- المشاهدات: 59
- الردود: 1
أخذ الرجل فأسه واتجه نحو الحقل يتأمل أشجار الزيتون اليابسة، فقد عمَّ الجفاف تلك المنطقة. مرت سنتين على هطول المطر، وأصبحت الأشجار تتضمر عطشًا. لم يعد أمامه حل سوى الامتثال إلى الله بالدعاء في دبر كل صلاة: "يا إلهي ارحم هذا الغرس، زيتونة مباركة، نأمل أن تكون مصدر عيشنا، نأكل من ثمرها، ونكتال زيتها، ونتصدق من ثمرها. فقد ضاق الحال ولم يعد أمامي حل سوى الدعاء، ولم تعد أمامي خطة غير الرجاء، فارحم عبادك بثمرة نباتك."
لا زال ذلك الرجل يرفع يده إلى السماء، فإذا برجل رث الثياب، أدغم الوجه وكأن به جنون، يجوب الأرض جيئة وذهابًا، يقفز كأنه أمرد غزال شادن، يقول: "أصلح الملة تنضج الغلة، فإذا صلحت البذرة صلح الغرس."
لم يكترث الشاب لما يقوله المجنون، فقد أمسك بفأسه وظل يحفر أرضه آملًا أن ترتوي جذورها. شعر بالتعب الشديد، فألقى فأسه واستلقى تحت شجرة الزيتون ليأخذ قسطًا من الراحة.
بعد دقائق، غلبه النعاس، شعر بأن الأرض أصبحت تهتز كأن بها زلزال. بدأ ذلك الزلزال يبتلع الأرض شيئًا فشيئًا، لم يتبقَ أمامه سوى قطعة صغيرة. صاح بأعلى صوته: "النجدة، أنقذوني، أرجوكم أنقذوني، هل من أحد هنا؟"
تعالت قهقهات ضحك عالية: "أصلح الملة تنضج الغلة، فإذا صلحت البذرة صلح الغرس."
"استيقظ الشاب مذعورًا: "يا إلهي، ماذا فعلت؟ لم أترك فرضًا إلا وقمت به على أكمل وجه، لم أظلم إنسانًا، تصدقت من المال ما يرضيك، لماذا هذه الأحلام والكوابيس المزعجة، ولماذا أسير نحو الفقر والجوع؟ إن أخطأت فاغفر لي، وإن كان بلاءً فارفعه عني... آه، أين المجنون؟ تذكرت أنه كان يردد نفس الكلمات التي اعترضتني أثناء نومي. يجب أن أفهم منه ما يحدث."
قفز مهرولًا فلم يجد أحدًا. ظل ذلك الكابوس يراوده كلما نام، وظل يبحث عن سببه، لعله ارتكب معصية دون أن يعلم، فقد كان شابًا سويًا يعمل بالمعروف وينهى عن المنكر ويفعل الخيرات، يساعد الفقراء ويداوي الجرحى، ورغم ذلك ضاق به الحال.
اغتربت شمس ذلك اليوم وعاد الشاب إلى منزله في المساء منكوسًا وكأنه هزم في الحرب مع العدو. ظل يفكر في مصير أرضه التي غلب عليها العطش والجفاف، ويفكر في مصير حياته. لم يتبقَ لديه من المؤونة سوى القليل، فقد بات الجوع يهدد حياته، وبات التفكير يقضي على عقله. تناول القليل من الخبز ثم خلد إلى النوم. ما هي إلا لحظات حتى صاح بأعلى صوته: "الماء، يا إلهي، الماء! سيأخذني، لا أريد أن أغرق."
استيقظ من النوم مذعورًا، توضأ وصلى ركعتي قضاء الحاجة، وتذرع إلى الإله بالدعاء بأن يدله على الباب الذي حال دونه ودون قضاء حوائجه، فقد شعر بأن الإله غاضب عليه وإلا لما طمأن قلبه ورزقه الراحة والطمأنينة.
ذهب في اليوم التالي إلى البستان ينبش الأرض بفأسه، وإذا به يستمع إلى ذلك المجنون يكرر تلك العبارات من بعيد: "أصلح الملة تنضج الغلة، فإذا صلحت البذرة صلح الغرس."
ذهب إليه مسرعًا، يتوسل إليه أن يفهمه معنى تلك الكلمات. لكن المجنون لم يتلفظ بأي كلمة، أخذ يكرر تلك الكلمات ويقفز عاليًا وكأنه يرقص. ظل الشاب يراقبه في صمت، وعندما علم برغبته في الانصراف، تبعه رغبة في معرفة سر ذلك اللغز. أخذ المجنون يشق البراري وعلامات الفرح والسرور على محياه، والشاب يتبعه.
وعلى الرغم من صعوبة الطريق ووعورته، إلا أن المجنون بدا مرتاحًا كأن هناك من يحمله فوق رأسه ويمر به سريعًا، أما الشاب فقد بدت علامات الإعياء والتعب واضحة على جسده ووجهه، فقد بدأ يلهث ويتنفس بصعوبة ورغم ذلك لم يستسلم، فقد ظل يتبع المجنون. جنّ الليل وبرز الصبح ولم يتوقف المجنون عن المشي كأن ذلك الطريق يحمله إلى الجنة أو كأن ذلك الشاب يمر على الصراط المستقيم.
ما هي إلا لحظات حتى توقف المجنون عن السير. سرّ الشاب بذلك فقد تعدت الرحلة ليلة ويومين. نزل المجنون من أعلى الجبل إلى جب عميق تحت الأرض. استغرب الشاب ولحقه راجيًا من الإله أن لا تكون هذه الرحلة جنونية. ثم سار الاثنان داخل الجب، إلى أن سمع صوت أنين متقطع. اتجه نحو مصدر الصوت، فوجد عجوزًا تجاوزت التسعين سنة. فقد بدت نحيفة الجسد، بارزة العينين لا يمكنها التحرك أو النهوض، وكأنها في مقبرة ومضى على موتها خمسون سنة. بدت علامات الرأفة واضحة في عين الشاب ثم اقترب منها وأخذها بلطف بين ذراعيه وهمّ بالخروج بها من ذلك الجب.
يبدو أن الجوع بلغ منها مبلغه، فقام بصيد أرنب بري وأوقد النار حتى يطهوه، ثم ناولها إياه إلى أن شبعت وحمدت الإله على تلك النعمة، ثم نظرت إليه نظرة حب وحنان، عرفت أنه ابنها وطلبت منه أن يقترب منها ويعانقها، عم الشوق والحنين تلك القلوب، كأنه لقاء بين أم وإبنها المهاجر الذي طال غيابه، ربما إحساس مغترب عاد إلى أرض الوطن، هموم وأحزان إنجلت في ذلك الحضن الدافئ، سألها عن قصتها. فأجابته بصوت متقطع، أن بعض قطاع الطرق مروا بها وهي تحمل طفلها الرضيع منذ كانت كهلة صغيرة، وقاموا باختطافها وأتوا بها إلى هذا المكان الخالي، ثم سرقوا ابنها حتى يتمكنوا من بيعه أو يستغلوه في العمل معهم. تأثر الشاب بتلك العبارات التي يشوبها الصدق ويتخللها شعور الأمومة الصادق، وقام باحتضانها مرة أخرى، فقد شعر بنوع من الدفء في ذلك الحضن. ثم سألها عن مصدر طعامها كل هذه السنوات، فأخبرته أن الرجل المجنون هو من يقوم بإطعامها وأن الطعام انقطع عنها منذ سنتين، وطلبت الإله أن يرزقها من فضله.
صمت الشاب قليلاً ثم هتف بصوت منخفض يشوبه البكاء: "لم أكن أعلم أنك هنا وأنك أمي. اعتقدت أن أمي ماتت وأنا طفل صغير مثلما أخبروني، فلولا ذلك الجفاف وتلك الأحلام المزعجة ولولا تلك الأبواب المغلقة وذلك الرجل المجنون لما عرفت مكانك، شكرًا يا إلهي رب ذرة نافعة."
حمل أمه فوق ظهره ثم سلك طريق العودة إلى المنزل والفرحة تعم أرجاء قلبه. عند الوصول إلى بلاده، وجد الأمطار تهطل بغزارة ووجد أشجار الزيتون ترفرف عاليا، تبسم وقال:" ما أروع مطر الأمهات، اللهم أرزقني برها"
لا زال ذلك الرجل يرفع يده إلى السماء، فإذا برجل رث الثياب، أدغم الوجه وكأن به جنون، يجوب الأرض جيئة وذهابًا، يقفز كأنه أمرد غزال شادن، يقول: "أصلح الملة تنضج الغلة، فإذا صلحت البذرة صلح الغرس."
لم يكترث الشاب لما يقوله المجنون، فقد أمسك بفأسه وظل يحفر أرضه آملًا أن ترتوي جذورها. شعر بالتعب الشديد، فألقى فأسه واستلقى تحت شجرة الزيتون ليأخذ قسطًا من الراحة.
بعد دقائق، غلبه النعاس، شعر بأن الأرض أصبحت تهتز كأن بها زلزال. بدأ ذلك الزلزال يبتلع الأرض شيئًا فشيئًا، لم يتبقَ أمامه سوى قطعة صغيرة. صاح بأعلى صوته: "النجدة، أنقذوني، أرجوكم أنقذوني، هل من أحد هنا؟"
تعالت قهقهات ضحك عالية: "أصلح الملة تنضج الغلة، فإذا صلحت البذرة صلح الغرس."
"استيقظ الشاب مذعورًا: "يا إلهي، ماذا فعلت؟ لم أترك فرضًا إلا وقمت به على أكمل وجه، لم أظلم إنسانًا، تصدقت من المال ما يرضيك، لماذا هذه الأحلام والكوابيس المزعجة، ولماذا أسير نحو الفقر والجوع؟ إن أخطأت فاغفر لي، وإن كان بلاءً فارفعه عني... آه، أين المجنون؟ تذكرت أنه كان يردد نفس الكلمات التي اعترضتني أثناء نومي. يجب أن أفهم منه ما يحدث."
قفز مهرولًا فلم يجد أحدًا. ظل ذلك الكابوس يراوده كلما نام، وظل يبحث عن سببه، لعله ارتكب معصية دون أن يعلم، فقد كان شابًا سويًا يعمل بالمعروف وينهى عن المنكر ويفعل الخيرات، يساعد الفقراء ويداوي الجرحى، ورغم ذلك ضاق به الحال.
اغتربت شمس ذلك اليوم وعاد الشاب إلى منزله في المساء منكوسًا وكأنه هزم في الحرب مع العدو. ظل يفكر في مصير أرضه التي غلب عليها العطش والجفاف، ويفكر في مصير حياته. لم يتبقَ لديه من المؤونة سوى القليل، فقد بات الجوع يهدد حياته، وبات التفكير يقضي على عقله. تناول القليل من الخبز ثم خلد إلى النوم. ما هي إلا لحظات حتى صاح بأعلى صوته: "الماء، يا إلهي، الماء! سيأخذني، لا أريد أن أغرق."
استيقظ من النوم مذعورًا، توضأ وصلى ركعتي قضاء الحاجة، وتذرع إلى الإله بالدعاء بأن يدله على الباب الذي حال دونه ودون قضاء حوائجه، فقد شعر بأن الإله غاضب عليه وإلا لما طمأن قلبه ورزقه الراحة والطمأنينة.
ذهب في اليوم التالي إلى البستان ينبش الأرض بفأسه، وإذا به يستمع إلى ذلك المجنون يكرر تلك العبارات من بعيد: "أصلح الملة تنضج الغلة، فإذا صلحت البذرة صلح الغرس."
ذهب إليه مسرعًا، يتوسل إليه أن يفهمه معنى تلك الكلمات. لكن المجنون لم يتلفظ بأي كلمة، أخذ يكرر تلك الكلمات ويقفز عاليًا وكأنه يرقص. ظل الشاب يراقبه في صمت، وعندما علم برغبته في الانصراف، تبعه رغبة في معرفة سر ذلك اللغز. أخذ المجنون يشق البراري وعلامات الفرح والسرور على محياه، والشاب يتبعه.
وعلى الرغم من صعوبة الطريق ووعورته، إلا أن المجنون بدا مرتاحًا كأن هناك من يحمله فوق رأسه ويمر به سريعًا، أما الشاب فقد بدت علامات الإعياء والتعب واضحة على جسده ووجهه، فقد بدأ يلهث ويتنفس بصعوبة ورغم ذلك لم يستسلم، فقد ظل يتبع المجنون. جنّ الليل وبرز الصبح ولم يتوقف المجنون عن المشي كأن ذلك الطريق يحمله إلى الجنة أو كأن ذلك الشاب يمر على الصراط المستقيم.
ما هي إلا لحظات حتى توقف المجنون عن السير. سرّ الشاب بذلك فقد تعدت الرحلة ليلة ويومين. نزل المجنون من أعلى الجبل إلى جب عميق تحت الأرض. استغرب الشاب ولحقه راجيًا من الإله أن لا تكون هذه الرحلة جنونية. ثم سار الاثنان داخل الجب، إلى أن سمع صوت أنين متقطع. اتجه نحو مصدر الصوت، فوجد عجوزًا تجاوزت التسعين سنة. فقد بدت نحيفة الجسد، بارزة العينين لا يمكنها التحرك أو النهوض، وكأنها في مقبرة ومضى على موتها خمسون سنة. بدت علامات الرأفة واضحة في عين الشاب ثم اقترب منها وأخذها بلطف بين ذراعيه وهمّ بالخروج بها من ذلك الجب.
يبدو أن الجوع بلغ منها مبلغه، فقام بصيد أرنب بري وأوقد النار حتى يطهوه، ثم ناولها إياه إلى أن شبعت وحمدت الإله على تلك النعمة، ثم نظرت إليه نظرة حب وحنان، عرفت أنه ابنها وطلبت منه أن يقترب منها ويعانقها، عم الشوق والحنين تلك القلوب، كأنه لقاء بين أم وإبنها المهاجر الذي طال غيابه، ربما إحساس مغترب عاد إلى أرض الوطن، هموم وأحزان إنجلت في ذلك الحضن الدافئ، سألها عن قصتها. فأجابته بصوت متقطع، أن بعض قطاع الطرق مروا بها وهي تحمل طفلها الرضيع منذ كانت كهلة صغيرة، وقاموا باختطافها وأتوا بها إلى هذا المكان الخالي، ثم سرقوا ابنها حتى يتمكنوا من بيعه أو يستغلوه في العمل معهم. تأثر الشاب بتلك العبارات التي يشوبها الصدق ويتخللها شعور الأمومة الصادق، وقام باحتضانها مرة أخرى، فقد شعر بنوع من الدفء في ذلك الحضن. ثم سألها عن مصدر طعامها كل هذه السنوات، فأخبرته أن الرجل المجنون هو من يقوم بإطعامها وأن الطعام انقطع عنها منذ سنتين، وطلبت الإله أن يرزقها من فضله.
صمت الشاب قليلاً ثم هتف بصوت منخفض يشوبه البكاء: "لم أكن أعلم أنك هنا وأنك أمي. اعتقدت أن أمي ماتت وأنا طفل صغير مثلما أخبروني، فلولا ذلك الجفاف وتلك الأحلام المزعجة ولولا تلك الأبواب المغلقة وذلك الرجل المجنون لما عرفت مكانك، شكرًا يا إلهي رب ذرة نافعة."
حمل أمه فوق ظهره ثم سلك طريق العودة إلى المنزل والفرحة تعم أرجاء قلبه. عند الوصول إلى بلاده، وجد الأمطار تهطل بغزارة ووجد أشجار الزيتون ترفرف عاليا، تبسم وقال:" ما أروع مطر الأمهات، اللهم أرزقني برها"