- المشاهدات: 68
- الردود: 1
صور مكررة
في تمام الساعة الواحدة ظهرًا أركض نحو باب المدرسة، فما زال صغيري في أيامه الأولى، أخشى التأخير عليه، أخبرتني معلمته أنه لم يعد يبكي كما حدث في اليوم الأول، لكنني أتعجل خوفًا ألا يجدتي في انتظاره. يخبرني عامل الأمن أن موعد خروجهم تغير، فتأجل قليلًا بعد تعديلات أجرتها المدرسة.
آثناء انتظاري خرجت أعداد من تلاميذ أكبر عمرًا من ابني علي، فتعجبت متسائلًا:
- أي صف يخرج الآن.
فيجيب العامل:
- دول تلاميذ تالته ورابعه.
- لكن أزاي يخرجوا قبل سنة أولى وتانيه.
- بسبب النظام التعليمي الجديد، ده كل شوية نظام جديد، وكله على دماغنا.
أحسست إن الرجل بالكاد يعرف القليل، وليس لديه تفاصيل عن طبيعة التغيير أو أهدافه المنشودة، تركته وارتكنت إلى أحد الزوايا، لكن خروج الأولاد واندفاعهم في ضجة أثار فضولي، راقبتهم وتابعت تصرفاتهم، لفت انتباهي ولد يسير في معية والده، فيجذب الأب يده ليمسك به، لكن الولد يتهرب ويفلت منه، يعنفه الرجل بكلماته، فيرضخ صاغرًا.
على الفور استدعت ذاكرتي أيام طفولتي، تلك الأيام التي ولت سريعًا كطيف عجول لم يتمهل، أعادت الذاكرة صورتي وأنا أفلت كف أبي، كنت أشعر أنها تحاصرني وتقيد حريتي، والكلمات ذاتها تتردد حتى الآن في أذني.
- أنا خايف عليك من الطريق.
- بس أنا كبرت يا بابا وأقدر أمشي لوحدي.
كان بهدوء ينظر في وجهي، يتأملني، ثم يحررني، فأنطلق لأسير في محازاته.
كانت تقودني دائما المشاعر، فتقذف بي حيث تشاء، مهما حاولت أن أغلب كفة العقل، لكنني لم أفلح، ربما عاد هذا لحس مرهف لمسه من أحاطوا بي؛ لذا كانت دائمًا دموعي قريبة وتأثري بأبسط المواقف مبالغ فيه إلى حد كبير.
حينما كنت أرتكب خطأ، لا أجد إلا حضن أمي يحتويني، فازداد تعلقي وارتباطي بها، تغفر لي، في الوقت الذي يصرخ أبي في وجهي، يعنفني للدرجة التي كانت تصل أحيانًا إلى الضرب، فلا يمر الموقف مرور الكرام إلا في حالات نادرة، ربما كان ينشغل حينها في أمر أكثر أهمية أو أشد خطورة من جرمي الطفولي.
احساس دائم بالتعاطف والاحتواء من جانب وبالغلظة والقسوة من جانب أخر، دفعني للارتباط بأخوالي وخالاتي
أكثر من أعمامي وعماتي، فقضيت في بيوتهم ومع أولادهم الكثير من الأوقات، نمرح ونلعب بساعات من السعادة والبهجة، فلا أَملّ الجلوس بينهم.
أغدقت عليّٓ أمي من مالها كلما طلبت منها، بينما كان أبي لا يعيرني أدنى اهتمام، كلماته كانت دائمًا نصائح لنعتمد على أنفسنا، فتقوى شخصياتنا ويمكننا مواجهة
ظروف الحياة، لكنني بعد سنوات طويلة مرت، تزوجت وأنجبت البنات والبنين، اجتاحتني مشاعر مشتتة بين الشفقة على والدي، فأحسست بجميع ما اعتصر قلبه
وخوفه الحقيقي علينا، وبين الندم على ضيقي وقتها، فأشكو منه ومن معاملته.
رغم شكوتي وضيقي، لم أشعر يومًا بتقصيره، ملابسي التي كنت أطلبها، كتبي وأدوات مدرستي حتى اشتراك النادي في أجازة الصيف كانت تلبى لي، فلم ينقصني شيئًا، لكنني رغم ذلك لم أشعر بالرضا، فكانت رغباتي أكثر كثيرًا، لذا لم أكن على وفاق معه.
اتهمته بين أصدقائي وأقاربي بقسوة القلب، لم يدللني كهذه المسكينة التي كانت الأقرب مني بعطفها، صوته العالي كان في أوقات كثيرة مصدر خوفي ورعبي، بين الأصدقاء والأقارب لم يتوان عن صراخه في وجهي، فانسحب سريعًا كي أبكي في خلوتي، وحينما يناديني مرة أخرى أعود إليه صاغرًا، لكنه لم يلمح دموعي التي تبقت أثارها على وجنتي.
ذات يوم دعا إلى بيتنا جمع من زملائه للإفطار في رمضان، الجو كان شديد الحرارة والصيام أفقدني تركيزي، أعدت أمي أشهى المأكولات، رائحة نفاذة تخللت أنفي وتسللت إلى أنوف المدعوين، أقترب أذان المغرب ليعلن نهاية الشقاء الذي مر بنا وأطاح بتفكيرنا، زعق بصوته الجهوري لنعد السفرة، فنرص عليها أطباق الطعام. في عجل تحركت ملبيًا النداء، لكنني لم أستطع تنفيذ جميع أوامره، ارتبكت، ففقدت توازني، انفلتت الصينية بما عليها من أطباق عامرة بما لذ وطاب، فوجدت يد أبي تطيح بي؛ لتلصقني في حائط الحجرة.
التف حولي الجميع، حاولوا تهدئتي وامتصاص غضبه، ازداد هلعي، فاختبأت بعيدًا، مر وقت طويل، انقضى موعد المغرب والعشاء وثبت في مكاني، لم أفكر في العودة ولم أدر ماذا حدث، هل انصرف الضيوف أم لا؟ هل تناولوا الإفطار أم لا؟
عجز عقلي عن طرد الأفكار التي سيطرت عليه طيلة هذا الوقت، تخيلته وهو يستكمل تعذيبي، يدفعني لأعلى في الهواء، وسرعان ما أهوى على الأرض، يقيدني بعدها بالحبال كما هددني أكثر من مرة.
لكنني لم احتمل، حينما ازداد قرص الجوع لمعدتي الخاوية عدت، قدمت اعتذاري عما بدر مني من خطأ غير مقصود، سامحني والدي، علمت أنه كان هناك الكثير من الطعام، تناولوا ضيوفنا الإفطار بشهية وأثنوا على صنعه.
مرت الأيام سريعة، وقبل امتحانات الثانوية العامة بفترة يسيرة مرضت مرضًا شديدًا، أصابتني حمى انتشرت في كل مكان وقتها، ارتفعت درجة حرارتي لتتجاوز الأربعين، ترددت على عيادات الأطباء، لكن الحرارة ظلت على ارتفاعها، طلبوا مني فحصوات وتحاليل طبية، حينما قمت بها وأطلعوا على نتائجها، أكدوا لي الإصابة بالحمى، لذا احتجزت في المستشفى.
هزل جسمي وضعفت مقاومتي، فمرت الأيام عصيبة، حتى أنني كدت أفقد الأمل في الشفاء وعودتي لطبيعتي، في هذه الأثناء أقترب مني والدي كثيرًا، لم يتركني بمفردي فريسة للمرض، للمرة الأولى ألمح الخوف في عينيه، تبدلت قسوته ليحل العطف بدلًا منها، كان يربت على كتفي، فتقوى عزيمتي، شعرت أنه صديق مقرب يحكي معي بود، سهر بجانبي، حرص على مواعيد أدويتي حتى تماثلت بعد فترة للشفاء.
بعد هذه التجربة كنت مدلل عند الجميع، تستجاب رغباتي بمجرد طلبها، يخشون أن تصيبني حمى جديدة.
حينما صرخ صغيري مستقبلًا الحياة، تلمست خطوات أبي من جديد، فاختلطت بداخلي احاسيس كثيرة، من خوف وقلق وحب وقسوة.
دق جرس المدرسة ليقطع ابني شرودي، انتبهت، أمسكت بيده الصغيرة، لكنه أفلت يده مني؛ ليسير وحيدًا بجانبي، فأشده بين حين وآخر خوفًا عليه من الطريق، وهو يقول:
- أنا كبرت يا بابا وأقدر أمشي لوحدي.
في تمام الساعة الواحدة ظهرًا أركض نحو باب المدرسة، فما زال صغيري في أيامه الأولى، أخشى التأخير عليه، أخبرتني معلمته أنه لم يعد يبكي كما حدث في اليوم الأول، لكنني أتعجل خوفًا ألا يجدتي في انتظاره. يخبرني عامل الأمن أن موعد خروجهم تغير، فتأجل قليلًا بعد تعديلات أجرتها المدرسة.
آثناء انتظاري خرجت أعداد من تلاميذ أكبر عمرًا من ابني علي، فتعجبت متسائلًا:
- أي صف يخرج الآن.
فيجيب العامل:
- دول تلاميذ تالته ورابعه.
- لكن أزاي يخرجوا قبل سنة أولى وتانيه.
- بسبب النظام التعليمي الجديد، ده كل شوية نظام جديد، وكله على دماغنا.
أحسست إن الرجل بالكاد يعرف القليل، وليس لديه تفاصيل عن طبيعة التغيير أو أهدافه المنشودة، تركته وارتكنت إلى أحد الزوايا، لكن خروج الأولاد واندفاعهم في ضجة أثار فضولي، راقبتهم وتابعت تصرفاتهم، لفت انتباهي ولد يسير في معية والده، فيجذب الأب يده ليمسك به، لكن الولد يتهرب ويفلت منه، يعنفه الرجل بكلماته، فيرضخ صاغرًا.
على الفور استدعت ذاكرتي أيام طفولتي، تلك الأيام التي ولت سريعًا كطيف عجول لم يتمهل، أعادت الذاكرة صورتي وأنا أفلت كف أبي، كنت أشعر أنها تحاصرني وتقيد حريتي، والكلمات ذاتها تتردد حتى الآن في أذني.
- أنا خايف عليك من الطريق.
- بس أنا كبرت يا بابا وأقدر أمشي لوحدي.
كان بهدوء ينظر في وجهي، يتأملني، ثم يحررني، فأنطلق لأسير في محازاته.
كانت تقودني دائما المشاعر، فتقذف بي حيث تشاء، مهما حاولت أن أغلب كفة العقل، لكنني لم أفلح، ربما عاد هذا لحس مرهف لمسه من أحاطوا بي؛ لذا كانت دائمًا دموعي قريبة وتأثري بأبسط المواقف مبالغ فيه إلى حد كبير.
حينما كنت أرتكب خطأ، لا أجد إلا حضن أمي يحتويني، فازداد تعلقي وارتباطي بها، تغفر لي، في الوقت الذي يصرخ أبي في وجهي، يعنفني للدرجة التي كانت تصل أحيانًا إلى الضرب، فلا يمر الموقف مرور الكرام إلا في حالات نادرة، ربما كان ينشغل حينها في أمر أكثر أهمية أو أشد خطورة من جرمي الطفولي.
احساس دائم بالتعاطف والاحتواء من جانب وبالغلظة والقسوة من جانب أخر، دفعني للارتباط بأخوالي وخالاتي
أكثر من أعمامي وعماتي، فقضيت في بيوتهم ومع أولادهم الكثير من الأوقات، نمرح ونلعب بساعات من السعادة والبهجة، فلا أَملّ الجلوس بينهم.
أغدقت عليّٓ أمي من مالها كلما طلبت منها، بينما كان أبي لا يعيرني أدنى اهتمام، كلماته كانت دائمًا نصائح لنعتمد على أنفسنا، فتقوى شخصياتنا ويمكننا مواجهة
ظروف الحياة، لكنني بعد سنوات طويلة مرت، تزوجت وأنجبت البنات والبنين، اجتاحتني مشاعر مشتتة بين الشفقة على والدي، فأحسست بجميع ما اعتصر قلبه
وخوفه الحقيقي علينا، وبين الندم على ضيقي وقتها، فأشكو منه ومن معاملته.
رغم شكوتي وضيقي، لم أشعر يومًا بتقصيره، ملابسي التي كنت أطلبها، كتبي وأدوات مدرستي حتى اشتراك النادي في أجازة الصيف كانت تلبى لي، فلم ينقصني شيئًا، لكنني رغم ذلك لم أشعر بالرضا، فكانت رغباتي أكثر كثيرًا، لذا لم أكن على وفاق معه.
اتهمته بين أصدقائي وأقاربي بقسوة القلب، لم يدللني كهذه المسكينة التي كانت الأقرب مني بعطفها، صوته العالي كان في أوقات كثيرة مصدر خوفي ورعبي، بين الأصدقاء والأقارب لم يتوان عن صراخه في وجهي، فانسحب سريعًا كي أبكي في خلوتي، وحينما يناديني مرة أخرى أعود إليه صاغرًا، لكنه لم يلمح دموعي التي تبقت أثارها على وجنتي.
ذات يوم دعا إلى بيتنا جمع من زملائه للإفطار في رمضان، الجو كان شديد الحرارة والصيام أفقدني تركيزي، أعدت أمي أشهى المأكولات، رائحة نفاذة تخللت أنفي وتسللت إلى أنوف المدعوين، أقترب أذان المغرب ليعلن نهاية الشقاء الذي مر بنا وأطاح بتفكيرنا، زعق بصوته الجهوري لنعد السفرة، فنرص عليها أطباق الطعام. في عجل تحركت ملبيًا النداء، لكنني لم أستطع تنفيذ جميع أوامره، ارتبكت، ففقدت توازني، انفلتت الصينية بما عليها من أطباق عامرة بما لذ وطاب، فوجدت يد أبي تطيح بي؛ لتلصقني في حائط الحجرة.
التف حولي الجميع، حاولوا تهدئتي وامتصاص غضبه، ازداد هلعي، فاختبأت بعيدًا، مر وقت طويل، انقضى موعد المغرب والعشاء وثبت في مكاني، لم أفكر في العودة ولم أدر ماذا حدث، هل انصرف الضيوف أم لا؟ هل تناولوا الإفطار أم لا؟
عجز عقلي عن طرد الأفكار التي سيطرت عليه طيلة هذا الوقت، تخيلته وهو يستكمل تعذيبي، يدفعني لأعلى في الهواء، وسرعان ما أهوى على الأرض، يقيدني بعدها بالحبال كما هددني أكثر من مرة.
لكنني لم احتمل، حينما ازداد قرص الجوع لمعدتي الخاوية عدت، قدمت اعتذاري عما بدر مني من خطأ غير مقصود، سامحني والدي، علمت أنه كان هناك الكثير من الطعام، تناولوا ضيوفنا الإفطار بشهية وأثنوا على صنعه.
مرت الأيام سريعة، وقبل امتحانات الثانوية العامة بفترة يسيرة مرضت مرضًا شديدًا، أصابتني حمى انتشرت في كل مكان وقتها، ارتفعت درجة حرارتي لتتجاوز الأربعين، ترددت على عيادات الأطباء، لكن الحرارة ظلت على ارتفاعها، طلبوا مني فحصوات وتحاليل طبية، حينما قمت بها وأطلعوا على نتائجها، أكدوا لي الإصابة بالحمى، لذا احتجزت في المستشفى.
هزل جسمي وضعفت مقاومتي، فمرت الأيام عصيبة، حتى أنني كدت أفقد الأمل في الشفاء وعودتي لطبيعتي، في هذه الأثناء أقترب مني والدي كثيرًا، لم يتركني بمفردي فريسة للمرض، للمرة الأولى ألمح الخوف في عينيه، تبدلت قسوته ليحل العطف بدلًا منها، كان يربت على كتفي، فتقوى عزيمتي، شعرت أنه صديق مقرب يحكي معي بود، سهر بجانبي، حرص على مواعيد أدويتي حتى تماثلت بعد فترة للشفاء.
بعد هذه التجربة كنت مدلل عند الجميع، تستجاب رغباتي بمجرد طلبها، يخشون أن تصيبني حمى جديدة.
حينما صرخ صغيري مستقبلًا الحياة، تلمست خطوات أبي من جديد، فاختلطت بداخلي احاسيس كثيرة، من خوف وقلق وحب وقسوة.
دق جرس المدرسة ليقطع ابني شرودي، انتبهت، أمسكت بيده الصغيرة، لكنه أفلت يده مني؛ ليسير وحيدًا بجانبي، فأشده بين حين وآخر خوفًا عليه من الطريق، وهو يقول:
- أنا كبرت يا بابا وأقدر أمشي لوحدي.