- المشاهدات: 64
- الردود: 2
منذ صغري كان أبي مظلتي التي تحميني من المطر، لم يسمح لي باللعب تحته، ولا مداعبة قطراته، ولا ارتشاف القليل منه. كنت أراقب المطر من الداخل بحزن، أرى الأمنذطفال يتقافزون، يركضون، يمرغون ثيابهم بالوحل، فيشتعل شعور الحرمان داخلي، أتوق لعصيان الأوامر لكنني أهاب العقوبة التي تنتظرني.
يقول أبي:"المطر يسبب التهابات رئوية"، وقتها كنت أظنها كذبة من كذباته ليحرمني ما أحب!
كان يقرر عني في كل صغيرة وكبيرة؛ اشربي الحليب قبل أن النوم، اشتري تلك التنورة وليس ذاك الفستان، لا تأكلي البوظة التي يبيعها صاحب العربة. لن تبيتي عند خالتك، لن تذهبي إلى المدرسة إلا برفقتي، لن تزوري الجيران إلا مع والدتك!
ظن أنه يحميني من الأذى، لكنه في الواقع كان يحرمني سعادتي، يرغمني على فعل ما يحب هو وأكره أنا، وقتها ارتسم في مخيلتي كوحش شرس يسرق الفرح من قلوب الأطفال!
هو لم يكن شريراً، ولا أريد إثبات ذلك، لكنه لم يحاول يوماً أن يفهمني، لم يتقرب مني، لم يحضنني أو يُقبِّلني،لم يفتح حديثاً ودياً معي غير:"دلكي لي قدمي"، لم يحكي لي قصص ما قبل النوم، علي بابا، و سندريلا، و ذات الرداء الأحمر لم أسمع عنها إلا من زميلاتي في المدرسة،طفولتي كانت عبارة عن مصباح مُطفأ أهلكه الحرمان.
كنت أنتظر أن يقول:" فخور بك ياابنتي" عندما تفوقت للمرة الأولى بعد تكرار رسوبي، أن يُضاحكني في المدرسة مرة لأفخر به أمام زميلاتي، أن يحاول مساعدتي في حل أحد واجباتي.
التربية في نظره مجرد أن يوصلني إلى المدرسة يومياً، ويسأل المعلمين عن أدائي ويوصيهم علي، أن يقهرني عندما أتسيبُ عن دراستي، أن يصيح في وجهي عندما أرسب في إحدى المواد!
لكنه لم ينتبه لذلك العنكبوت الصغير الذي بدأ يغزل شباكه على قلبي، شباك واهنة من كُره أقرع كانت تُنسج ببطء مع كل حرمان أتعرض له. أذكر أنني في إحدى الليالي نمت أتوسد دموعي من قهره و رددتُ في نفسي:"ياليته لم يكن والدي!".
سألتُ والدتي في أحد الأيام: "لماذا هو قاسِ هكذا؟! " كادت عيناها تحتقن بالدموع، وهي التي نالت النصيب الأكبر من قسوته، من أوامره حرمانه. الصراخ لغة حديثه، والضرب منهجه عندما يثور غضبه، أمي تلقت القسط الأكبر من لكماته وهي تحاول إبعاده عنا في جلسات التعذيب التي كان يفرضها علينا!
أمي لم تكن تحب الصراخ لكنها تعلمته على يديه، وكان لا يتردد في أتفه جدال أن يصفعها،أن يهينها ويمسح كرامتها، أن يرميها بأقرب قطعة أثاث تقع في يديه. لطالما حاولت أن تنهي حياتها معه لكنها كانت تتراجع و تشفق علينا.
مع ذلك لم تحاول أن تشوه صورته في نظري وردت:" لا تقولي هذا، أنت لا تعرفين شيئاً"، ظلبتُ منها أن توضح أكثر لكنها تهربت من الإجابة وغيرت مجرى الحديث قائلة:"ستعرفين يوماً". ما الذي لا أعرفه عن والدي يا ترى؟! هناك جزء مخفي من الحكاية لابد أن تكشفه الأيام.
اليوم وأنا أنظر إليه مستلقياً على فراشه، هادئاً على غير عادته، شبه مبتسم على عكس طبيعته، مغمضاَ عينيه بسلام يناقض شجيته، تتعالى أصوات الجميع عداه، سمعتُ صوته الغليظ في أعماقي! كان يتردد صداه داخلي وهو يقول كما اعتاد في هذا الجو الماطر:" أغلقي الشبابيك بسرعة...
اجمعي الغسيل قبل أن يتبلل...
أدخلي فراشي قبل أن تبدأ بالهطول".
شبح ابتسامة ارتسم على شفتيّ، فلعنتُ نفسي! هل أنا مجنونة؟! هل هذا وقت مناسب للضحك؟!
الجميع كان منشغلاً بوالدي، وللصدفة المريرة رفعت والدتي رأسها فلمحت ابتسامتي، تمنيت لو تنشق الأرض وتبلعني، ماذا ستقول عني؟! قاسية، لا إحساس ولا ضمير ولا تقدير!
تركت أمي مكانها قربه وزحفت ببطء لتقترب مني، أمرتني بأن أتبعها إلى غرفة أخرى وسط نظرات الجميع المستهجنة، ماذا يمكن أن ترغب بقوله لي في هذا الوقت تحديداً؟!
تبعتُها إلى الغرفة المجاورة فأغلقت الباب علينا، حدجتني بنظرات ثاقبة لأول مرة أراها منها، بدأت تمسحني بعينيها من أعلى لأسفل بنظرات نارية، بنبرة تهزمها المرارة تقول:"سعيدة أليس كذلك؟ لقد تحررتِ أخيراً! "
ُصعقت من سؤالها وتسلقت صفرةٌ وجهي، اكتفيت بخفض بصري دون رد، أردفت بصوت مبحوح بعد أن تنهدت بمرارة:"والدك عاش يتيماً، أمه ماتت قبل أن يكمل العامين، تزوج والده، ورماه لخالته لتعتني به، اضطر لترك المدرسة ليبحث عن عمل يشتري به صندلاً وثياياً يرتديها يوم العيد، تنقل من منزل لآخر، ومن عمل لآخر، حتى استقرت تجارته واستطاع أن يتزوجني وينجبكم...
كنتم الشيء الوحيد الذي يشعر بالانتماء إليه، كان دائماً يقول أنه فخور بإنجابكم، يا ليتك لو شاهدتي كيف كان يفخر بكم عندما كنا نزور أصدقاءنا.
لم يكن يحب أن تعرفوا ماضيه، كان يتظاهر بالقوة وداخله طفل هش عركته الحياة وحرمته من طفولته، حاول أن يظهر العكس لكن قلبه كان يحتقن بمحبتكم! ".
خرجت أمي وتركتني مصعوقة فاغرة فمي كببغاء أبله، تداخل شريط ذكرياتي معه في رأسي، كنت أرى الأمور كما أحب أن أراها لا على ماتبدو عليه، كنت أراها من منظوري الناقص الأناني.
تذكرت كيف كان ينتظرني في المحطة عندما أتأخر في العودة من الجامعة والخوف يكاد يقتلع جلده، لم يحضني لكنني لمحت الدموع تتسلل من عينيه.
جلستُ على الأرض وتكورت على نفسي، بكيت بكاء الرضيع المحروم من حليب أمه حتى كدتُ أغرق الأرض بدموعي، موقف تلو الموقف أستعيدُه وأفسرُه بناء على المفهوم الجديد الذي وضحته لي والدتي!
المطر، الحليب، القهر، الجمود، الصراخ، الضرب، كلها كانت ملامح مكتومة لحب خفي، حب فائض عجُِزتُ عن فهمه ولم أحاول تفسيره، اهتمام مفرط متدثر بثوب حرمان قاسي. الآن اكتشفت السر الذي أخفته أمي عني، أبي لم يعرف معنى المشاعر، لم تكن لديه أم تحضنه أو تقبله أو تخفف عنن، فكيف أتوقع منه أن يمنحني شعوراً لم يختبره؟!
****
فركتُ عيني لأجد نفسي داخل الغرفة، بدأت الدنيا تظلم بعض الشيء، نفضت ملابسي وتحاملت لأقف. تذكرت والدي فاسرعتُ إلى غرفته فلم يكن على فراشه! الجميع لم يكونوا هناك! هل، هل ذهبوا وتركوني!!!
ركضت بسرعة إلى الشارع، كان فارغاً ولم يكن هناك أحد، حاولت المضي لمواجهة المطر لكن قدمي منعتني، تذكرتُ والدي فتدفقت عينيّ بالدموع، تحاملتُ على نفسي و خرجت، تجراتُ و عصيتُه في غيابه!
وقفت أتأمل السماء، كانت محتشدة بغيوم سمينة، لأول مرة في حياتي أسمع أزيز المطر بهذا القرب، أجرب شعور البلل تحت قطراته، تصلني ضحكاته الفائرة وهو يحتفل بانتصاره علي، أراقب تعابيره السعيدة وهو يبتسم لفعلته الخبيثة، لقد كان والدي محقاً المطر مضر!
صرخت بجنون:" لماذا يا مطر؟!
لمذا أخذت والدي؟!
لماذا حرمتني من وداعه الأخير؟! ".
ضحكتُ بأعلى صوتي، ركصت وبدأت أرقص بهستيريا، هناك من بدأ يلحظني من بعيد فتوقف ليراقبني، تحلق كثيرون حولي ونظرات الدهشة تعلو وجوههم، وبينما كنت في ثورة جنوني تراءى لي شبح والدي وهو يصرخ غاضباً:" أدخلي سيبللك المطر".
يقول أبي:"المطر يسبب التهابات رئوية"، وقتها كنت أظنها كذبة من كذباته ليحرمني ما أحب!
كان يقرر عني في كل صغيرة وكبيرة؛ اشربي الحليب قبل أن النوم، اشتري تلك التنورة وليس ذاك الفستان، لا تأكلي البوظة التي يبيعها صاحب العربة. لن تبيتي عند خالتك، لن تذهبي إلى المدرسة إلا برفقتي، لن تزوري الجيران إلا مع والدتك!
ظن أنه يحميني من الأذى، لكنه في الواقع كان يحرمني سعادتي، يرغمني على فعل ما يحب هو وأكره أنا، وقتها ارتسم في مخيلتي كوحش شرس يسرق الفرح من قلوب الأطفال!
هو لم يكن شريراً، ولا أريد إثبات ذلك، لكنه لم يحاول يوماً أن يفهمني، لم يتقرب مني، لم يحضنني أو يُقبِّلني،لم يفتح حديثاً ودياً معي غير:"دلكي لي قدمي"، لم يحكي لي قصص ما قبل النوم، علي بابا، و سندريلا، و ذات الرداء الأحمر لم أسمع عنها إلا من زميلاتي في المدرسة،طفولتي كانت عبارة عن مصباح مُطفأ أهلكه الحرمان.
كنت أنتظر أن يقول:" فخور بك ياابنتي" عندما تفوقت للمرة الأولى بعد تكرار رسوبي، أن يُضاحكني في المدرسة مرة لأفخر به أمام زميلاتي، أن يحاول مساعدتي في حل أحد واجباتي.
التربية في نظره مجرد أن يوصلني إلى المدرسة يومياً، ويسأل المعلمين عن أدائي ويوصيهم علي، أن يقهرني عندما أتسيبُ عن دراستي، أن يصيح في وجهي عندما أرسب في إحدى المواد!
لكنه لم ينتبه لذلك العنكبوت الصغير الذي بدأ يغزل شباكه على قلبي، شباك واهنة من كُره أقرع كانت تُنسج ببطء مع كل حرمان أتعرض له. أذكر أنني في إحدى الليالي نمت أتوسد دموعي من قهره و رددتُ في نفسي:"ياليته لم يكن والدي!".
سألتُ والدتي في أحد الأيام: "لماذا هو قاسِ هكذا؟! " كادت عيناها تحتقن بالدموع، وهي التي نالت النصيب الأكبر من قسوته، من أوامره حرمانه. الصراخ لغة حديثه، والضرب منهجه عندما يثور غضبه، أمي تلقت القسط الأكبر من لكماته وهي تحاول إبعاده عنا في جلسات التعذيب التي كان يفرضها علينا!
أمي لم تكن تحب الصراخ لكنها تعلمته على يديه، وكان لا يتردد في أتفه جدال أن يصفعها،أن يهينها ويمسح كرامتها، أن يرميها بأقرب قطعة أثاث تقع في يديه. لطالما حاولت أن تنهي حياتها معه لكنها كانت تتراجع و تشفق علينا.
مع ذلك لم تحاول أن تشوه صورته في نظري وردت:" لا تقولي هذا، أنت لا تعرفين شيئاً"، ظلبتُ منها أن توضح أكثر لكنها تهربت من الإجابة وغيرت مجرى الحديث قائلة:"ستعرفين يوماً". ما الذي لا أعرفه عن والدي يا ترى؟! هناك جزء مخفي من الحكاية لابد أن تكشفه الأيام.
اليوم وأنا أنظر إليه مستلقياً على فراشه، هادئاً على غير عادته، شبه مبتسم على عكس طبيعته، مغمضاَ عينيه بسلام يناقض شجيته، تتعالى أصوات الجميع عداه، سمعتُ صوته الغليظ في أعماقي! كان يتردد صداه داخلي وهو يقول كما اعتاد في هذا الجو الماطر:" أغلقي الشبابيك بسرعة...
اجمعي الغسيل قبل أن يتبلل...
أدخلي فراشي قبل أن تبدأ بالهطول".
شبح ابتسامة ارتسم على شفتيّ، فلعنتُ نفسي! هل أنا مجنونة؟! هل هذا وقت مناسب للضحك؟!
الجميع كان منشغلاً بوالدي، وللصدفة المريرة رفعت والدتي رأسها فلمحت ابتسامتي، تمنيت لو تنشق الأرض وتبلعني، ماذا ستقول عني؟! قاسية، لا إحساس ولا ضمير ولا تقدير!
تركت أمي مكانها قربه وزحفت ببطء لتقترب مني، أمرتني بأن أتبعها إلى غرفة أخرى وسط نظرات الجميع المستهجنة، ماذا يمكن أن ترغب بقوله لي في هذا الوقت تحديداً؟!
تبعتُها إلى الغرفة المجاورة فأغلقت الباب علينا، حدجتني بنظرات ثاقبة لأول مرة أراها منها، بدأت تمسحني بعينيها من أعلى لأسفل بنظرات نارية، بنبرة تهزمها المرارة تقول:"سعيدة أليس كذلك؟ لقد تحررتِ أخيراً! "
ُصعقت من سؤالها وتسلقت صفرةٌ وجهي، اكتفيت بخفض بصري دون رد، أردفت بصوت مبحوح بعد أن تنهدت بمرارة:"والدك عاش يتيماً، أمه ماتت قبل أن يكمل العامين، تزوج والده، ورماه لخالته لتعتني به، اضطر لترك المدرسة ليبحث عن عمل يشتري به صندلاً وثياياً يرتديها يوم العيد، تنقل من منزل لآخر، ومن عمل لآخر، حتى استقرت تجارته واستطاع أن يتزوجني وينجبكم...
كنتم الشيء الوحيد الذي يشعر بالانتماء إليه، كان دائماً يقول أنه فخور بإنجابكم، يا ليتك لو شاهدتي كيف كان يفخر بكم عندما كنا نزور أصدقاءنا.
لم يكن يحب أن تعرفوا ماضيه، كان يتظاهر بالقوة وداخله طفل هش عركته الحياة وحرمته من طفولته، حاول أن يظهر العكس لكن قلبه كان يحتقن بمحبتكم! ".
خرجت أمي وتركتني مصعوقة فاغرة فمي كببغاء أبله، تداخل شريط ذكرياتي معه في رأسي، كنت أرى الأمور كما أحب أن أراها لا على ماتبدو عليه، كنت أراها من منظوري الناقص الأناني.
تذكرت كيف كان ينتظرني في المحطة عندما أتأخر في العودة من الجامعة والخوف يكاد يقتلع جلده، لم يحضني لكنني لمحت الدموع تتسلل من عينيه.
جلستُ على الأرض وتكورت على نفسي، بكيت بكاء الرضيع المحروم من حليب أمه حتى كدتُ أغرق الأرض بدموعي، موقف تلو الموقف أستعيدُه وأفسرُه بناء على المفهوم الجديد الذي وضحته لي والدتي!
المطر، الحليب، القهر، الجمود، الصراخ، الضرب، كلها كانت ملامح مكتومة لحب خفي، حب فائض عجُِزتُ عن فهمه ولم أحاول تفسيره، اهتمام مفرط متدثر بثوب حرمان قاسي. الآن اكتشفت السر الذي أخفته أمي عني، أبي لم يعرف معنى المشاعر، لم تكن لديه أم تحضنه أو تقبله أو تخفف عنن، فكيف أتوقع منه أن يمنحني شعوراً لم يختبره؟!
****
فركتُ عيني لأجد نفسي داخل الغرفة، بدأت الدنيا تظلم بعض الشيء، نفضت ملابسي وتحاملت لأقف. تذكرت والدي فاسرعتُ إلى غرفته فلم يكن على فراشه! الجميع لم يكونوا هناك! هل، هل ذهبوا وتركوني!!!
ركضت بسرعة إلى الشارع، كان فارغاً ولم يكن هناك أحد، حاولت المضي لمواجهة المطر لكن قدمي منعتني، تذكرتُ والدي فتدفقت عينيّ بالدموع، تحاملتُ على نفسي و خرجت، تجراتُ و عصيتُه في غيابه!
وقفت أتأمل السماء، كانت محتشدة بغيوم سمينة، لأول مرة في حياتي أسمع أزيز المطر بهذا القرب، أجرب شعور البلل تحت قطراته، تصلني ضحكاته الفائرة وهو يحتفل بانتصاره علي، أراقب تعابيره السعيدة وهو يبتسم لفعلته الخبيثة، لقد كان والدي محقاً المطر مضر!
صرخت بجنون:" لماذا يا مطر؟!
لمذا أخذت والدي؟!
لماذا حرمتني من وداعه الأخير؟! ".
ضحكتُ بأعلى صوتي، ركصت وبدأت أرقص بهستيريا، هناك من بدأ يلحظني من بعيد فتوقف ليراقبني، تحلق كثيرون حولي ونظرات الدهشة تعلو وجوههم، وبينما كنت في ثورة جنوني تراءى لي شبح والدي وهو يصرخ غاضباً:" أدخلي سيبللك المطر".