- المشاهدات: 76
- الردود: 2
"نور العين بالنسبة إلى البعض هو الرؤية؛ رؤية العين لكل شيء ولكل جديد ولكل ما هو ممتع النظر إليه، أما أنا فنور عيني هي والدتي، فهي أمي وأبي وكل عائلتي، لقد وُلدت ولم أجد أمامي غير أمي وإخوتي، الرؤية بالنسبة لي هي نعمتي ونقمتي في آن واحد، اليوم يتم تخريجي وتكريمي كدكتور في علم الوراثة، والحقيقة تخصصي أيضاً سببه أمي، فقد ولد إخوتي سالم وصالح مكفوفين دون سبب معلوم وغيرهم الكثير، لذلك اخترت ذلك الطريق لأبحث وأعلم عن تلك الحالة وغيرها من الحلات المختلفة، لذلك أمي هي نور أعيننا نحن الثلاثة، أهدي لكي هذه الجائزة، أُحبكِ أمي"
الدكتور "خالد محمد عبدالله"
الدكتور " خالد محمد عبدالله"
كان يقرأ خطابه فقطع النداء شروده، ذهب نحو المنصة لاستلام الشهادة، وأمه وأخوته وسط الجمهور يصفقون له ويشعرون بالفخر به، يستلم الجائزة ويلقي خطابه ويجري نحو الجمهور يقبل يدي وقدمي والدته ويحضن إخوته وهو بينهم، ويتذكر الماضي وأمه تكافح من أجل العيش، وتتذلل للناس من أجل قوت اليوم.
منذ ست وعشرين عامًا في المستشفى وعلى سرير جلدي مترهل وسط أسرة كثيرة في عنبر واحد وعشرون، تنام امرأة في عقدها الثالث قد خرجت منذ سويعات من عملية ولادة قيصرية، بجانبها ابنها الرضيع، والزوج يتحدث إلى الطبيب بالقرب من السرير ويخفض صوته كأنه يقصد فعل ذلك حتى لا تسمع الأم.
الزوج: كيف؟! ما السبب؟ هل حدث في غرفة العمليات شيءٌ خاطئ؟
الطبيب: هذا أمر الله لا اعتراض عليه أولاً، ثانياً لا نريد أن نُشعر الأم بأي شيء يُمكنك اخبارها عندما ترتاح قليلًا وتشعر بتحسن، وأنصحكم باللجوء إلى مساعدة متخصصة في هذا الأمر، ينتهي دوري هنا، إذا احتجت إليّ فقط اطلب من الممرضة وسوف آتي على الفور، أعانكم الله.
الزوج: شكراً يا دكتور.
ينظر خلفه وإذا بالأم تنظر إليه وتتساءل عن ماذا كانوا يتحدثون؟
الأم: هل سالم بخير؟ عن ماذا تتكلم مع الطبيب بصوت خافت؟ ماذا حدث طمئني يا محمد أقسمت عليك؟
يتنهد الأب ويقول: سالم بخير لا تقلقي، هل تشعرين بتحسن؟
الأم: نعم قليلاً، عن ماذا كان يتكلم مع الطبيب إذا؟
الأب: سالم بخير ولكنه وُلد لا استجابة لعينيه، قد فحصه طبيب الأطفال وقال إنه بخير تماماً ما عدا عينيه. وقال إذا لم تستجيب عيناه خلال اليومين القادمين، هذا للأسف معناه أنه ولد كفيف.
الأم: كيف؟ لماذا؟ أين هو؟ أين سالم أريد أن أراااه؟ ولدي حبيبي؟
ثم أعطاها زوجها الطفل، تمسك برضيعها في حضنها وتقبله باكية على حاله تتساءل "كيف سيعيش حياته وهو كفيف؟"
تمر الأيام وترضى بقضاء الله وقدره وتعود إلى بيتها برضيعها، وتحاول أن تتأقلم في الحياة الجديدة، وتتعلم كيف تعامله وتعلمه ويكبر سالم وهو كفيف واقتربت السنة الأولى من عمره حيث تعلم الحبو والمشي ولكن بأحداث كثيرة وبكاء كثير وكلها تعودت عليها الأم وتعود عليها الابن. أما الأب فلم يكن في الصورة منذ علم الخبر، يذهب للعمل صباحاً ويعود مساءًا يأكل ويجلس في غرفته المنفصلة يشاهد التلفاز وينام للدوام الثاني ويعيد نظام يومه، حتى حملت الأم مرة أخرى وتغير الأب وأصبح يهتم بها وبكل احتياجاتها، ونادراً ما يهتم بسالم.
يعود الأب من العمل ومعه احتياجات الأم من أدوية وفاكهة وعصائر وغيرهم.
نظرت له الأم والدموع في عينيها وقالت له:
"لماذا لا تحمل ولدك وتلعب معه، لماذا لا تتقبله، أليس ولدك؟ ألا تحبه؟ هل لإنه كفيف؟"
غضب الأب من حديثها: "من قال أنني لا أحبه، ماذا عن تلك الالعاب والأشياء التي أُحضرها له؟"
وتلعثم قائلا :"أنا... أنا ... أنا أحبه، تعال ... تعال يا سالم تعال بني" وحمل الطفل بطريقة خاطئة جعلته يبكي كثيراً.
فترك لها الطفل وقال: "أرأيتِ لقد بكى، لست أنا من لا أحبه، هو لا يحبني"
تعجبت الأم قائلة: "مازال رضيعاً لا يعرف أي شيء." فتركها الأب تتحدث ودخل غرفته وغلق الباب وجلس وحيدًا تاركاً الأم في بكاء شديد.
وتمضي أيام شبيهة بذلك اليوم، ومازالت الأم تحاول أن تقرب الأب من ولده، حتى لا يشعر الابن أن إعاقته هي سبب عدم قرب أبيه منه، وجاءت إشارات الولادة المبكرة في الشهر السابع من حملها، وهرول الزوج عليها وأخذها إلى المشفى، وهناك صُدموا مجددا أن الولد الثاني كفيف أيضاً.
وهنا غضب الأب جدا فأخذ ينظر تارة إلى الممرضين والدكتور وتارةٍ إلى السماء معترضاً على قضاء الله وقدره.
قال بصوت عالٍ للأم التي ما زالت تتعافى من الولادة: "كيف حدث هذا؟ أنتِ السبب، أهملتِ حملك وأهملتِ جنينك وجعلتِ سالم الكفيف أولويتك" وينظر له الناس بامتعاض من كلامه، وإلى الأم التي تبكي على مصير ابنها الآخر.
ويقوم الناس بتهدئة الرجل ولكن هيهات، يترك الأم وحدها بالمشفى هي ورضيعها وبجانبها ابنها الأخر ذا العامين، أشفقت عليها امرأة بجانبها فأخدت تُهدهد ابنها الكبير وشكرتها أم سالم.
فقالت لها المرأة: لا تقلقي كل الآباء يشعرون بتوتر في أول الأمر، ارتاحي قليلًا وسوف أهتم بولدك.
الأم وهي تبكي: لا أعرف ما السبب، والله لا أعرف غير أن الله له حكمة من ذلك والله أعلم، لا أعرف ما مصير ابنائي ولا أعرف كيف سنعيش، الأمر كان صعبًا بطفل واحد، الآن أصبحوا اثنان.
مرت أيام المستشفى على خير وعادت إلى بيتها وحدها ونظامها المعتاد ولكن مع ولدين مكفوفين ترعى واحد وتعلم الآخر والزوج أصبح ينطوي على نفسه أكثر من قبل، لا يخرج ولا يتحدث إليها إلا عند الحاجة، بينما تستكشف وتتعلم كيف تنمي عقولهم ولا تقف عند حد كيف يتعلمون الاعتماد على أنفسهم فقط ولكن ليكونا مثل الآخرين وليكونا أمثلة يحتذي به الأطفال من بعدهم، واهتمت أكثر بتعليمهم الدين وحفظ القرآن الكريم، والطفل الرضيع كانت تُسمعه القرآن وهو في رحمها وبعد ولادته، وكانت تقرأ بصوتها، والآن وهو في عمر الثلاث سنوات يحبه ويحاول تردديه وراء أمه، وسالم ذا الخمس سنوات حفظ ثلثي القرآن ويتعلم ترتيله وتعلم الأحرف الهجائية وتهيأ لدخول العام الدراسي الأزهري الجديد.
وقد كان الهدوء الذي يسبق العاصفة، فلقد طرق باب الأم كابوس لم تحسب له حساباً حيث علمت بحملها الثالث وهذه المرة لم تشعر بالفرحة بل العكس تماماً لأنها تعرف ما ينتظرها في نهاية هذا الطريق، فانتظرت زوجها لتخبره، فما كان رد فعله إلا الهجر، فقد تركها وحيدة هي وولداها لا تعرف ماذا تفعل؟
ذهبت اليوم التالي إلى جارة تثق بها لتترك معها الولدان ريثما تعود، وذهبت إلى زوجها في مقر عمله، تستجديه ليعود إلى منزله لكن هيهات، تركها مرةً أخرى تبكي وحيدة فتوقفت الأم عن اللحاق به وخرجت من المكان وهي متخذة قرارها بأنها ستعيش وحدها وتكمل رسالتها مع أطفالها كما كانت تفعل مع سالم وصالح ستفعل مع جنينها القادم، ولكن الآن هي وحدها تماماً.
ستتحدث مع جيرانها عن فرصة عمل حتى ولو كانت ستنظف بيوتهم، وبالفعل طلبت منهم عندما عادت؛ هناك من وافقوا وهناك من استحيوا ورفضوا وحتى حاولوا أن يبحثوا لها عن عملٍ آخر يحفظ لها كرامتها، ووجدوا لها عملًا بسيطا نصف يوم في مدرسة تكتب بعض الأوراق وتسلمها نهاية اليوم، فلقد كانت متعلمة وحاصلة على ما يكفي من التعليم يجعلها مؤهلة لهذا العمل، وتستطيع أن تترك ابنها الصغير في الروضة حتى تنتهي من عملها وتأخذه، والكبير في مدرسة المكفوفين الصف الأول الأزهري.
مع الوقت أصبحت تعمل في أعمال أخرى بجانب المدرسة؛ التنظيف في البيوت، فلقد بدأت في بيوت جيرانها ثم أصبح الناس يمدحونها يرشحونها في البيوت الكبيرة لأمانتها وصدقها.
حتى انتهت فترة وهناً على وهن، وجاء الميعاد، فتركت أولادها مع جارتها مرة أخرى، وذهبت المشفى وهي تبكي من وحدتها، وكانت صدمتها عند الولادة حيث جاءها الدكتور وقال: أن الطفل مختلف عن أبنائها، أبشري يا أم سالم هناك استجابة لعينيه، لا أظنه كأخوته، وأعطاها ولدها في حضنها.
الأم غير مصدقة: "هذا صحيح! نعم، نعم، إنه يرى، ااااه يا حبيبي، حمد لله، لقد جبر الله بخاطري، لقد تجاوزنا الاختبار يا محم ...د " وتنظر حولها ولكن ... لقد نسيت أنها وحيدة، من شدة فرحها.
ظنت أن زوجها بجانبها، كانت تريد مشاركة فرحها مع زوجها ولكن ... قد تخلى عنها وعن ابناؤه تركها في هذه الحياة وحيدة، وستبقى وحيدة، لقد اتخذت قرارها منذ تركته في مكان عمله، من أين أتى بتلك الجرأة ليطلب منها عصيان أمر الله،
تتحدث إلى نفسها قائلة: هل كنت سأتخلى عن ولدي هذا، لقد كافئني الله على صبري واحتسابي. وجعلك ترى يا نور عيني" وهي تنظر إلى ولدها.
الممرضة: هل اخترتِ له اسماً؟
تبتسم الأم وتقول: نعم، خالد إن شاء الله.
الممرضة: بارك الله لكي فيهم بإذن الله وأنبتهم نباتاً حسناً.
بعد تعافيها عادت الأم بولدها إلى جارتها وقالت لها الخبر السعيد في فرحة، وطلبت منها جارتها أن تنتظر وأنها ستعتني بها حتى تستعيد صحتها من الولادة وأن تأخد اجازة رسمية قصيرة من المدرسة مدفوعة الأجر حتى لا تقلق.
ومرت الأيام وعادت الأم إلى العمل وحياتها الطبيعية وهي في خضم مرحلة جديدة بالنسبة لها في تربية خالد، كان كل شيءٍ سهل عليها عما كانت عليه مع سالم وصالح والآن كبرا، وأصبحا يعتمدان على أنفسهما، وكبروا الثلاثة معًا في بيت مليء بالحب والمساعدة.
نضج الأولاد وأصبحوا يدركون ولم يكونوا راضيين عن حال أمهم كل يوم، فقد كانت تعمل في نظافة المنازل وفي المدرسة ولا تقصر في تعليمهم والجلوس معهم وتلبية حاجاتهم من مأكل ومشرب وملبس وتعليم، ولكن كانت مريضة ومرهقة وتستند على عكاز من شدة تعبها.
وعندما بلغوا من العمر ما يستطيعون أن يجعلوا والدتهم تتوقف عن هذه الأعمال وترتاح وسيعملون هم من أجل العيش، سالم كبر وأصبح حافظ لقرآن الله الكريم وكان مثله الأعلى الشيخ محمد رفعت رحمه الله وسار على دربه وتخرج من كلية الأزهر الشريف وقد درس علم القراءات وتعين في وزارة الأوقاف وأصبح مؤذن مسجد ومُحفظ للقرآن الكريم،
صالح على الجانب الآخر أراد مساعدة من مثله، فتخرج من كلية التربية وتعين في مدرسة المكفوفين، ليرشدهم على الدرب الصحيح كما فعلت معه مثله الأعلى وهي أمه، وهو ممتن كثيراً لمجهودها الذي بذلته معه وأخوه.
قطع تصفيق حاد للأم شرود خالد وعاد إلى حاضره وينظر إلى أمه ويدرك فيما تفكر، حيث كانت تنظر لهم في حب وفخر وتتذكر مواقف كثيرة مرت بها معهم بالبكاء تارة وبالضحك تارة أخرى، ونظرت للسماء، وهي تحمد الله عليهم.
الدكتور "خالد محمد عبدالله"
الدكتور " خالد محمد عبدالله"
كان يقرأ خطابه فقطع النداء شروده، ذهب نحو المنصة لاستلام الشهادة، وأمه وأخوته وسط الجمهور يصفقون له ويشعرون بالفخر به، يستلم الجائزة ويلقي خطابه ويجري نحو الجمهور يقبل يدي وقدمي والدته ويحضن إخوته وهو بينهم، ويتذكر الماضي وأمه تكافح من أجل العيش، وتتذلل للناس من أجل قوت اليوم.
منذ ست وعشرين عامًا في المستشفى وعلى سرير جلدي مترهل وسط أسرة كثيرة في عنبر واحد وعشرون، تنام امرأة في عقدها الثالث قد خرجت منذ سويعات من عملية ولادة قيصرية، بجانبها ابنها الرضيع، والزوج يتحدث إلى الطبيب بالقرب من السرير ويخفض صوته كأنه يقصد فعل ذلك حتى لا تسمع الأم.
الزوج: كيف؟! ما السبب؟ هل حدث في غرفة العمليات شيءٌ خاطئ؟
الطبيب: هذا أمر الله لا اعتراض عليه أولاً، ثانياً لا نريد أن نُشعر الأم بأي شيء يُمكنك اخبارها عندما ترتاح قليلًا وتشعر بتحسن، وأنصحكم باللجوء إلى مساعدة متخصصة في هذا الأمر، ينتهي دوري هنا، إذا احتجت إليّ فقط اطلب من الممرضة وسوف آتي على الفور، أعانكم الله.
الزوج: شكراً يا دكتور.
ينظر خلفه وإذا بالأم تنظر إليه وتتساءل عن ماذا كانوا يتحدثون؟
الأم: هل سالم بخير؟ عن ماذا تتكلم مع الطبيب بصوت خافت؟ ماذا حدث طمئني يا محمد أقسمت عليك؟
يتنهد الأب ويقول: سالم بخير لا تقلقي، هل تشعرين بتحسن؟
الأم: نعم قليلاً، عن ماذا كان يتكلم مع الطبيب إذا؟
الأب: سالم بخير ولكنه وُلد لا استجابة لعينيه، قد فحصه طبيب الأطفال وقال إنه بخير تماماً ما عدا عينيه. وقال إذا لم تستجيب عيناه خلال اليومين القادمين، هذا للأسف معناه أنه ولد كفيف.
الأم: كيف؟ لماذا؟ أين هو؟ أين سالم أريد أن أراااه؟ ولدي حبيبي؟
ثم أعطاها زوجها الطفل، تمسك برضيعها في حضنها وتقبله باكية على حاله تتساءل "كيف سيعيش حياته وهو كفيف؟"
تمر الأيام وترضى بقضاء الله وقدره وتعود إلى بيتها برضيعها، وتحاول أن تتأقلم في الحياة الجديدة، وتتعلم كيف تعامله وتعلمه ويكبر سالم وهو كفيف واقتربت السنة الأولى من عمره حيث تعلم الحبو والمشي ولكن بأحداث كثيرة وبكاء كثير وكلها تعودت عليها الأم وتعود عليها الابن. أما الأب فلم يكن في الصورة منذ علم الخبر، يذهب للعمل صباحاً ويعود مساءًا يأكل ويجلس في غرفته المنفصلة يشاهد التلفاز وينام للدوام الثاني ويعيد نظام يومه، حتى حملت الأم مرة أخرى وتغير الأب وأصبح يهتم بها وبكل احتياجاتها، ونادراً ما يهتم بسالم.
يعود الأب من العمل ومعه احتياجات الأم من أدوية وفاكهة وعصائر وغيرهم.
نظرت له الأم والدموع في عينيها وقالت له:
"لماذا لا تحمل ولدك وتلعب معه، لماذا لا تتقبله، أليس ولدك؟ ألا تحبه؟ هل لإنه كفيف؟"
غضب الأب من حديثها: "من قال أنني لا أحبه، ماذا عن تلك الالعاب والأشياء التي أُحضرها له؟"
وتلعثم قائلا :"أنا... أنا ... أنا أحبه، تعال ... تعال يا سالم تعال بني" وحمل الطفل بطريقة خاطئة جعلته يبكي كثيراً.
فترك لها الطفل وقال: "أرأيتِ لقد بكى، لست أنا من لا أحبه، هو لا يحبني"
تعجبت الأم قائلة: "مازال رضيعاً لا يعرف أي شيء." فتركها الأب تتحدث ودخل غرفته وغلق الباب وجلس وحيدًا تاركاً الأم في بكاء شديد.
وتمضي أيام شبيهة بذلك اليوم، ومازالت الأم تحاول أن تقرب الأب من ولده، حتى لا يشعر الابن أن إعاقته هي سبب عدم قرب أبيه منه، وجاءت إشارات الولادة المبكرة في الشهر السابع من حملها، وهرول الزوج عليها وأخذها إلى المشفى، وهناك صُدموا مجددا أن الولد الثاني كفيف أيضاً.
وهنا غضب الأب جدا فأخذ ينظر تارة إلى الممرضين والدكتور وتارةٍ إلى السماء معترضاً على قضاء الله وقدره.
قال بصوت عالٍ للأم التي ما زالت تتعافى من الولادة: "كيف حدث هذا؟ أنتِ السبب، أهملتِ حملك وأهملتِ جنينك وجعلتِ سالم الكفيف أولويتك" وينظر له الناس بامتعاض من كلامه، وإلى الأم التي تبكي على مصير ابنها الآخر.
ويقوم الناس بتهدئة الرجل ولكن هيهات، يترك الأم وحدها بالمشفى هي ورضيعها وبجانبها ابنها الأخر ذا العامين، أشفقت عليها امرأة بجانبها فأخدت تُهدهد ابنها الكبير وشكرتها أم سالم.
فقالت لها المرأة: لا تقلقي كل الآباء يشعرون بتوتر في أول الأمر، ارتاحي قليلًا وسوف أهتم بولدك.
الأم وهي تبكي: لا أعرف ما السبب، والله لا أعرف غير أن الله له حكمة من ذلك والله أعلم، لا أعرف ما مصير ابنائي ولا أعرف كيف سنعيش، الأمر كان صعبًا بطفل واحد، الآن أصبحوا اثنان.
مرت أيام المستشفى على خير وعادت إلى بيتها وحدها ونظامها المعتاد ولكن مع ولدين مكفوفين ترعى واحد وتعلم الآخر والزوج أصبح ينطوي على نفسه أكثر من قبل، لا يخرج ولا يتحدث إليها إلا عند الحاجة، بينما تستكشف وتتعلم كيف تنمي عقولهم ولا تقف عند حد كيف يتعلمون الاعتماد على أنفسهم فقط ولكن ليكونا مثل الآخرين وليكونا أمثلة يحتذي به الأطفال من بعدهم، واهتمت أكثر بتعليمهم الدين وحفظ القرآن الكريم، والطفل الرضيع كانت تُسمعه القرآن وهو في رحمها وبعد ولادته، وكانت تقرأ بصوتها، والآن وهو في عمر الثلاث سنوات يحبه ويحاول تردديه وراء أمه، وسالم ذا الخمس سنوات حفظ ثلثي القرآن ويتعلم ترتيله وتعلم الأحرف الهجائية وتهيأ لدخول العام الدراسي الأزهري الجديد.
وقد كان الهدوء الذي يسبق العاصفة، فلقد طرق باب الأم كابوس لم تحسب له حساباً حيث علمت بحملها الثالث وهذه المرة لم تشعر بالفرحة بل العكس تماماً لأنها تعرف ما ينتظرها في نهاية هذا الطريق، فانتظرت زوجها لتخبره، فما كان رد فعله إلا الهجر، فقد تركها وحيدة هي وولداها لا تعرف ماذا تفعل؟
ذهبت اليوم التالي إلى جارة تثق بها لتترك معها الولدان ريثما تعود، وذهبت إلى زوجها في مقر عمله، تستجديه ليعود إلى منزله لكن هيهات، تركها مرةً أخرى تبكي وحيدة فتوقفت الأم عن اللحاق به وخرجت من المكان وهي متخذة قرارها بأنها ستعيش وحدها وتكمل رسالتها مع أطفالها كما كانت تفعل مع سالم وصالح ستفعل مع جنينها القادم، ولكن الآن هي وحدها تماماً.
ستتحدث مع جيرانها عن فرصة عمل حتى ولو كانت ستنظف بيوتهم، وبالفعل طلبت منهم عندما عادت؛ هناك من وافقوا وهناك من استحيوا ورفضوا وحتى حاولوا أن يبحثوا لها عن عملٍ آخر يحفظ لها كرامتها، ووجدوا لها عملًا بسيطا نصف يوم في مدرسة تكتب بعض الأوراق وتسلمها نهاية اليوم، فلقد كانت متعلمة وحاصلة على ما يكفي من التعليم يجعلها مؤهلة لهذا العمل، وتستطيع أن تترك ابنها الصغير في الروضة حتى تنتهي من عملها وتأخذه، والكبير في مدرسة المكفوفين الصف الأول الأزهري.
مع الوقت أصبحت تعمل في أعمال أخرى بجانب المدرسة؛ التنظيف في البيوت، فلقد بدأت في بيوت جيرانها ثم أصبح الناس يمدحونها يرشحونها في البيوت الكبيرة لأمانتها وصدقها.
حتى انتهت فترة وهناً على وهن، وجاء الميعاد، فتركت أولادها مع جارتها مرة أخرى، وذهبت المشفى وهي تبكي من وحدتها، وكانت صدمتها عند الولادة حيث جاءها الدكتور وقال: أن الطفل مختلف عن أبنائها، أبشري يا أم سالم هناك استجابة لعينيه، لا أظنه كأخوته، وأعطاها ولدها في حضنها.
الأم غير مصدقة: "هذا صحيح! نعم، نعم، إنه يرى، ااااه يا حبيبي، حمد لله، لقد جبر الله بخاطري، لقد تجاوزنا الاختبار يا محم ...د " وتنظر حولها ولكن ... لقد نسيت أنها وحيدة، من شدة فرحها.
ظنت أن زوجها بجانبها، كانت تريد مشاركة فرحها مع زوجها ولكن ... قد تخلى عنها وعن ابناؤه تركها في هذه الحياة وحيدة، وستبقى وحيدة، لقد اتخذت قرارها منذ تركته في مكان عمله، من أين أتى بتلك الجرأة ليطلب منها عصيان أمر الله،
تتحدث إلى نفسها قائلة: هل كنت سأتخلى عن ولدي هذا، لقد كافئني الله على صبري واحتسابي. وجعلك ترى يا نور عيني" وهي تنظر إلى ولدها.
الممرضة: هل اخترتِ له اسماً؟
تبتسم الأم وتقول: نعم، خالد إن شاء الله.
الممرضة: بارك الله لكي فيهم بإذن الله وأنبتهم نباتاً حسناً.
بعد تعافيها عادت الأم بولدها إلى جارتها وقالت لها الخبر السعيد في فرحة، وطلبت منها جارتها أن تنتظر وأنها ستعتني بها حتى تستعيد صحتها من الولادة وأن تأخد اجازة رسمية قصيرة من المدرسة مدفوعة الأجر حتى لا تقلق.
ومرت الأيام وعادت الأم إلى العمل وحياتها الطبيعية وهي في خضم مرحلة جديدة بالنسبة لها في تربية خالد، كان كل شيءٍ سهل عليها عما كانت عليه مع سالم وصالح والآن كبرا، وأصبحا يعتمدان على أنفسهما، وكبروا الثلاثة معًا في بيت مليء بالحب والمساعدة.
نضج الأولاد وأصبحوا يدركون ولم يكونوا راضيين عن حال أمهم كل يوم، فقد كانت تعمل في نظافة المنازل وفي المدرسة ولا تقصر في تعليمهم والجلوس معهم وتلبية حاجاتهم من مأكل ومشرب وملبس وتعليم، ولكن كانت مريضة ومرهقة وتستند على عكاز من شدة تعبها.
وعندما بلغوا من العمر ما يستطيعون أن يجعلوا والدتهم تتوقف عن هذه الأعمال وترتاح وسيعملون هم من أجل العيش، سالم كبر وأصبح حافظ لقرآن الله الكريم وكان مثله الأعلى الشيخ محمد رفعت رحمه الله وسار على دربه وتخرج من كلية الأزهر الشريف وقد درس علم القراءات وتعين في وزارة الأوقاف وأصبح مؤذن مسجد ومُحفظ للقرآن الكريم،
صالح على الجانب الآخر أراد مساعدة من مثله، فتخرج من كلية التربية وتعين في مدرسة المكفوفين، ليرشدهم على الدرب الصحيح كما فعلت معه مثله الأعلى وهي أمه، وهو ممتن كثيراً لمجهودها الذي بذلته معه وأخوه.
قطع تصفيق حاد للأم شرود خالد وعاد إلى حاضره وينظر إلى أمه ويدرك فيما تفكر، حيث كانت تنظر لهم في حب وفخر وتتذكر مواقف كثيرة مرت بها معهم بالبكاء تارة وبالضحك تارة أخرى، ونظرت للسماء، وهي تحمد الله عليهم.