلالها من عرق خشب يابس حربة تصلح للصيد برغم يقينه من إنعدام الفرص. في النهاية غلبه النعاس فنام بمكانه.
أفاق علي يد خشنة تربت برفق علي خديه، فتح عيناه ليطالع وجه جاف صارم له تضاريس تنافس المكان بأخاديد ومنحدرات جديرة بموقعها في علم الجغرافيا. هذا جده يوقظه بابتسامة من لا يعرف كيف يبتسم فبدت كتعبير عن معاناة شديدة من إحتباس غازات البطن.
"قم يا صبيح نجمع الحلال ونعاود"
يسعده دوما أن يناديه بإسم إشتهر به والده بين العشيرة، "صبيح" لا اسمه هو المركب "جمال الدين محسن". يجد الصبي في ذلك الاسم مدعاة فخره ويجد الجد عوضا وجبرا. نهض مستجيبا واتخذا سبيلهما مع الباقين نحو الديار ختاما لرحلة رعي إنعدمت مغانمها وأتت خسائرها على إحتمال التكرار.
في الطريق شق الجد صمت المسيرة مخاطبا إياه بلهجة آمرة:
"رتب حالك، فجر الجمعة نقصد وجه كريم"
كلمات قليلة خفق لها قلبه الصغير وقد لامسته أول موجة سعادة حقيقية منذ أعوام، أخيرا جاء القرار وتحدد موعد انتظره طويلا، قرار الهجرة نحو الشمال. كان أبناء عمومتهم قد سبقوهم إلى ضواحي الجيزة محولين حرفتهم هناك الي الزراعة وتجارة الأغنام وها هو دورهم قد حان في اتباع بصيص أمل واهن بعد أن لفظهم الوادي المتمرد وإنحسرت خياراتهم.
لم تكن الهجرة في ذاتها مصدر سعادته، وإنما هو وعد قديم لطالما أثار خياله، وعد قطعه له جده بأن يصطحبه لزيارة القطائع (حي العباسية الآن) عند أطراف قاهرة المعز ليقضيا هناك ليال ثلاث من الحلم في مسيرة تنتهي بهم عند أسوار الفسطاط يشهدا خلالها معا مهرجان دوران المحمل.
سوف تعانق عيناه هودج السلطانة شجر الدر، سوف ينسل بين الجموع ليمسح بأصابعه علي كسوة الكعبة، وسيحظى بالكثير من المرح وسط عروض عفاريت المحمل (المهرجون) وفقراتهم السحرية، بعدها يردد التسابيح وراء منشدي الجامع الأزهر ويستوصي الحجيج بالدعاء لهم تحت أستار البيت المعمور، ومن يدري، لربما وقع بين يديه درهم ذهبي مما يلقى به رجال الدفتردار على جموع السير من فوق ظهور جمالهم.
التوقيت مثالي، انتصف ربيع الثاني وإن جاورهم الحظ وسارت الأمور وفق ما خطط لها يصلون وجهتهم عند طلعة رجب، يبقى في جعبتهم بعدها شهرا كاملا يسمح بالزيارة.
إنطلق بهم ركب من عشرون فردا مع ما بقى حيا من اغنام وابل. برغم براعتهم في قراءة النجوم إلا أنهم تجنبوا الطرق المختصرة عامدين السير حذو النيل طمعا في السقيا وما تجود به ضفافه لحيواناتهم، تجبرهم التضاريس في بعض الأحيان على الخوض في غور الصحراء دون هاجس أو مخافة شئ، جميعهم ذا باع مع كل ضار وزاحف، فطن لشره.
لا يذكر صبيح كم من مرة طاردتهم فيها الذئاب، بل إنه كان يستمتع بالعرض وينتظره. في ليلة قمرية لحقهم قطيع منها يركضون خلف قائدهم حذو الركب من أعلى التل وعيونهم مصابيح مضيئة تعاين طوبوغرافية المكان وتجري حسابات الكر والفر. في حمائية وزعت كلاب الرعي نفسها حول القافلة وهي تنبح في شراسة، بينما أوقد الرجال عصي المشاعل الزيتية الضخمة.
يرفع جده عقيرته منشدا كلمات لها لحن ممدود القوافي تحسبه نحيبا إن سمعته من بعيد:
"أنا الحيران في تيه من زمان ومكان..
أنا الموجود وانا الذكري في دستورك..
جزوع ومنوع مراده حدك الغفران..
أتاك بقلبه الباغ وعقل فان..
بعير أعرج يساجل عاديات الريح..
وينحت كنف حافره سبيل نورك..
يا عالم السر يا كاشف الغم والكربات..
يا منجي يونس وأهل الكهف من ظلمات..
نظرة لعبيدك..
يا سعد حاله من والاه منظورك"
غناء هو أو عواء بشري مضاد، لكنه مثير للمشاعر مشعل للهمم، يردد وراءه الرجال في إيقاع منضبط ضاربين أقدامهم بالأرض في قوة كأنهم كورال مسرحي متمرس (الله .. حي). رسالة تحذير واضحة إلى الوحوش الليلية بأنهم مستنفرون بدورهم وليس بينهم من يصلح وجبة عشاء.
دقائق يدرك بعدها قطيع الذئاب إحكام حلقة النار وتمركز الكلاب ويلمحون السيوف بأيدي الرجال، يرجح قائدها صعوبة المهمة فيؤثر الإبتعاد مع عواء حسرة طويل.،معركة صوتية مجنونة شقت صمت ليل الفلاة، ألقى أطرافها بما لديهم، الجميع فيها ابن البيداء … الكل ذئب.
شهران من مواقف مشابهة وصلت بعدهما القافلة وجهتها. إلتقي صبيح هناك من يدعي ربيع، صبي من أبناء عمومتهم يكبره بعامين، كائن ثرثار يصعب إسكاته دون قتله، ممتلئ بحماس غير مبرر، فيه من طبائع أهل الشمال ما يغلب تكوين الشخصية النوبية المتحفظة.
بعد ساعتين فقط من مقابلته قرر ربيع أن صبيح صديق عمره، من واجبه أن يشاركه كل أسراره وما تعلمه من ألعاب وحيل، بينما تأتيه ردة فعل الأخير دوما على قدر من الفتور. إن زيارة دوران المحمل هي جل ما يشغل عقله الآن وهو موضوع وحيد يرحب بالحديث عنه، وقد طلب من ربيع صراحة في الأيام التالية أن يهمد قليلا ويرحمه من أفكاره ومشاريعه. لكن الأخير لا ييأس أبدا، أصر علي رفع درجة إثارة الشغف إلى حد تنعدم عنده قدرة صبيح على المقاومة.
"آه يا ذا الرأس النوبي الفارغ، يا مخ خارم بارم، هل توقفت أحلامك عند قطعة ذهب يلقى بها رجال السلطان الصالح؟ تعال وأطرق أذناك لمن يعلوك خبرة وطموحا، لمن روض البيداء حتى باحت له بخباياها. الآن أطلعك سرا شريطة أن تعاهدني على حفظه، خاصّة لن يعرفها سوانا وإثنان آخران من صبية العشيرة".
أومأ صبيح برأسه متشككا في إشارة لا يحتاجها ربيع على أية حال، سوف يبوح بما لديه حتي وإن هدده بهتك سره عند أحياء الأرض مجتمعين. تلفت الأخير يمينا ويسارا في توجس ثم شرع يحكي له عن الخبيئة.
ذاك الكنز الذي خلفه الأجداد القدماء في قبر دفين وسط خلاء سقارة القريب والذي ينتظر أصحاب الحظوة والسعد، قبر عثروا على مدخله من قبيل الصدفة وقتما كانوا يمرحون على مقربة من تماثيل السباع.
"في باطنه يا صبيح ترقد مجموعة من صناديق حجرية عملاقة، ونحن عازمون على العودة إليها مع بعض الأدوات. لا ريب أنها محملة بما يفوق خزائن أنوشيروان وتجار الكارمية إن إجتمعوا".
ثم دنا من وجهه أكثر وهو يطالع عينيه في ثبات، هامسا بصوت كالفحيح: "ولكن لا تقل أبدا أنني لم أحذرك أيها الصغير، هذه هبًة أولي البأس الأشداء ممن لا يهابون الظلام ولا ضنك الأماكن، إن قمت معنا فيها مقام الرجال وعاهدتنا عهدهم نخرج اربعتنا قبيل فجر الغد بينما الكل نيام قاصدين هناك، نهبط الى القبر ونجمع ما تقوى ظهورنا على حمله لنتقاسمه فيما بيننا ويعود كل منا لأهله بما قد غنم، فما قولك؟ "
لما شاهد اللمعة بعينا صبيح الشاردتين زفر بتنهيدة راحة، ربت بعدها على كتفه مهنئا وقام وعلى وجهه إبتسامة وغد راض تاركا الأخير في جب أحلام اليقظة، يري نفسه وقد ألقى تحت قدمي جده صاعين من ذهب ومثلهما من ياقوت ، يرى رجال العشيرة وقد حملوه على المحفة يطوفون به ويهتفون باسمه بعد أن بدل عوزهم وفاقتهم يسر ورخاء.
جاوز الليل منتصفه وإن كان مقدم الفجر ما زال بعيدا. يقف الصبية الأربعة قبالة تماثيل السباع الحجرية وسط ظلام مهيب بلا قمر بعد مسيرة مرهقة فوق ظهور البغال حاملين معهم قضبان حديدية وقناديل الزيت وبعضا من الحبال والأجولة.
يتوارى ثلاثتهم خلف صبيح وقد أرجفتهم كآبة المشهد ليلا كونهم لم يعتادوا المجئ الى هنا إلا فى وضح النهار. صحيح وأنه أصغرهم سنا لكنه اطولهم قامة وأعظمهم بنية، كما أن هدوءه الدائم وثباته أعطاهم انطباعا عاما عنه بالشجاعة والثقة بالنفس.
الحقيقة أن ثباته كان ظاهريا لا أكثر، يواري به بدوره شعور مقبض يثقل أنفاسه وبرودة تنشب في اوصاله وكتفيه مسببة رعدة خفيفة لم يلحظوها.
أستجمع نفسه وسألهم عن مدخل القبر فأطل ربيع برأسه من وراء كتفه وقد كان متعلقا بجلبابه من الخلف كطفل يخشي ان يضيع امه بالسوق وأشار في ارتعاش نحو آخر تماثيل الصف.
في بطء وتوجس تقدمهم الصبي إلى هناك، على مسافة غير بعيدة بدا لهم سور حجري صغير لا يجاوز ارتفاعه الظاهر الأذرع الثلاث وعرض يقل عن العشرة منها بينما يتوارى بقيته تحت الرمال. في منتصفه بدت فتحة تسمح بمرور شخص بالغ كانوا قد حاولوا مداراتها مستعينين ببعض الصخور وقتما جاءوا إلى المكان منذ يومين خشية أن يراها غيرهم فيحاول الدخول كما دخلوا.
تعاونوا على إزاحتها وأشعلوا القناديل الزيتية، ثم تبادلوا النظرات لمرة أخيرة عل عاقلا بينهم يطرح اقتراحا بالتراجع، لكن أيا منهم لم يفعل تجنبا لإتهامه بالجبن، لذا بدأوا ينزلقون منها داخلين بحذر الواحد تلو الآخر.
كان المهبط بمثابة عملية تزلج طويلة، كأن انهيارا رمليا قد أسقط باب او حاجز عند المدخل، هزة أرضية ربما، لا يعرف أي منهم كيف أعلن المدخل عن نفسه. في النهاية استوت الأرض تحت أقدامهم فإعتدلوا واقفين.
طالع صبيح المكان للمرة الأولى في إنبهار، كان عبارة عن نفق ممتد أو طرقة طويلة مرتفعة السقف لا يمكنه علي ضوء المشاعل المحدود أن يتبين أين تبدأ وأين تنتهي، لكنه يميز جيوبا مظلمة على كلا الجانبين كل عدة أذرع كأنها غرف محفورة بالأسفل على مستوى منخفض عن مستوى الممر الذي يقفون فوقه.
بحذر تحرك عدة خطوات وقرب المشعل الذي يحمله من إحداها فشاهد صندوق حجري هائل مستطيل الشكل يقبع داخله. هذا أضخم صندوق من حجر يمكن لعقله تصوره، كفيل وحده بإبتلاعهم جميعا مع البغال التي خلفوها بالأعلى فلا يظهر لهم طرف.
إلتفت صبيح نحو ربيع في حنق ونعته بالمخبول، كيف صور له عقله أن بإستطاعتهم تحريك غطاء حجري كهذا ولو بمقدار عقلة إصبع واحدة؟، رد الأخير في بلاهة:
"ولكنك تعمل في قطع الحجر مع جدك، حسبتك قادرا علي تدبير الوسيلة"
"أي وسيلة يا أحمق، هذا غطاء لا يقو على إزاحته إلا مائة أو أكثر من رجال نائب الحضرة الأجادل، ماذا عساهما وأن يفعلا قضيبان معوجان من حديد؟"
أسقط في ايديهم واعتراهم الصمت بعد أن انقلبت آمالهم حسرات. بعد نقاش سريع إتفقوا على توزيع أنفسهم والبحث عن صناديق أصغر هنا أو هناك، أيا مما يخف حمله ويعلو قدره، وذلك افضل من العودة بخفي حنين.
تقدم الثلاثة الآخرون أكثر الى عمق النفق في حين تقهقر صبيح إلى الخلف وقد قرر النزول إلى واحد من الجيوب السفلية عله يجد شيئا وراء الكابوس الحجري القابع فيه، خلع لفة الحبال التي كان يرتديها عن كتفه وربط طرفها بإحكام في أحد النتوءات البارزة من الجدار ثم تدلي بحرص تاركا المشعل أعلى الحافة ليرسل له بعض الضوء.
دار حول الصندوق ودار برأسه معه ألف سؤال عن محتواه. لماذا يصنع الأجداد حاوية بهذا الحجم؟ لا يمكن أبدا وأن يكون مرقدا لجثمان واحدا من ملوكهم مثلما كان يحكي رجال العشيرة عن آثارهم في يبا سوان، أكانوا حقا مردة وعماليق؟ ثم لماذا لا يلمح أى من نقوشهم على جدرانه من الخارج؟
لم يجد شيئا بالخلف، لا نتوءات او فتحات أخرى، لذا قرر ان يرتقي عائدا إلى الممر ويبحث في مكان آخر. في تلك اللحظة حدث آخر شئ يمكن ان يتمناه، إنطفأ المشعل وغرق المكان في ظلام ثقيل حالك لا يبصر معه كفا يديه.
تعجب لحدوث ذلك وهو الذي لم يستشعر أي تيار للهواء منذ أن هبطوا هنا وإلا ما جرؤ على تركه بالأعلى؟ نادي رفاقه عدة مرات ولدهشته لا يبدو وأن أحدهم قد سمعه، "أين ذهب هؤلاء الأغبياء؟"
يشعر بحرارة غريبة مصدرها منتصف صدره، تحديدا حيث حرز الحجر المعلق بمنتصفه. حسنا، انتهت المغامرة بالنسبة له عند ذلك الحد، سوف يتحسس طريقه حتى يجد طرف الحبل وبعدها يسحف عائدا إلى المنحدر الرملي المؤدي لفتحة الخروح وينتظرهم عند التماثيل الحجرية حيث مربط البغال ولتحل لعنة الله علي خطط واحلام ربيع وكنوز القدماء مجتمعة.
حرارة الحجر تزداد بسرعة حتى صارت تحرق جلبابه وجلده من تحته، كما أنه يهتز بعنف كذنب النحلة، خلعه عنه بسرعة والقى به ارضا قبل أن يثقب عظمة صدره وهو يتساءل في نفسه عما أصاب حجر الشعرى.
مسترشدا بجدار التابوت بدأ يدور حوله عائدا إلى حيث النقطة التي تدلي منها، عندها سمع الصوت:
"صبييح ح إنتظر..."
عميق، رخيم مثل فهد جبلي، صوت لا يمكن وأن يصدر أبدا عن نفر من رفاقه ولا عن أي حنجرة بشرية، صوت قادم من اللامكان، لا يشعر حتى وأنه قد مر عبر فتحتا أذنيه، كأنه ينبعث أو يتردد من داخل رأسه هو.
تجمد في مكانه للحظة وقلبه يحاول الوثوب خارج صدره، لا بد أن تأثير الظلام الحالك ورائحة المكان الثقيله قد تلاعبا بعقله وأصاباه بمس من الخرف والهلاوس السمعية. أتراهم إقتحموا واحدا من مساكن الجان؟، ولما لا، إن لم يسكنوا هنا فأين عساهم أن يسكنوا ؟ يجب أن يغادر ذلك المكان فورا.
حاول السير من جديد بخطوات أسرع لكن الصوت عاد يدوي في رأسه وبحدة آمرة أشد هذه المرة:
"صبيييح ح لا تذهب"
لا، هذا ليس وهما، هناك من يعرف إسمه هنا ويناديه، ومن الواضح أنه ليس من عالمنا، له الحق الآن أن يفزع، أن تنحل أعصابه وتخور قوى ركبتاه فلا تقدرا على حمله.
سقط أرضا وهو يصرخ فزعا ويجهش بالبكاء شاعرا بإنعدام الحيلة، أعجزه هلعه حتى عن غلق فمه أو تفسير شعوره بذلك الضغط الرهيب المتقطع الواقع علي طبلتي أذناه، كأنه يسمع نبضات قلبه وقد تضخمت ألف مرة حتى أوشكت على تفجيرهما، نبضات يقف شعر رأسه لقوتها وتنقبض وتنبسط لها عضلات ذراعاه وساقاه، نبضات تغتصب خلايا جسده.
بدأ يميز خط رفيع من ضوء أخضر يشق ظلمة المكان، وتبين له حثيثا أنه يشع في مكان ما بين جسم الصندوق وغطاؤه، ويشع معه علي ما بدا له حجر الشعرى الذي القاه على الارض منذ ثوان، يشتد الضوء ويخفت مع كل نبضة. رأى غطاء الصندوق الذي يزن أطنانا يرتفع في الهواء ببطء شديد حتي بلغت المسافة بينه وبين حافته ذراعان أو أكثر وصار الضوء المنبعث من داخله يملأ الحجرة بأكملها ويكشف تفاصيلها.
يري دخان أسود كثيف يتسلل خارجا من الصندوق مثل حية تتلوى، دخان يعج بآلاف من خيوط دقيقة من شرر أبيض مثل برق السماء، يجتمع في سقف الحجرة مشكلا سحابة تتخذ شكل أشبه بطائر عملاق يفرد جناحيه لكنه ذو رأس بلا ملامح بينما تضئ حوافه بذلك الضوء الأخضر الباهت.
كان الفتى يتأوه بعينان جاحظتان وفم فاغر يتدلى اللعاب من إحدى جانبيه عاجزا عن فهم كنه ما يطالعه.
فجأة هبط الطائر الدخاني بسرعة البرق بإتجاه وجهه داخلا إلى فمه وفتحتا أنفه دون أن يمنحه الفرصة لاغلاقه او الصراخ، إنتفض جسده مرتان بعنف شديد كمن ضربته صاعقة ثم فقد الوعي.
ساد الصمت بعدها، خبت الضوء وسكنت النبضات وهبط غطاء الصندوق إلى حافته كأن شيئا لم يحدث هنا.
مرت نصف ساعة تقريبا عاد بعدها الثلاثة الآخرون جارين اذيال الخيبة وقد فشلوا بدورهم في العثور على شئ. خشوا جميعم التوغل أكثر في متاهة الأنفاق كي لا يضلوا طريق العودة.
نادوا على صبيح مرارا فلم يجب، ومن الواضح أنهم لم يفطنوا لشئ مما دار معه. لما رأوا الحبل المتدلي وجهوا مشاعلهم نحو الحجرة السفلية ليلمحوه مستلق على ظهره غير واع. تدلي ربيع وآخر معه بسرعة ورفعا رأسه عن الأرض وهما يصفعانه برفق عده مرات حتى أفاق.
فتح عيناه يطالعهم في ثبات، سألوه عما حدث فلم يجب بكلمة، فقط تلفت حوله والتقط حرز الحجر ليعلقه علي رقبته مرة أخرى. تعاونوا على حمله صاعدين به عائدين أدراجهم نحو الخارج وقد عقدوا العزم على عدم تكرار تلك المغامرة الليلية الغبراء عديمة النتائج أو حتى إخبار أيا من الكبار عنها.
ليومان لم يلتق الفتية صبيح، مع بزوغ شمس اليوم الثالث كانوا يؤدون فروضهم اليومية المعتادة في اطعام وسقيا الإبل، هذا عندما انخرطا ذكران منها في عراك حامي الوطيس مطلقين رغاء حاد، مضاربة برية بالأعناق تنبئ بسقوط احداهما مكسورة. ولم يكن لديهم للاقتراب فيا ضيعة من له نصيب في ضربة طائشة.
حاولوا إلقاء الغريمين ببعض الماء علها تفتر حماستهما دون جدوى، وقبل ان ينطلق احدهم لمناداة الرجال لمحوا صبيح مقبلا عليهم، ومع مقدمه عاشوا مشهدا لن يمحى من ذاكرتهم ما حيوا.
شق الفتي طريقه في صمت مارا بينهم حتى بلغ الدوسران المتصارعان ثم أمسك برقابها كلا في يد ليتوقف القتال تماما و تهمد حركتهما، ثم أناخهما في بساطة فقعدا صاغرين.
جال بعينيه في المكان حتى لمح قدر الحلاب ملقى جانبا، تناوله وسار بضع خطوات بإتجاه واحدة من النوق واضعا إياه اسفل ضرعها. دون ان يلامسه انبثق عنه عامود رفيع من اللبن وكأن هناك من يقم بحلبه، كل ذلك والفتية يطالعون ما يحدث فاغرين أفواههم في بلاهة، التقط بعدها الصحن الممتلئ وغادر المكان في صمت.
في الليلة ذاتها، وبعد أن صلي العشاء تربع الجد جوار صبيح واضعا يده على رأسه يتلو عليه الرقية الشرعية، لما إنتهي نصحه بالنوم مبكرا فهم متوجهون عند الشروق نحو القطائع لزيارة دوران المحمل.
طالع وجهه ليرى أثر الخبر عليه، بدا كمن لم يسمعه على الإطلاق، فقط منحه نظرة زجاجية بلا أي تعبير. تعجب الجد وتساءل في نفسه: أهذا حفيده؟ أتراه هجر الوادي هو ما ألقى بنفسه كل هذا القدر من الكآبة؟
ما ضايقه أكثر هو تجاهله للرد عليه، كانت فظاظة خلق لم يعهدها منه يوما، لكنه آثر الصمت وقرر ان يتركه الآن لينام، لربما كان لديه ما يخبره به عند الصباح.
لكنه لم ينطق، اربعة ايام استغرقتها مسيرتهم والفتى والصمت قرينان، يتعامل في آليه وفي حدود الأوامر دون رد أو نقاش. لما وصلا الى القطائع توجها نحو "ميدان الرميلة" نقطة تنطلق عندها شرارة الإحتفال، تحديدا عند مسجد القاضي عبدالباسط بمنطقة يقال لها "الخرنفش".
وسط توافد الحجيج في زيهم الأبيض، جلسا يستظلان بشجرة باسقة منتظرين مقدم قضاة الأئمة الأربعة ومطلع الكسوة والهودج. كان الجد يؤشر على الحاضرين بالمكان ويشرح له كناهم وصفاتهم عله يثير شغفه وشوقه القديم ويدفعه نحو الحديث:
"أترى يا ولدي هؤلاء القوم ذوو اللحى الطليقة والجلابيب الفضفاضة؟ هم الدراويش، والجالس على مقربة منا هو من الزهاد أما التشريفات ذات الدواسر (الجمال الضخمة) الممهورة بالختم السلطانية فهؤلاء هم رجال الدفتردار (بيت المالية)، وهؤلاء مماليك خشداشية، والرايات الخضر بركن الميدان هناك لمنشدي الصوفية. أنظر، أنظر يا صبيح، قد حضرت جماعة من العفاريت، قم يا ولد، قم طالع لعبهم". لكن الأخير كصنم ساكن لا يبدو مكترثا بالمكان ولا بالحدث.
أقبل على مجلسهما أشيب هزيل يتكئ على عصاه. واحد من رهط الدراويش تزين صدره حفنة سلاسل من حبات عقيق ردئ الجودة، تعج اصابعه العشرة بحفنة خواتم ضخمة ويلف اربطة من قماش بال حول رسغيه، تجاوزهما بخطوتان ممسكا جرة من جرار السقيا المتراصة عند الشجرة ورفعها نحو فمه ليشرب، عندها التقت عيناه بعينا صبيح فتسمرت يداه.
بقى يحملق في وجه الفتى دون حراك في حين يطالعه الجل مستغربا بينما هو على وضعه هذا لما جاوز نصف الدقيقة تتسعا عيناه في ذعر واضح. ناداه الجد زاجرا:
"فيه شئ يا سيدنا؟"
لم يجب، بعد ثوان خفض يداه دون أن يشرب، ثم القى عصاه وعيناه لا تفارقا صبيح، واستدار بعدها منصرفا بخطوات بلهاء مثل طفل يتعلم المشي والجرة تتدلى من يده الأخرى ينسكب ما فيها من ماء على الأرض وهو يردد بصوت عال:
" اللهم ستر وحجاب، اللهم ذودك، اللهم ستر وحجاب، اللهم لطفك"
كرر العبارة مرارا وهو يبتعد الى ان غاب عن المشهد.
بعد لحظات هلل الحضور بالميدان وانطلقت مع تهاليلهم الزغاريد وقرع الطبول لمرأي الكسوة والهودج عند أطرافه، يتقدمهم القضاة وأمير الحجيج ومن خلفهم بدا ركب من الجمال تحمل لفات القماش الأسود الضخمة وأجولة الحبوب والمؤن، تحفهما جنائب الخاصكية (خيول أعوان السلطان) عن اليمين وعن اليسار.
بش وجه الجد وهب منتفضا ساحبا صبيح من يده يهرول به لينضما إلي المسيرة وهو يردد:
"هلم يا ولد، هي لحظة سعدك، اللهم تقبله منهم واطوي لهم البعد وردهم مغفور لهم، اللهم ألحقنا بهم، أقبل يا صبيح، أقبل يا ولدي"
ساروا خلف الركب على مقربة من الهودج المحلى بشرائط ملونة من الحرير تحمل الشعار السلطاني المذهب، بينما الجد يردد وراء المنشدين وصبيح باق على صمته يمشي في حركة آليه وهو ينقل عيناه بين السائرين.
دون سبب واضح أو مفهوم مال الهودج متجها للسقوط على إحدى جانبيه وبدا الجمل الضخم الذي يحمله عاجزا عن حفظ اتزانه وكأن قوة تدفعه ليهوي بحمله فوق المسيرة، اندفع صبيح بسرعة قافزا على أقرب الرجلين إلى الهودج دافعا إياهما بجسده مسافة إلى الأمام كي لا ينسحقا تحته وسط صراخ الحضور.
لما قام ثلاثتهم وإنتبه الجميع لما حدث، انشغل اغلب الناس في محاولات لإقامة الجمل وهم يعاينون أضرار الهودج وقد راعهم الفأل السئ. بينما إقترب أحد الرجلان اللذان أنقذهما صبيح وقد كان فتيا عظيم البنية ذا هيبة، إحدى عينيه زرقاء بينما تميل الأخرى الى اللون الرمادي يرتدي زيا عسكريا ينبئ وشاحه الأحمر على مقدمته عن مقام رفيع بين الأتابكة.
وضع الرجل يده على كتف الصبي معضدا ومخاطبا إياه بصوت أجش:
"مدين لك أيها الشاب، ما أسمك؟"
اندهش الجد عندما نطق حفيده للمرة الأولى منذ أيام:
"جمال الدين محسن بن صبيح المعظمي"
"لا يقو على فعلتك كثيرين يا إبن صبيح، بأي ديوان تخدم؟"
تدخل الجد سريعا في إرتباك:
"لا أحد يا بك، نحن رحل من الجنوب جئنا نتبرك بالكسوة"
نقل الأتابك بصره بينهما وتفرس بوجهيهما قليلا ثم قال مخاطبا صبيح:
"لك بنية فتية وأزر حصان، أو ترغب في الخدمة مع الخاصكية أو الخشداشية؟"
إتسعت عينا الجد ذعرا ورد في لهفة:
"يا زين فضلك وكرمك يابك لكننا عائدون اليوم إلى...... "
قاطع صبيح جده وهو يرمقه بنظرة حادة ألجمت لسانه وقطعت حروف كلماته قطعا:
"نعم أرغب".
الفصل الأول: دوران المحمل
——————————-
العام: 1246 ميلادية
المكان: وادي العلاّقي على بعد مائة وثمانون كيلومتر جنوب شرقي يبا سوان (أسوان حاليا).
جفت عروق الأرض ودها الإياس رحمها. للعام الثاني علي التوالي تضن السماء بأمطارها الحولية علي أهل الوادي، فما عادت مدلهمة ولا عادوا يلمحون رقع العشب الأخضر الرابية علي قطرات الرحمة والتى اعتادوها في مثل ذلك التوقيت لترعى عليها حلالهم غنم وإبل.
كثرت حومات الكواسر وأضحي صفيرها مألوفا لدى الرعاة جل أوقات النهار في عزف مرجف للقلوب تمسح بعيون ثاقبة كل بقعة فيه باحثة عن هائم جف حلقه وتخثر دمه فصار يبطئ من حركته قصرا في انتظار مصير متوقع.
أينما تولي ناظريك تبدو لك درجات متباينة بين البني والرمادي تحيلها شمس الغروب لوحة كهرمانية كئيبة قادمة من عوالم الرسام النرويجي إدوارد مونش.
في تلك الحقبة لم تكن المنطقة قد عرفت بعد مناجم الذهب، والعشائر النوبية فيها تحيا على الرعي وقطع الجرانيت من الجبال، ما جعل القحط رزيئة حدبت ظهورهم، زادتها قتامة أنباء تواترت مع الرحل العابرون القادمون من بقاع وادي النيل تشي بأن منسوبه ينحسر بدوره في سلوك غريب علي واحد من أعظم شرايين الكرم والجود على سطح المعمورة.
صلوا ودعوا، قدموا الأضاحي فداءا وتقربا إلى الخالق علها تحل بهم ساعة استجابة تدفع عنهم شظف غادر وتعيدهم حثيثا أدراج الحياة.
فوق واحدة من التراكيب الجرانيتية الملساء صعد "جمال الدين" الصبي ذو الأربعة عشر ربيعا حاملا بين يديه صحن أمتلأ عن نصفه بدماء لم تزل دافئة لذبيحة نحروها لتوهم، شرع يطبع أكفه الملطخة بها على الجدران في أزواج متقابلة ثم جفف يداه بحفنات من تراب وتربع جالسا القرفصاء ضاما ركبتاه بذراعيه نحو صدره رافعا رأسه الى السماء يترقب للغيوم طليعة أو نذير.
دون لتوه هنا دليل على الطاعة، أو هكذا صور له عقله الصغير، ما عليه إذن إلا أن ينتظر وأن يردد أدعية الإستسقاء التي علمه إياها سيده (جده). علمه أيضا أن الصبر مفتاح الفرج، وهو ما يعني حسب تقديره ساعة لا أكثر تتوسط بعدها الشمس كبد السماء وتأتي علي جلسته، عندها يري الله اكف الدماء فيرسل إلي الوادي سحبا حبلي رمادية.
وسط هجيج الرياح الجافة تذكر والده الراحل، ما كان الأب ليسمح أبدا بأن يلقى هو أو جده وأي من عشيرتهم معاناة كتلك، عرفه بارعا في إيجاد الحلول، ناجعا في التنفيذ، كان نجمه الذي إنكدر ولم يعد هنا.
داعبت أصابعه الحرز المعلق على شكل قلادة إلي حبل رفيع حول رقبته والذي يحوى حجر خفيف الوزن في حجم بيض اليمام، كان قد اهداه إياه الأب قبل وفاته.
يتذكر كلماته وقتها: " هذا يا ولدي حجر الشعرى القادم إلينا من وسط النجوم، في جوهره مورد الحكمة وعلم المستنير الحصيف، اجعله على مقربة منك، وهو لأكبر أبناؤك بعدك".
لم يفهم مقصده وقد بدا الحجر كقطعة جرانيت سوداء أخرى يراها في كل مكان، لكنه يبقى إرث أبيه الوحيد وذكراه المعلقة على مقربة من قلبه حيث يجب وأن تكون.
لا يتذكر أمه، رحلت هى الأخرى وهي تلده، وتأتيه فى أحلامه دائما مستترة الوجه.
مرت به خمس ساعات يبدل فيها موقعه بين الصخور متتبعا حركة الظل، صنع خلالها من عرق خشب يابس حربة تصلح للصيد برغم يقينه من إنعدام الفرص. في النهاية غلبه النعاس فنام بمكانه.
أفاق علي يد خشنة تربت برفق علي خديه، فتح عيناه ليطالع وجه جاف صارم له تضاريس تنافس المكان بأخاديد ومنحدرات جديرة بموقعها في علم الجغرافيا. هذا جده يوقظه بابتسامة من لا يعرف كيف يبتسم فبدت كتعبير عن معاناة شديدة من إحتباس غازات البطن.
"قم يا صبيح نجمع الحلال ونعاود"
يسعده دوما أن يناديه بإسم إشتهر به والده بين العشيرة، "صبيح" لا اسمه هو المركب "جمال الدين محسن". يجد الصبي في ذلك الاسم مدعاة فخره ويجد الجد عوضا وجبرا. نهض مستجيبا واتخذا سبيلهما مع الباقين نحو الديار ختاما لرحلة رعي إنعدمت مغانمها وأتت خسائرها على إحتمال التكرار.
في الطريق شق الجد صمت المسيرة مخاطبا إياه بلهجة آمرة:
"رتب حالك، فجر الجمعة نقصد وجه كريم"
كلمات قليلة خفق لها قلبه الصغير وقد لامسته أول موجة سعادة حقيقية منذ أعوام، أخيرا جاء القرار وتحدد موعد انتظره طويلا، قرار الهجرة نحو الشمال. كان أبناء عمومتهم قد سبقوهم إلى ضواحي الجيزة محولين حرفتهم هناك الي الزراعة وتجارة الأغنام وها هو دورهم قد حان في اتباع بصيص أمل واهن بعد أن لفظهم الوادي المتمرد وإنحسرت خياراتهم.
لم تكن الهجرة في ذاتها مصدر سعادته، وإنما هو وعد قديم لطالما أثار خياله، وعد قطعه له جده بأن يصطحبه لزيارة القطائع (حي العباسية الآن) عند أطراف قاهرة المعز ليقضيا هناك ليال ثلاث من الحلم في مسيرة تنتهي بهم عند أسوار الفسطاط يشهدا خلالها معا مهرجان دوران المحمل.
سوف تعانق عيناه هودج السلطانة شجر الدر، سوف ينسل بين الجموع ليمسح بأصابعه علي كسوة الكعبة، وسيحظى بالكثير من المرح وسط عروض عفاريت المحمل (المهرجون) وفقراتهم السحرية، بعدها يردد التسابيح وراء منشدي الجامع الأزهر ويستوصي الحجيج بالدعاء لهم تحت أستار البيت المعمور، ومن يدري، لربما وقع بين يديه درهم ذهبي مما يلقى به رجال الدفتردار على جموع السير من فوق ظهور جمالهم.
التوقيت مثالي، انتصف ربيع الثاني وإن جاورهم الحظ وسارت الأمور وفق ما خطط لها يصلون وجهتهم عند طلعة رجب، يبقى في جعبتهم بعدها شهرا كاملا يسمح بالزيارة.
إنطلق بهم ركب من عشرون فردا مع ما بقى حيا من اغنام وابل. برغم براعتهم في قراءة النجوم إلا أنهم تجنبوا الطرق المختصرة عامدين السير حذو النيل طمعا في السقيا وما تجود به ضفافه لحيواناتهم، تجبرهم التضاريس في بعض الأحيان على الخوض في غور الصحراء دون هاجس أو مخافة شئ، جميعهم ذا باع مع كل ضار وزاحف، فطن لشره.
لا يذكر صبيح كم من مرة طاردتهم فيها الذئاب، بل إنه كان يستمتع بالعرض وينتظره. في ليلة قمرية لحقهم قطيع منها يركضون خلف قائدهم حذو الركب من أعلى التل وعيونهم مصابيح مضيئة تعاين طوبوغرافية المكان وتجري حسابات الكر والفر. في حمائية وزعت كلاب الرعي نفسها حول القافلة وهي تنبح في شراسة، بينما أوقد الرجال عصي المشاعل الزيتية الضخمة.
يرفع جده عقيرته منشدا كلمات لها لحن ممدود القوافي تحسبه نحيبا إن سمعته من بعيد:
"أنا الحيران في تيه من زمان ومكان..
أنا الموجود وانا الذكري في دستورك..
جزوع ومنوع مراده حدك الغفران..
أتاك بقلبه الباغ وعقل فان..
بعير أعرج يساجل عاديات الريح..
وينحت كنف حافره سبيل نورك..
يا عالم السر يا كاشف الغم والكربات..
يا منجي يونس وأهل الكهف من ظلمات..
نظرة لعبيدك..
يا سعد حاله من والاه منظورك"
غناء هو أو عواء بشري مضاد، لكنه مثير للمشاعر مشعل للهمم، يردد وراءه الرجال في إيقاع منضبط ضاربين أقدامهم بالأرض في قوة كأنهم كورال مسرحي متمرس (الله .. حي). رسالة تحذير واضحة إلى الوحوش الليلية بأنهم مستنفرون بدورهم وليس بينهم من يصلح وجبة عشاء.
دقائق يدرك بعدها قطيع الذئاب إحكام حلقة النار وتمركز الكلاب ويلمحون السيوف بأيدي الرجال، يرجح قائدها صعوبة المهمة فيؤثر الإبتعاد مع عواء حسرة طويل.،معركة صوتية مجنونة شقت صمت ليل الفلاة، ألقى أطرافها بما لديهم، الجميع فيها ابن البيداء … الكل ذئب.
شهران من مواقف مشابهة وصلت بعدهما القافلة وجهتها. إلتقي صبيح هناك من يدعي ربيع، صبي من أبناء عمومتهم يكبره بعامين، كائن ثرثار يصعب إسكاته دون قتله، ممتلئ بحماس غير مبرر، فيه من طبائع أهل الشمال ما يغلب تكوين الشخصية النوبية المتحفظة.
بعد ساعتين فقط من مقابلته قرر ربيع أن صبيح صديق عمره، من واجبه أن يشاركه كل أسراره وما تعلمه من ألعاب وحيل، بينما تأتيه ردة فعل الأخير دوما على قدر من الفتور. إن زيارة دوران المحمل هي جل ما يشغل عقله الآن وهو موضوع وحيد يرحب بالحديث عنه، وقد طلب من ربيع صراحة في الأيام التالية أن يهمد قليلا ويرحمه من أفكاره ومشاريعه. لكن الأخير لا ييأس أبدا، أصر علي رفع درجة إثارة الشغف إلى حد تنعدم عنده قدرة صبيح على المقاومة.
"آه يا ذا الرأس النوبي الفارغ، يا مخ خارم بارم، هل توقفت أحلامك عند قطعة ذهب يلقى بها رجال السلطان الصالح؟ تعال وأطرق أذناك لمن يعلوك خبرة وطموحا، لمن روض البيداء حتى باحت له بخباياها. الآن أطلعك سرا شريطة أن تعاهدني على حفظه، خاصّة لن يعرفها سوانا وإثنان آخران من صبية العشيرة".
أومأ صبيح برأسه متشككا في إشارة لا يحتاجها ربيع على أية حال، سوف يبوح بما لديه حتي وإن هدده بهتك سره عند أحياء الأرض مجتمعين. تلفت الأخير يمينا ويسارا في توجس ثم شرع يحكي له عن الخبيئة.
ذاك الكنز الذي خلفه الأجداد القدماء في قبر دفين وسط خلاء سقارة القريب والذي ينتظر أصحاب الحظوة والسعد، قبر عثروا على مدخله من قبيل الصدفة وقتما كانوا يمرحون على مقربة من تماثيل السباع.
"في باطنه يا صبيح ترقد مجموعة من صناديق حجرية عملاقة، ونحن عازمون على العودة إليها مع بعض الأدوات. لا ريب أنها محملة بما يفوق خزائن أنوشيروان وتجار الكارمية إن إجتمعوا".
ثم دنا من وجهه أكثر وهو يطالع عينيه في ثبات، هامسا بصوت كالفحيح: "ولكن لا تقل أبدا أنني لم أحذرك أيها الصغير، هذه هبًة أولي البأس الأشداء ممن لا يهابون الظلام ولا ضنك الأماكن، إن قمت معنا فيها مقام الرجال وعاهدتنا عهدهم نخرج اربعتنا قبيل فجر الغد بينما الكل نيام قاصدين هناك، نهبط الى القبر ونجمع ما تقوى ظهورنا على حمله لنتقاسمه فيما بيننا ويعود كل منا لأهله بما قد غنم، فما قولك؟ "
لما شاهد اللمعة بعينا صبيح الشاردتين زفر بتنهيدة راحة، ربت بعدها على كتفه مهنئا وقام وعلى وجهه إبتسامة وغد راض تاركا الأخير في جب أحلام اليقظة، يري نفسه وقد ألقى تحت قدمي جده صاعين من ذهب ومثلهما من ياقوت ، يرى رجال العشيرة وقد حملوه على المحفة يطوفون به ويهتفون باسمه بعد أن بدل عوزهم وفاقتهم يسر ورخاء.
جاوز الليل منتصفه وإن كان مقدم الفجر ما زال بعيدا. يقف الصبية الأربعة قبالة تماثيل السباع الحجرية وسط ظلام مهيب بلا قمر بعد مسيرة مرهقة فوق ظهور البغال حاملين معهم قضبان حديدية وقناديل الزيت وبعضا من الحبال والأجولة.
يتوارى ثلاثتهم خلف صبيح وقد أرجفتهم كآبة المشهد ليلا كونهم لم يعتادوا المجئ الى هنا إلا فى وضح النهار. صحيح وأنه أصغرهم سنا لكنه اطولهم قامة وأعظمهم بنية، كما أن هدوءه الدائم وثباته أعطاهم انطباعا عاما عنه بالشجاعة والثقة بالنفس.
الحقيقة أن ثباته كان ظاهريا لا أكثر، يواري به بدوره شعور مقبض يثقل أنفاسه وبرودة تنشب في اوصاله وكتفيه مسببة رعدة خفيفة لم يلحظوها.
أستجمع نفسه وسألهم عن مدخل القبر فأطل ربيع برأسه من وراء كتفه وقد كان متعلقا بجلبابه من الخلف كطفل يخشي ان يضيع امه بالسوق وأشار في ارتعاش نحو آخر تماثيل الصف.
في بطء وتوجس تقدمهم الصبي إلى هناك، على مسافة غير بعيدة بدا لهم سور حجري صغير لا يجاوز ارتفاعه الظاهر الأذرع الثلاث وعرض يقل عن العشرة منها بينما يتوارى بقيته تحت الرمال. في منتصفه بدت فتحة تسمح بمرور شخص بالغ كانوا قد حاولوا مداراتها مستعينين ببعض الصخور وقتما جاءوا إلى المكان منذ يومين خشية أن يراها غيرهم فيحاول الدخول كما دخلوا.
تعاونوا على إزاحتها وأشعلوا القناديل الزيتية، ثم تبادلوا النظرات لمرة أخيرة عل عاقلا بينهم يطرح اقتراحا بالتراجع، لكن أيا منهم لم يفعل تجنبا لإتهامه بالجبن، لذا بدأوا ينزلقون منها داخلين بحذر الواحد تلو الآخر.
كان المهبط بمثابة عملية تزلج طويلة، كأن انهيارا رمليا قد أسقط باب او حاجز عند المدخل، هزة أرضية ربما، لا يعرف أي منهم كيف أعلن المدخل عن نفسه. في النهاية استوت الأرض تحت أقدامهم فإعتدلوا واقفين.
طالع صبيح المكان للمرة الأولى في إنبهار، كان عبارة عن نفق ممتد أو طرقة طويلة مرتفعة السقف لا يمكنه علي ضوء المشاعل المحدود أن يتبين أين تبدأ وأين تنتهي، لكنه يميز جيوبا مظلمة على كلا الجانبين كل عدة أذرع كأنها غرف محفورة بالأسفل على مستوى منخفض عن مستوى الممر الذي يقفون فوقه.
بحذر تحرك عدة خطوات وقرب المشعل الذي يحمله من إحداها فشاهد صندوق حجري هائل مستطيل الشكل يقبع داخله. هذا أضخم صندوق من حجر يمكن لعقله تصوره، كفيل وحده بإبتلاعهم جميعا مع البغال التي خلفوها بالأعلى فلا يظهر لهم طرف.
إلتفت صبيح نحو ربيع في حنق ونعته بالمخبول، كيف صور له عقله أن بإستطاعتهم تحريك غطاء حجري كهذا ولو بمقدار عقلة إصبع واحدة؟، رد الأخير في بلاهة:
"ولكنك تعمل في قطع الحجر مع جدك، حسبتك قادرا علي تدبير الوسيلة"
"أي وسيلة يا أحمق، هذا غطاء لا يقو على إزاحته إلا مائة أو أكثر من رجال نائب الحضرة الأجادل، ماذا عساهما وأن يفعلا قضيبان معوجان من حديد؟"
أسقط في ايديهم واعتراهم الصمت بعد أن انقلبت آمالهم حسرات. بعد نقاش سريع إتفقوا على توزيع أنفسهم والبحث عن صناديق أصغر هنا أو هناك، أيا مما يخف حمله ويعلو قدره، وذلك افضل من العودة بخفي حنين.
تقدم الثلاثة الآخرون أكثر الى عمق النفق في حين تقهقر صبيح إلى الخلف وقد قرر النزول إلى واحد من الجيوب السفلية عله يجد شيئا وراء الكابوس الحجري القابع فيه، خلع لفة الحبال التي كان يرتديها عن كتفه وربط طرفها بإحكام في أحد النتوءات البارزة من الجدار ثم تدلي بحرص تاركا المشعل أعلى الحافة ليرسل له بعض الضوء.
دار حول الصندوق ودار برأسه معه ألف سؤال عن محتواه. لماذا يصنع الأجداد حاوية بهذا الحجم؟ لا يمكن أبدا وأن يكون مرقدا لجثمان واحدا من ملوكهم مثلما كان يحكي رجال العشيرة عن آثارهم في يبا سوان، أكانوا حقا مردة وعماليق؟ ثم لماذا لا يلمح أى من نقوشهم على جدرانه من الخارج؟
لم يجد شيئا بالخلف، لا نتوءات او فتحات أخرى، لذا قرر ان يرتقي عائدا إلى الممر ويبحث في مكان آخر. في تلك اللحظة حدث آخر شئ يمكن ان يتمناه، إنطفأ المشعل وغرق المكان في ظلام ثقيل حالك لا يبصر معه كفا يديه.
تعجب لحدوث ذلك وهو الذي لم يستشعر أي تيار للهواء منذ أن هبطوا هنا وإلا ما جرؤ على تركه بالأعلى؟ نادي رفاقه عدة مرات ولدهشته لا يبدو وأن أحدهم قد سمعه، "أين ذهب هؤلاء الأغبياء؟"
يشعر بحرارة غريبة مصدرها منتصف صدره، تحديدا حيث حرز الحجر المعلق بمنتصفه. حسنا، انتهت المغامرة بالنسبة له عند ذلك الحد، سوف يتحسس طريقه حتى يجد طرف الحبل وبعدها يسحف عائدا إلى المنحدر الرملي المؤدي لفتحة الخروح وينتظرهم عند التماثيل الحجرية حيث مربط البغال ولتحل لعنة الله علي خطط واحلام ربيع وكنوز القدماء مجتمعة.
حرارة الحجر تزداد بسرعة حتى صارت تحرق جلبابه وجلده من تحته، كما أنه يهتز بعنف كذنب النحلة، خلعه عنه بسرعة والقى به ارضا قبل أن يثقب عظمة صدره وهو يتساءل في نفسه عما أصاب حجر الشعرى.
مسترشدا بجدار التابوت بدأ يدور حوله عائدا إلى حيث النقطة التي تدلي منها، عندها سمع الصوت:
"صبييح ح إنتظر..."
عميق، رخيم مثل فهد جبلي، صوت لا يمكن وأن يصدر أبدا عن نفر من رفاقه ولا عن أي حنجرة بشرية، صوت قادم من اللامكان، لا يشعر حتى وأنه قد مر عبر فتحتا أذنيه، كأنه ينبعث أو يتردد من داخل رأسه هو.
تجمد في مكانه للحظة وقلبه يحاول الوثوب خارج صدره، لا بد أن تأثير الظلام الحالك ورائحة المكان الثقيله قد تلاعبا بعقله وأصاباه بمس من الخرف والهلاوس السمعية. أتراهم إقتحموا واحدا من مساكن الجان؟، ولما لا، إن لم يسكنوا هنا فأين عساهم أن يسكنوا ؟ يجب أن يغادر ذلك المكان فورا.
حاول السير من جديد بخطوات أسرع لكن الصوت عاد يدوي في رأسه وبحدة آمرة أشد هذه المرة:
"صبيييح ح لا تذهب"
لا، هذا ليس وهما، هناك من يعرف إسمه هنا ويناديه، ومن الواضح أنه ليس من عالمنا، له الحق الآن أن يفزع، أن تنحل أعصابه وتخور قوى ركبتاه فلا تقدرا على حمله.
سقط أرضا وهو يصرخ فزعا ويجهش بالبكاء شاعرا بإنعدام الحيلة، أعجزه هلعه حتى عن غلق فمه أو تفسير شعوره بذلك الضغط الرهيب المتقطع الواقع علي طبلتي أذناه، كأنه يسمع نبضات قلبه وقد تضخمت ألف مرة حتى أوشكت على تفجيرهما، نبضات يقف شعر رأسه لقوتها وتنقبض وتنبسط لها عضلات ذراعاه وساقاه، نبضات تغتصب خلايا جسده.
بدأ يميز خط رفيع من ضوء أخضر يشق ظلمة المكان، وتبين له حثيثا أنه يشع في مكان ما بين جسم الصندوق وغطاؤه، ويشع معه علي ما بدا له حجر الشعرى الذي القاه على الارض منذ ثوان، يشتد الضوء ويخفت مع كل نبضة. رأى غطاء الصندوق الذي يزن أطنانا يرتفع في الهواء ببطء شديد حتي بلغت المسافة بينه وبين حافته ذراعان أو أكثر وصار الضوء المنبعث من داخله يملأ الحجرة بأكملها ويكشف تفاصيلها.
يري دخان أسود كثيف يتسلل خارجا من الصندوق مثل حية تتلوى، دخان يعج بآلاف من خيوط دقيقة من شرر أبيض مثل برق السماء، يجتمع في سقف الحجرة مشكلا سحابة تتخذ شكل أشبه بطائر عملاق يفرد جناحيه لكنه ذو رأس بلا ملامح بينما تضئ حوافه بذلك الضوء الأخضر الباهت.
كان الفتى يتأوه بعينان جاحظتان وفم فاغر يتدلى اللعاب من إحدى جانبيه عاجزا عن فهم كنه ما يطالعه.
فجأة هبط الطائر الدخاني بسرعة البرق بإتجاه وجهه داخلا إلى فمه وفتحتا أنفه دون أن يمنحه الفرصة لاغلاقه او الصراخ، إنتفض جسده مرتان بعنف شديد كمن ضربته صاعقة ثم فقد الوعي.
ساد الصمت بعدها، خبت الضوء وسكنت النبضات وهبط غطاء الصندوق إلى حافته كأن شيئا لم يحدث هنا.
مرت نصف ساعة تقريبا عاد بعدها الثلاثة الآخرون جارين اذيال الخيبة وقد فشلوا بدورهم في العثور على شئ. خشوا جميعم التوغل أكثر في متاهة الأنفاق كي لا يضلوا طريق العودة.
نادوا على صبيح مرارا فلم يجب، ومن الواضح أنهم لم يفطنوا لشئ مما دار معه. لما رأوا الحبل المتدلي وجهوا مشاعلهم نحو الحجرة السفلية ليلمحوه مستلق على ظهره غير واع. تدلي ربيع وآخر معه بسرعة ورفعا رأسه عن الأرض وهما يصفعانه برفق عده مرات حتى أفاق.
فتح عيناه يطالعهم في ثبات، سألوه عما حدث فلم يجب بكلمة، فقط تلفت حوله والتقط حرز الحجر ليعلقه علي رقبته مرة أخرى. تعاونوا على حمله صاعدين به عائدين أدراجهم نحو الخارج وقد عقدوا العزم على عدم تكرار تلك المغامرة الليلية الغبراء عديمة النتائج أو حتى إخبار أيا من الكبار عنها.
ليومان لم يلتق الفتية صبيح، مع بزوغ شمس اليوم الثالث كانوا يؤدون فروضهم اليومية المعتادة في اطعام وسقيا الإبل، هذا عندما انخرطا ذكران منها في عراك حامي الوطيس مطلقين رغاء حاد، مضاربة برية بالأعناق تنبئ بسقوط احداهما مكسورة. ولم يكن لديهم للاقتراب فيا ضيعة من له نصيب في ضربة طائشة.
حاولوا إلقاء الغريمين ببعض الماء علها تفتر حماستهما دون جدوى، وقبل ان ينطلق احدهم لمناداة الرجال لمحوا صبيح مقبلا عليهم، ومع مقدمه عاشوا مشهدا لن يمحى من ذاكرتهم ما حيوا.
شق الفتي طريقه في صمت مارا بينهم حتى بلغ الدوسران المتصارعان ثم أمسك برقابها كلا في يد ليتوقف القتال تماما و تهمد حركتهما، ثم أناخهما في بساطة فقعدا صاغرين.
جال بعينيه في المكان حتى لمح قدر الحلاب ملقى جانبا، تناوله وسار بضع خطوات بإتجاه واحدة من النوق واضعا إياه اسفل ضرعها. دون ان يلامسه انبثق عنه عامود رفيع من اللبن وكأن هناك من يقم بحلبه، كل ذلك والفتية يطالعون ما يحدث فاغرين أفواههم في بلاهة، التقط بعدها الصحن الممتلئ وغادر المكان في صمت.
في الليلة ذاتها، وبعد أن صلي العشاء تربع الجد جوار صبيح واضعا يده على رأسه يتلو عليه الرقية الشرعية، لما إنتهي نصحه بالنوم مبكرا فهم متوجهون عند الشروق نحو القطائع لزيارة دوران المحمل.
طالع وجهه ليرى أثر الخبر عليه، بدا كمن لم يسمعه على الإطلاق، فقط منحه نظرة زجاجية بلا أي تعبير. تعجب الجد وتساءل في نفسه: أهذا حفيده؟ أتراه هجر الوادي هو ما ألقى بنفسه كل هذا القدر من الكآبة؟
ما ضايقه أكثر هو تجاهله للرد عليه، كانت فظاظة خلق لم يعهدها منه يوما، لكنه آثر الصمت وقرر ان يتركه الآن لينام، لربما كان لديه ما يخبره به عند الصباح.
لكنه لم ينطق، اربعة ايام استغرقتها مسيرتهم والفتى والصمت قرينان، يتعامل في آليه وفي حدود الأوامر دون رد أو نقاش. لما وصلا الى القطائع توجها نحو "ميدان الرميلة" نقطة تنطلق عندها شرارة الإحتفال، تحديدا عند مسجد القاضي عبدالباسط بمنطقة يقال لها "الخرنفش".
وسط توافد الحجيج في زيهم الأبيض، جلسا يستظلان بشجرة باسقة منتظرين مقدم قضاة الأئمة الأربعة ومطلع الكسوة والهودج. كان الجد يؤشر على الحاضرين بالمكان ويشرح له كناهم وصفاتهم عله يثير شغفه وشوقه القديم ويدفعه نحو الحديث:
"أترى يا ولدي هؤلاء القوم ذوو اللحى الطليقة والجلابيب الفضفاضة؟ هم الدراويش، والجالس على مقربة منا هو من الزهاد أما التشريفات ذات الدواسر (الجمال الضخمة) الممهورة بالختم السلطانية فهؤلاء هم رجال الدفتردار (بيت المالية)، وهؤلاء مماليك خشداشية، والرايات الخضر بركن الميدان هناك لمنشدي الصوفية. أنظر، أنظر يا صبيح، قد حضرت جماعة من العفاريت، قم يا ولد، قم طالع لعبهم". لكن الأخير كصنم ساكن لا يبدو مكترثا بالمكان ولا بالحدث.
أقبل على مجلسهما أشيب هزيل يتكئ على عصاه. واحد من رهط الدراويش تزين صدره حفنة سلاسل من حبات عقيق ردئ الجودة، تعج اصابعه العشرة بحفنة خواتم ضخمة ويلف اربطة من قماش بال حول رسغيه، تجاوزهما بخطوتان ممسكا جرة من جرار السقيا المتراصة عند الشجرة ورفعها نحو فمه ليشرب، عندها التقت عيناه بعينا صبيح فتسمرت يداه.
بقى يحملق في وجه الفتى دون حراك في حين يطالعه الجل مستغربا بينما هو على وضعه هذا لما جاوز نصف الدقيقة تتسعا عيناه في ذعر واضح. ناداه الجد زاجرا:
"فيه شئ يا سيدنا؟"
لم يجب، بعد ثوان خفض يداه دون أن يشرب، ثم القى عصاه وعيناه لا تفارقا صبيح، واستدار بعدها منصرفا بخطوات بلهاء مثل طفل يتعلم المشي والجرة تتدلى من يده الأخرى ينسكب ما فيها من ماء على الأرض وهو يردد بصوت عال:
" اللهم ستر وحجاب، اللهم ذودك، اللهم ستر وحجاب، اللهم لطفك"
كرر العبارة مرارا وهو يبتعد الى ان غاب عن المشهد.
بعد لحظات هلل الحضور بالميدان وانطلقت مع تهاليلهم الزغاريد وقرع الطبول لمرأي الكسوة والهودج عند أطرافه، يتقدمهم القضاة وأمير الحجيج ومن خلفهم بدا ركب من الجمال تحمل لفات القماش الأسود الضخمة وأجولة الحبوب والمؤن، تحفهما جنائب الخاصكية (خيول أعوان السلطان) عن اليمين وعن اليسار.
بش وجه الجد وهب منتفضا ساحبا صبيح من يده يهرول به لينضما إلي المسيرة وهو يردد:
"هلم يا ولد، هي لحظة سعدك، اللهم تقبله منهم واطوي لهم البعد وردهم مغفور لهم، اللهم ألحقنا بهم، أقبل يا صبيح، أقبل يا ولدي"
ساروا خلف الركب على مقربة من الهودج المحلى بشرائط ملونة من الحرير تحمل الشعار السلطاني المذهب، بينما الجد يردد وراء المنشدين وصبيح باق على صمته يمشي في حركة آليه وهو ينقل عيناه بين السائرين.
دون سبب واضح أو مفهوم مال الهودج متجها للسقوط على إحدى جانبيه وبدا الجمل الضخم الذي يحمله عاجزا عن حفظ اتزانه وكأن قوة تدفعه ليهوي بحمله فوق المسيرة، اندفع صبيح بسرعة قافزا على أقرب الرجلين إلى الهودج دافعا إياهما بجسده مسافة إلى الأمام كي لا ينسحقا تحته وسط صراخ الحضور.
لما قام ثلاثتهم وإنتبه الجميع لما حدث، انشغل اغلب الناس في محاولات لإقامة الجمل وهم يعاينون أضرار الهودج وقد راعهم الفأل السئ. بينما إقترب أحد الرجلان اللذان أنقذهما صبيح وقد كان فتيا عظيم البنية ذا هيبة، إحدى عينيه زرقاء بينما تميل الأخرى الى اللون الرمادي يرتدي زيا عسكريا ينبئ وشاحه الأحمر على مقدمته عن مقام رفيع بين الأتابكة.
وضع الرجل يده على كتف الصبي معضدا ومخاطبا إياه بصوت أجش:
"مدين لك أيها الشاب، ما أسمك؟"
اندهش الجد عندما نطق حفيده للمرة الأولى منذ أيام:
"جمال الدين محسن بن صبيح المعظمي"
"لا يقو على فعلتك كثيرين يا إبن صبيح، بأي ديوان تخدم؟"
تدخل الجد سريعا في إرتباك:
"لا أحد يا بك، نحن رحل من الجنوب جئنا نتبرك بالكسوة"
نقل الأتابك بصره بينهما وتفرس بوجهيهما قليلا ثم قال مخاطبا صبيح:
"لك بنية فتية وأزر حصان، أو ترغب في الخدمة مع الخاصكية أو الخشداشية؟"
إتسعت عينا الجد ذعرا ورد في لهفة:
"يا زين فضلك وكرمك يابك لكننا عائدون اليوم إلى...... "
قاطع صبيح جده وهو يرمقه بنظرة حادة ألجمت لسانه وقطعت حروف كلماته قطعا:
"نعم أرغب".