- المشاهدات: 92
- الردود: 1
عدت إلى البيت بعد دوام متعب، تسطحت على الأريكة وطلبت من إبني كمال أن يحضر لي كأس ماء، قام على مضض أحضر الماء ولم ينظر إلى وجهي حتى، غضب لأنني أشغلته عن لعبه، تسطحت وعادت بي الذاكرة إلى سنوات مراهقتي، كان أبي يعود إلى البيت و يبدأ بإعطاء الأوامر، تعال يا أنس، أحضر يا أنس وافعل يا أنس، كنت أتذمر من أوامره تلك، لمَ لا يقوم ليفعل ذلك بنفسه؟, كنت أحس أنه لا يقوم بشيء سوى إعطاء الأوامر.
تذكرت ذات مساء عندما عاد أبي وكان على ذراعه عدة جروح جراء سقوطه من السلم، جروح خفيفة لكنه كان يشتكي ألمها ويذكر معاناته مع إصلاح بيتنا القديم الذي كنا سننتقل إليه بعد انتهاء مدة الإيجار، أخبرت أمي أن أبي يحملنا مسؤولية تعبه و أني قد تعبت من شكواه الدائمة وتذمره المتكرر عن تعبه و إرهاقه، لقد كنت أرى أن أمي التي تتعب في التنظيف والطبخ والغسل و غيرها، و ظننتها من تحمل البيت وحدها على كتفيها، بينما يغيب هو طوال اليوم و يعود مساء للتذمر و التأمر، وعندما انتقلنا إلى بيتنا لم يكن قد اكتمل إصلاحه بعد، على هذه الحال صار أبي يعود من دوامه مباشرة للعمل على إتمام المنزل، انزعجت كثيرا وقته، فقد كنت أخجل من أصدقائي الذين لديهم غرف خاصة جميلة و واسعة، ولم يكن لي واحدة، كنت دائما أطلب من أبي أن يوفر لي المزيد و أتذمر من الموجود، بعدها صار أبي يتأخر كثيرا في العودة إلى البيت، و صرت أنام قبل أن يأتي وعندما استيقظ صباحا أجده قد ذهب للعمل، لم نعد نلتقي، كانت أمي هي همزة الوصل الوحيدة بيننا، علمت منها لاحقا أن أبي يعمل بوامٍ إضافي لكي يوفر المال لإتمام غرفة لي، لم تعني تلك الكلمات شيئا لي، وكأن الأمر واجب عليه، ولم أكترث وقتها لتعبه وجهده المضاعف المبذول لكي يستطيع توفير حياة كريمة لي مثل أقراني.
أعادتني مناداة زوجتي للعشاء من شريط ذكرياتي، جلست على طاولة العشاء مع زوجتي و أبنائي فلاحظت أن كمال يبدو منزعجا وسألته عن ذلك، فرد بأنه يريد هاتفا نقالا مثل أصدقائه، وأنه صار يخجل من كونه لا يملك واحد، لم أستطع الرد فأنا لا أملك مالا كافيا لشراء هاتف الآن، فأخبرته بأن راتبي لا يسمح حاليا باقتناء هاتف، تذمّر إبني وقام ذاهبا إلى غرفته وهو يتمتم بكلمات كنت أتمتم بها في صغري عندما لا أجد ما أطلب "إن كنت لا تستطيع أن توفر لي عيشا كريما فلمَ أتيتَ بي إلى الحياة؟"، نزلت تلك الكلمات على قلبي كالصاعقة المدمرة، أردت أن أقوم لأعاتبه عليها لكن الكلمات خانت لفظي، قمت بعدها إلى سريري و أنا أشتهي البكاء، ليس لأن إبني قالها لي بل لأني أحسست بثقلها على قلب أبي وقتها، رحت أحدث نفسي:" إذا يا أبي هذا ما أحسست به، لماذا لم تتحدث؟، لمَ لم تضربني؟، ترا هل بكيت وقتها مثل ما أبكي الآن؟"، تمنيت لو أعود إلى تلك اللحظة فأقبل رأس والدي حينها وأن لا أطلب منه شيئا سوى أن يكون بخير، تمنيت لو أنني كنت ولدا متفهما وقتها، دخلت إبنتي مريم الغرفة فكفكفت دموعي و نظرت لها مبتسما: ماذا تريد أميرتي؟، فردت: لاشيء يا أبي سوى قصة ما قبل النوم، رحت أروي لها قصة رجل مكافح أنجب ولدا كان عاقا به رغم كل التضحيات، رغم كل الجد و الكد والتعب لأجله، في نهاية القصة يحس الولد بقيمة والده فيعود إليه و يعتذر منه، نامت صغيرتي و رحت أغوص أنا في ذكرياتي، عادت بي ذاكرتي إلى يوم تخرجي، كنت فخورا بإنجازي، أمشي متباهيا بين زملائي متجها إلى المنصة لاستلام شهادتي، فرأيت والدي بين الحضور، بعينيه الذابلتين، رغم تعبه ومرضه إلا أنه حضر، كان أكثر فخرا مني بإنجازي، كان فخر الأب بإبنه، وكأن بريق عينيه يقول إبني هو إنجازي، إنني الآن معترف أننا وإن مررنا بالعديد من العلاقات في حياتنا، لكننا لا ولن نجد من يتمنى أن نكون أحسن منه إلا الأب، يتمنى دائما أن يعيش إبنه أحسن منه، وأن يحصل طفله على ما لم يستطع هو الحصول عليه، يسعى دائما أن تكون صورة إبنه أحسن من صورته، لقد أحسست الآن بكل الأحاسيس التي مر بها والدي، ليت زماني يعود بي لأصحح كل أخطائي مع والدي، في تلك اللحظة حسدت صاحب القصة الذي أحس بقيمة والده فاعتذر منه بينما أنا لم أفعل.
في صباح اليوم التالي قصدت والدي لأعتذر منه، ولأخبره بمدى تعبي وإرهاقي، لقد قصدته لأشتكي له مر ما سقتني الحياة، وأشكو له انكسار ظهري.
عندما وصلت جلست و رحت أخبره عن مدى أسفي و حزني لأنني لم أعي قيمته مبكرا، لم أستوعب مدى أهمية وجوده بجانبي، رحت أستعطفه:"أبي سندي، أبي يا جبلا كان يحميني من كل العواصف، أبي يا استقامة ظهري وعوني في الحياة، استسمحك عذرا، أتوسل رضاك، أطلب عفوك عن عثرات صغيرك، أرجو لقاك، أتمنى منك نظرة رضا يا أبي، أحبك يا أبي"، قمت بعدما سقت دموعي تراب قبره، تركت عند قبره كل الكلمات التي تأخر وقتها، الكلمات التي كان يجب أن أخبره بها تركتها الآن كقبلة على جبين ميت، لا تزيد و لا تنقص، حملت آهات قلب معي و قمت أدعو له الرحمة و الدرجات العليا من الجنة.
تصفعنا الدنيا صفعات عدة نتعلم من خلالها دروسا كثيرا، وأقسى صفعاتها فراق الأب، ينقسم الظهر بعدها وتصعب الحياة، ليتنا لا نخطأ أبدا في حق آبائنا، ليتنا لا نفارقهم، ليت الآباء لا يرحلون.
تذكرت ذات مساء عندما عاد أبي وكان على ذراعه عدة جروح جراء سقوطه من السلم، جروح خفيفة لكنه كان يشتكي ألمها ويذكر معاناته مع إصلاح بيتنا القديم الذي كنا سننتقل إليه بعد انتهاء مدة الإيجار، أخبرت أمي أن أبي يحملنا مسؤولية تعبه و أني قد تعبت من شكواه الدائمة وتذمره المتكرر عن تعبه و إرهاقه، لقد كنت أرى أن أمي التي تتعب في التنظيف والطبخ والغسل و غيرها، و ظننتها من تحمل البيت وحدها على كتفيها، بينما يغيب هو طوال اليوم و يعود مساء للتذمر و التأمر، وعندما انتقلنا إلى بيتنا لم يكن قد اكتمل إصلاحه بعد، على هذه الحال صار أبي يعود من دوامه مباشرة للعمل على إتمام المنزل، انزعجت كثيرا وقته، فقد كنت أخجل من أصدقائي الذين لديهم غرف خاصة جميلة و واسعة، ولم يكن لي واحدة، كنت دائما أطلب من أبي أن يوفر لي المزيد و أتذمر من الموجود، بعدها صار أبي يتأخر كثيرا في العودة إلى البيت، و صرت أنام قبل أن يأتي وعندما استيقظ صباحا أجده قد ذهب للعمل، لم نعد نلتقي، كانت أمي هي همزة الوصل الوحيدة بيننا، علمت منها لاحقا أن أبي يعمل بوامٍ إضافي لكي يوفر المال لإتمام غرفة لي، لم تعني تلك الكلمات شيئا لي، وكأن الأمر واجب عليه، ولم أكترث وقتها لتعبه وجهده المضاعف المبذول لكي يستطيع توفير حياة كريمة لي مثل أقراني.
أعادتني مناداة زوجتي للعشاء من شريط ذكرياتي، جلست على طاولة العشاء مع زوجتي و أبنائي فلاحظت أن كمال يبدو منزعجا وسألته عن ذلك، فرد بأنه يريد هاتفا نقالا مثل أصدقائه، وأنه صار يخجل من كونه لا يملك واحد، لم أستطع الرد فأنا لا أملك مالا كافيا لشراء هاتف الآن، فأخبرته بأن راتبي لا يسمح حاليا باقتناء هاتف، تذمّر إبني وقام ذاهبا إلى غرفته وهو يتمتم بكلمات كنت أتمتم بها في صغري عندما لا أجد ما أطلب "إن كنت لا تستطيع أن توفر لي عيشا كريما فلمَ أتيتَ بي إلى الحياة؟"، نزلت تلك الكلمات على قلبي كالصاعقة المدمرة، أردت أن أقوم لأعاتبه عليها لكن الكلمات خانت لفظي، قمت بعدها إلى سريري و أنا أشتهي البكاء، ليس لأن إبني قالها لي بل لأني أحسست بثقلها على قلب أبي وقتها، رحت أحدث نفسي:" إذا يا أبي هذا ما أحسست به، لماذا لم تتحدث؟، لمَ لم تضربني؟، ترا هل بكيت وقتها مثل ما أبكي الآن؟"، تمنيت لو أعود إلى تلك اللحظة فأقبل رأس والدي حينها وأن لا أطلب منه شيئا سوى أن يكون بخير، تمنيت لو أنني كنت ولدا متفهما وقتها، دخلت إبنتي مريم الغرفة فكفكفت دموعي و نظرت لها مبتسما: ماذا تريد أميرتي؟، فردت: لاشيء يا أبي سوى قصة ما قبل النوم، رحت أروي لها قصة رجل مكافح أنجب ولدا كان عاقا به رغم كل التضحيات، رغم كل الجد و الكد والتعب لأجله، في نهاية القصة يحس الولد بقيمة والده فيعود إليه و يعتذر منه، نامت صغيرتي و رحت أغوص أنا في ذكرياتي، عادت بي ذاكرتي إلى يوم تخرجي، كنت فخورا بإنجازي، أمشي متباهيا بين زملائي متجها إلى المنصة لاستلام شهادتي، فرأيت والدي بين الحضور، بعينيه الذابلتين، رغم تعبه ومرضه إلا أنه حضر، كان أكثر فخرا مني بإنجازي، كان فخر الأب بإبنه، وكأن بريق عينيه يقول إبني هو إنجازي، إنني الآن معترف أننا وإن مررنا بالعديد من العلاقات في حياتنا، لكننا لا ولن نجد من يتمنى أن نكون أحسن منه إلا الأب، يتمنى دائما أن يعيش إبنه أحسن منه، وأن يحصل طفله على ما لم يستطع هو الحصول عليه، يسعى دائما أن تكون صورة إبنه أحسن من صورته، لقد أحسست الآن بكل الأحاسيس التي مر بها والدي، ليت زماني يعود بي لأصحح كل أخطائي مع والدي، في تلك اللحظة حسدت صاحب القصة الذي أحس بقيمة والده فاعتذر منه بينما أنا لم أفعل.
في صباح اليوم التالي قصدت والدي لأعتذر منه، ولأخبره بمدى تعبي وإرهاقي، لقد قصدته لأشتكي له مر ما سقتني الحياة، وأشكو له انكسار ظهري.
عندما وصلت جلست و رحت أخبره عن مدى أسفي و حزني لأنني لم أعي قيمته مبكرا، لم أستوعب مدى أهمية وجوده بجانبي، رحت أستعطفه:"أبي سندي، أبي يا جبلا كان يحميني من كل العواصف، أبي يا استقامة ظهري وعوني في الحياة، استسمحك عذرا، أتوسل رضاك، أطلب عفوك عن عثرات صغيرك، أرجو لقاك، أتمنى منك نظرة رضا يا أبي، أحبك يا أبي"، قمت بعدما سقت دموعي تراب قبره، تركت عند قبره كل الكلمات التي تأخر وقتها، الكلمات التي كان يجب أن أخبره بها تركتها الآن كقبلة على جبين ميت، لا تزيد و لا تنقص، حملت آهات قلب معي و قمت أدعو له الرحمة و الدرجات العليا من الجنة.
تصفعنا الدنيا صفعات عدة نتعلم من خلالها دروسا كثيرا، وأقسى صفعاتها فراق الأب، ينقسم الظهر بعدها وتصعب الحياة، ليتنا لا نخطأ أبدا في حق آبائنا، ليتنا لا نفارقهم، ليت الآباء لا يرحلون.