- المشاهدات: 50
- الردود: 1
الاسم واللقب:بوقصة فلة
الدولة:الجزائر
قصة قصيرة بعنوان: انكسار وندم
يقف حائرا ..أيدخل أم لا..كثير من الأسئلة تراوده، ومختلف الذكريات تتصارع داخل ذهنه...يفرك ناظريه في ألم وحسرة.يتحسس مقبض الباب، ترى كيف أصبح المفتاح الذي تركه فيه ذلك اليوم .
ترى هل كانوا هنالك ينظرون إليه وهو يخرج لأخر مرة.. تلك المرة التي قرر فيها عدم الرجوع والابتعاد بعيدا عنهم والهرب من نظراتهم التي كانت تطارده وتورق نومه ..
لا يعلم سبب مجيئه .لقد حملته ساقاه منذ أن ولج إلى المدينة، إلى هناك كما اعتاد دوما فنحن أبناء التعود لا الصدف..ينظر في حسرة إلى المنزل الذي أصبح يشبه تلك المنازل المهجورة التي لطالما تغنت بها الأفلام وجعلتها مصدر رعب ،سرت في جسده قشعريرة سريعة تنبهه بحالة المنزل المخيفة التي يشبه إلى حد ما قلبه الفارغ من كل شيء ،إلا من حنينه ،ترى أين ذهبوا،أين تفرقت بهم السبل ،وأين رمتهم الحياة..ترى هل اختلفت طرقهم أم تقاطعت.. وهو فقط من بقى وحيدا دونهم ..ترى هل بقوا ناقصين بعده، أم كملوا بعضهم البعض وتناسوه.
أراد فتح الباب ،لكنه وجده مفتوحا ،ترى أين اختفى الجميع ،لقد كان يتمنى أن يجدهم في انتظاره، أو حتى رؤيتهم فقد كانت ستشفي قليلا من جروح روحه التي رسمها عليه الزمن..يلتفت يمينا وشمال بحثا عن أي مظاهر للحياة ها هنا ،لكن لم يجد غير الفوضى التي عمت المكان ..
قال في نفسه حديقة أمي ومكانها المفضل، ومكان استراحتنا المعتاد لماذا بقيت هكذا ،لماذا الحشائش الضارة أكلت ورود أمه..أين أنت يا أمي لقد عدت وأريد النوم في حضنك أنا تائه يا أمي ووحدك تجمعين شتاتي ،ترى هل هي على قيد الحياة ،شعر بالخوف من نطقه لهذا السؤال الذي لا يريد سماع إجابته،فتمتم قائلا لأغيره بسرعة ترى هل لازالت تعاني من الم المفاصل الذي أنهكها قد كنت وعدتها قبل الحادث أن أتيها بمرهم كانت تتوهم أنه يشفيها رغم أنه مجرد مرهم ترطيب فقد كانت تؤمن بالأوهام ،كانت سريعة التصديق وسريعة البكاء كطفلة صغيرة ترى هل لازالت تبكي على فراقي أم أنها نسيتني ،أنا المنسي هناك وهنا ..
لا أذكر أنني كنت معهم بعد ذلك الحادث المأساوي الذي قلب موازين عمري،لقد كان نقطة سوداء حجبت عني نور الحياة ورمتني في بئر الوحدة..لقد قالته أمه مرارا أنه سينُسى ما إن يغادر هذا المنزل لكنه كره دوما كلامها حول هذا الموضوع ويخبرها أنه منسي بينهم أصلا فلن يفرق معه الأمر.
لقد استنتج حين اعتصرت الذكريات ذهنه أنه لم يكن منسيا ولكنه كان منغلقا حين نجح أخوه في شهادة الباكالوريا أنه لم يخرج ويشاركهم فرحتهم وفضل البقاء وحيدا ،مكتفيا بكلمة مبروك ..لقد تساءل الآن ما لذي منعني حينها ،وضرب رأسه بيديه متحسرا ،ترى أين عاد في مسار عمله لابد وانه تخرج الآن أتمنى أن يكون بخير.
يقول لنفسه إنها عشر سنوات أيها الغبي
دخل إلى المنزل ينادي بأسماء الجميع لكنه يسمع صوت إلا صدى مرددا معه ،لقد امتلأ المنزل بقطط الشوارع وأصبح ملجأهم الوحيد ،فتذكر حينها أخته الصغرى ،كيف كانت تجمع قطط الحي وتحاول جاهدة إطعامهم كلهم، تذكر كيف كانت تبكي عليهم إذا أصابهم مكروه،وكانت تطلق عليهم أسماء مضحكة لتتسلى معهم ،وتشعر بغياب أحدهم وتفتقده.ترى هل تتذكرني مثل تلك القطط ،ترى هل تشعر بغيابي وأنا الذي كنت أكتفي برؤيتها من نافذة غرفتي ،يا لغبائي لماذا لم أشاركها، تلك اللحظات بينما كان هنالك شيء داخلي يدفعني للنزول إلا أنني ظللت أراوغه حقا لقد أضعت حياتي في الخوف من كل شيء،لا أعلم ما الذي كان يمنعني من المبادرة في داخلي دوما صوت يخيفني و يجبرني على البقاء وحيدا.
وصل إلى غرفة أمه ،وراح يدق الباب بالرغم من أنه مفتوح على مصراعيه ،أخذ يفتش عنها في أرجاء الغرفة المظلمة ويبحث عن رائحتها بين ثنايا الأثاث البالية..يبحث عن تفاصيلها.. عن ملابسها وعن علب الدواء، لكنه لم يجد شيئا، كله قد اختفى... أصبحت الدموع تنزل من مقلتيه كسيل منهمر، كان يمني نفسه بإيجاد ذكرى منها.. شيء ربما نسيته هنا أو هناك.
هذه الغرفة التي لطالما لعب بها فوق السرير مع أخويه، تذكر الجميع ..أخذه الحنين إلى تذكر كل التفاصيل التي غابت عنه منذ مدة ،وكيف قرر الانسحاب من حياتهم ، منذ تلك اللحظة التي تغير بعدها كل شيء..حتى دموعه تختلف عندما يصل إلى تلك المرحلة من حياته، إنه عاجزا حقا، لا يعلم عنهم شيئا كيف هي حياتهم وهم فارغين منه ومن تفاصيل بقايا حياته.
ترى هل يتذكرونه ولو قليلا..هذا السؤال الذي لم يفارق خياله طوال المدة التي قضيها بعيدا عن أهله واختار أن يبقى غريبا حتى عن نفسه لا يتكلم مع نفسه إلا ليعاتبها ويلومها .
يخاف دوما أن يكونوا قد نفذوا تهديدهم له ونسوه فعلا..
نزع ملابسه الغالية التي تعود إلى أرقى الماركات ونزع ساعته الباهظة الثمن، وراح يفتش في المنزل عن بقايا ملابسه القديمة،ربما يكون هنا أو هناك شيء ما نسوه أثر يسد به جوعه نحو حياته ...نحو طفولته الجميلة قبل أن تتلطخ بالدم وتنكسر صورة العائلة المعلقة على الحائط .هو من حطمها ..كان قد كره حياته تلك وظن أنها لعنة أصابته وأنه يجب أن يبتعد عن كل شيء يربطها به لكنه الآن نادم كيف كره حياته ورمى بنفسه إلى الغربة وحيدا.
يقف شبه عاريا بجسمه النحيل ينظر إلى خزانته التي سيطر عليها العنكبوت ونسج حولها منزله ،يتحدث إليه قائلا,أنت أيضا أخذك الحنين إلى هنا أنت أيضا شدتك رائحة التفاصيل التي تملآ المكان أتعلم أنه كان جنة بالنسبة لي وأنا فظلت الخروج منها بمحض إرادتي ،يا لي من غبي تتساقط العبرات ...تختنق حنجرته لا يستطيع البكاء بحرية لطالما شعر أن هناك غصة تكتم صوته.
لقد وجد ملابسه كما هي لم يتغير حتى ترتيبها. فقد حفظها في ذهنه جيدا كما حفظ تفاصيل أمه وإخوته وحديقة المنزل والباب الخارجي .. حفظه جيدا كي يغذي روحه كلما اعتراه الحنين وسيطر عليه،كان كل شيء كما تركه أخر مرة وجد كل التفاصيل ،إلا تفاصيل أمه وإخوته...
وجد بجانب ملابسه ورقة صغيرة خبئت باهتمام ،أخذها وجلس على حافة السرير وراح يقرأ..
"ولدي العزيز سالم :لقد كنت دوما تعتقد أنني أتجاهلك أو أنساك يا صغيري فلتعلم أنك أنت من بنيت حولك سوارا تمنع به حبنا وشوقنا إليك من الدخول... ورحت تغذيه بالوحدة والبكاء ،يا صغيري لقد كنت دوما أسمع نحيبك ليلا لكنك لم تسمح لي بمسح دموعك ،لطالما بكيت و إخوتك لبكائك .
أنت لم تكن سببا في وفاة والدك إنه القدر ولا يمكننا مجابهة القدر أو الاعتراض، ولكنك تحكمت بحياتك بعدها وفضلت الهروب من نفسك ومنا رغم أنه كنا بحاجة لبعضنا البعض حينها حتى نساعد جراحنا على أن تلتئم بسرعة ولكنك زدت الأمر سوءا بخروجك من حياتنا لقد بقيت تصر على جلد نفسك رغم أنك أيضا ضحية فأنظر إلى ساقك التي تركتها تذهب مع والدك ..
أخذ ينظر إلى ساقه ويتحسسها وتذكر حينها ذلك الحادث ذلك اليوم الذي لم يعد فيه كما هو ،حين استفاق من غيبوبته لم يعد يعرف حتى نفسه فلم يجد أباه ولا ساقه..."
فاض ذهنه بذكريات كثيرة كأنها تصب عليه من السماء وليست داخل ذهنه...لقد كان يعيش داخلها طيلة عشر سنوات، كان يرتاح فقط حين يشعل سيجارته في شرفة منزله في ضواحي باريس.
احتضن الرسالة وراح يبكي على الفقد الذي عايشه، وعلى الشعور بالغربة الذي اجتاحه واستعمره من لحظة الحادث ولم يستطع مقاومة ضعفه وانكساره ،سامحني يا أبي لقد خرجت أخيرا من حنجرته كلمة أبي التي لطالما بقي خائفا من نطقها كان يظن أنه سيختنق أن لفظها ولكنه تغلب هذه المرة على خوفه.
أكمل قراءة الرسالة: "يا ولدي ،نحن لم نسافر بمحض إرادتنا لقد أصابت بيتنا الوحشة وامتلأت جدرانه بالفراغ فقررنا الرحيل إلى مكان أخر علنا نعود للحياة من جديد .ابحث عنا هذا هو العنوان الذي سنذهب إليه ..أتمنى أن لا تتأخر علينا نحن في انتظارك.."
رن هاتفه ..إنها زوجته تخبره بلغتها الفرنسية أنها اشتاقت إليه وأن ابنتيه لا تكفان على السؤال عنه ويبلغونه سلامهن،وضع الهاتف جانبا ..نزع رجله الخشبية وعدل جسده فوق السرير الذي تقاسمه مع القطط واحتطن الرسالة ..وراح يغط في نوم عميق .
الدولة:الجزائر
قصة قصيرة بعنوان: انكسار وندم
يقف حائرا ..أيدخل أم لا..كثير من الأسئلة تراوده، ومختلف الذكريات تتصارع داخل ذهنه...يفرك ناظريه في ألم وحسرة.يتحسس مقبض الباب، ترى كيف أصبح المفتاح الذي تركه فيه ذلك اليوم .
ترى هل كانوا هنالك ينظرون إليه وهو يخرج لأخر مرة.. تلك المرة التي قرر فيها عدم الرجوع والابتعاد بعيدا عنهم والهرب من نظراتهم التي كانت تطارده وتورق نومه ..
لا يعلم سبب مجيئه .لقد حملته ساقاه منذ أن ولج إلى المدينة، إلى هناك كما اعتاد دوما فنحن أبناء التعود لا الصدف..ينظر في حسرة إلى المنزل الذي أصبح يشبه تلك المنازل المهجورة التي لطالما تغنت بها الأفلام وجعلتها مصدر رعب ،سرت في جسده قشعريرة سريعة تنبهه بحالة المنزل المخيفة التي يشبه إلى حد ما قلبه الفارغ من كل شيء ،إلا من حنينه ،ترى أين ذهبوا،أين تفرقت بهم السبل ،وأين رمتهم الحياة..ترى هل اختلفت طرقهم أم تقاطعت.. وهو فقط من بقى وحيدا دونهم ..ترى هل بقوا ناقصين بعده، أم كملوا بعضهم البعض وتناسوه.
أراد فتح الباب ،لكنه وجده مفتوحا ،ترى أين اختفى الجميع ،لقد كان يتمنى أن يجدهم في انتظاره، أو حتى رؤيتهم فقد كانت ستشفي قليلا من جروح روحه التي رسمها عليه الزمن..يلتفت يمينا وشمال بحثا عن أي مظاهر للحياة ها هنا ،لكن لم يجد غير الفوضى التي عمت المكان ..
قال في نفسه حديقة أمي ومكانها المفضل، ومكان استراحتنا المعتاد لماذا بقيت هكذا ،لماذا الحشائش الضارة أكلت ورود أمه..أين أنت يا أمي لقد عدت وأريد النوم في حضنك أنا تائه يا أمي ووحدك تجمعين شتاتي ،ترى هل هي على قيد الحياة ،شعر بالخوف من نطقه لهذا السؤال الذي لا يريد سماع إجابته،فتمتم قائلا لأغيره بسرعة ترى هل لازالت تعاني من الم المفاصل الذي أنهكها قد كنت وعدتها قبل الحادث أن أتيها بمرهم كانت تتوهم أنه يشفيها رغم أنه مجرد مرهم ترطيب فقد كانت تؤمن بالأوهام ،كانت سريعة التصديق وسريعة البكاء كطفلة صغيرة ترى هل لازالت تبكي على فراقي أم أنها نسيتني ،أنا المنسي هناك وهنا ..
لا أذكر أنني كنت معهم بعد ذلك الحادث المأساوي الذي قلب موازين عمري،لقد كان نقطة سوداء حجبت عني نور الحياة ورمتني في بئر الوحدة..لقد قالته أمه مرارا أنه سينُسى ما إن يغادر هذا المنزل لكنه كره دوما كلامها حول هذا الموضوع ويخبرها أنه منسي بينهم أصلا فلن يفرق معه الأمر.
لقد استنتج حين اعتصرت الذكريات ذهنه أنه لم يكن منسيا ولكنه كان منغلقا حين نجح أخوه في شهادة الباكالوريا أنه لم يخرج ويشاركهم فرحتهم وفضل البقاء وحيدا ،مكتفيا بكلمة مبروك ..لقد تساءل الآن ما لذي منعني حينها ،وضرب رأسه بيديه متحسرا ،ترى أين عاد في مسار عمله لابد وانه تخرج الآن أتمنى أن يكون بخير.
يقول لنفسه إنها عشر سنوات أيها الغبي
دخل إلى المنزل ينادي بأسماء الجميع لكنه يسمع صوت إلا صدى مرددا معه ،لقد امتلأ المنزل بقطط الشوارع وأصبح ملجأهم الوحيد ،فتذكر حينها أخته الصغرى ،كيف كانت تجمع قطط الحي وتحاول جاهدة إطعامهم كلهم، تذكر كيف كانت تبكي عليهم إذا أصابهم مكروه،وكانت تطلق عليهم أسماء مضحكة لتتسلى معهم ،وتشعر بغياب أحدهم وتفتقده.ترى هل تتذكرني مثل تلك القطط ،ترى هل تشعر بغيابي وأنا الذي كنت أكتفي برؤيتها من نافذة غرفتي ،يا لغبائي لماذا لم أشاركها، تلك اللحظات بينما كان هنالك شيء داخلي يدفعني للنزول إلا أنني ظللت أراوغه حقا لقد أضعت حياتي في الخوف من كل شيء،لا أعلم ما الذي كان يمنعني من المبادرة في داخلي دوما صوت يخيفني و يجبرني على البقاء وحيدا.
وصل إلى غرفة أمه ،وراح يدق الباب بالرغم من أنه مفتوح على مصراعيه ،أخذ يفتش عنها في أرجاء الغرفة المظلمة ويبحث عن رائحتها بين ثنايا الأثاث البالية..يبحث عن تفاصيلها.. عن ملابسها وعن علب الدواء، لكنه لم يجد شيئا، كله قد اختفى... أصبحت الدموع تنزل من مقلتيه كسيل منهمر، كان يمني نفسه بإيجاد ذكرى منها.. شيء ربما نسيته هنا أو هناك.
هذه الغرفة التي لطالما لعب بها فوق السرير مع أخويه، تذكر الجميع ..أخذه الحنين إلى تذكر كل التفاصيل التي غابت عنه منذ مدة ،وكيف قرر الانسحاب من حياتهم ، منذ تلك اللحظة التي تغير بعدها كل شيء..حتى دموعه تختلف عندما يصل إلى تلك المرحلة من حياته، إنه عاجزا حقا، لا يعلم عنهم شيئا كيف هي حياتهم وهم فارغين منه ومن تفاصيل بقايا حياته.
ترى هل يتذكرونه ولو قليلا..هذا السؤال الذي لم يفارق خياله طوال المدة التي قضيها بعيدا عن أهله واختار أن يبقى غريبا حتى عن نفسه لا يتكلم مع نفسه إلا ليعاتبها ويلومها .
يخاف دوما أن يكونوا قد نفذوا تهديدهم له ونسوه فعلا..
نزع ملابسه الغالية التي تعود إلى أرقى الماركات ونزع ساعته الباهظة الثمن، وراح يفتش في المنزل عن بقايا ملابسه القديمة،ربما يكون هنا أو هناك شيء ما نسوه أثر يسد به جوعه نحو حياته ...نحو طفولته الجميلة قبل أن تتلطخ بالدم وتنكسر صورة العائلة المعلقة على الحائط .هو من حطمها ..كان قد كره حياته تلك وظن أنها لعنة أصابته وأنه يجب أن يبتعد عن كل شيء يربطها به لكنه الآن نادم كيف كره حياته ورمى بنفسه إلى الغربة وحيدا.
يقف شبه عاريا بجسمه النحيل ينظر إلى خزانته التي سيطر عليها العنكبوت ونسج حولها منزله ،يتحدث إليه قائلا,أنت أيضا أخذك الحنين إلى هنا أنت أيضا شدتك رائحة التفاصيل التي تملآ المكان أتعلم أنه كان جنة بالنسبة لي وأنا فظلت الخروج منها بمحض إرادتي ،يا لي من غبي تتساقط العبرات ...تختنق حنجرته لا يستطيع البكاء بحرية لطالما شعر أن هناك غصة تكتم صوته.
لقد وجد ملابسه كما هي لم يتغير حتى ترتيبها. فقد حفظها في ذهنه جيدا كما حفظ تفاصيل أمه وإخوته وحديقة المنزل والباب الخارجي .. حفظه جيدا كي يغذي روحه كلما اعتراه الحنين وسيطر عليه،كان كل شيء كما تركه أخر مرة وجد كل التفاصيل ،إلا تفاصيل أمه وإخوته...
وجد بجانب ملابسه ورقة صغيرة خبئت باهتمام ،أخذها وجلس على حافة السرير وراح يقرأ..
"ولدي العزيز سالم :لقد كنت دوما تعتقد أنني أتجاهلك أو أنساك يا صغيري فلتعلم أنك أنت من بنيت حولك سوارا تمنع به حبنا وشوقنا إليك من الدخول... ورحت تغذيه بالوحدة والبكاء ،يا صغيري لقد كنت دوما أسمع نحيبك ليلا لكنك لم تسمح لي بمسح دموعك ،لطالما بكيت و إخوتك لبكائك .
أنت لم تكن سببا في وفاة والدك إنه القدر ولا يمكننا مجابهة القدر أو الاعتراض، ولكنك تحكمت بحياتك بعدها وفضلت الهروب من نفسك ومنا رغم أنه كنا بحاجة لبعضنا البعض حينها حتى نساعد جراحنا على أن تلتئم بسرعة ولكنك زدت الأمر سوءا بخروجك من حياتنا لقد بقيت تصر على جلد نفسك رغم أنك أيضا ضحية فأنظر إلى ساقك التي تركتها تذهب مع والدك ..
أخذ ينظر إلى ساقه ويتحسسها وتذكر حينها ذلك الحادث ذلك اليوم الذي لم يعد فيه كما هو ،حين استفاق من غيبوبته لم يعد يعرف حتى نفسه فلم يجد أباه ولا ساقه..."
فاض ذهنه بذكريات كثيرة كأنها تصب عليه من السماء وليست داخل ذهنه...لقد كان يعيش داخلها طيلة عشر سنوات، كان يرتاح فقط حين يشعل سيجارته في شرفة منزله في ضواحي باريس.
احتضن الرسالة وراح يبكي على الفقد الذي عايشه، وعلى الشعور بالغربة الذي اجتاحه واستعمره من لحظة الحادث ولم يستطع مقاومة ضعفه وانكساره ،سامحني يا أبي لقد خرجت أخيرا من حنجرته كلمة أبي التي لطالما بقي خائفا من نطقها كان يظن أنه سيختنق أن لفظها ولكنه تغلب هذه المرة على خوفه.
أكمل قراءة الرسالة: "يا ولدي ،نحن لم نسافر بمحض إرادتنا لقد أصابت بيتنا الوحشة وامتلأت جدرانه بالفراغ فقررنا الرحيل إلى مكان أخر علنا نعود للحياة من جديد .ابحث عنا هذا هو العنوان الذي سنذهب إليه ..أتمنى أن لا تتأخر علينا نحن في انتظارك.."
رن هاتفه ..إنها زوجته تخبره بلغتها الفرنسية أنها اشتاقت إليه وأن ابنتيه لا تكفان على السؤال عنه ويبلغونه سلامهن،وضع الهاتف جانبا ..نزع رجله الخشبية وعدل جسده فوق السرير الذي تقاسمه مع القطط واحتطن الرسالة ..وراح يغط في نوم عميق .