- المشاهدات: 94
- الردود: 2
"رغم كل شيء تظّل أمّي"
في رواقٍ طويلٍ مشينا، وعلى هذا السؤال أكثرت الإلحاح، إلى أين نحن ذاهبون ؟.. لكن ولا كلمة يمشي وكأّنّ به صمم، أظهرت عيناه غضباً، لم أتجرأ بعدها على إعادة سؤاله .
ولجنا قاعةً كبيرةً ومكتظةً بها أضواء ملّونة وموسيقى عالية، وفجأة تعالت الهتافات والتصفيقات، واحتشد الجمع وما عدت أرى شيئا. حملني أبي ووضعني فوق الطاولة.
على منصة وقفت امرأةٌ جميلة ترتدي فستانا أحمراً طويلاً، مفتوحاً من الصدر والظهر. أمسكت الميكروفون وبدأت افتتاحية السهرة. جلس الجميع على كراسيهم بينما بقيت وأبي واقفين. أشار بإصبعه نحوها يطلب مني تذكّرها جيّدا. لاحظتنا من بعيد بينما كانت تُلقي كلمتها. توقفت للحظةٍ تحدق فينا، عندها صرخ أبي باسمها. تبدلت ملامح وجهها وتراجعت خطوتين إلى الوراء.
رمت ما في يّدها وبدأت تتقدم اتجاهنا مهرولةً، شدّني أبي من يدي وانطلق بي مسرعاً، كانت تلاحقنا باستماتة ومع آخر خطوة لها تعثرت وسقطت. رأيتها وهي ممدّدة على الأرض منهارةً تبكي كانت نظراتها معلّقة فيّ وكأنّها تحاول الوصول إليّ . سألته من تكون؟، لما عساي أتذكرها؟. أجابني أنّ أمنيتي في رؤية أمّي قد تحققت.
لمته وعاتبته لأنّه لم يخبرني حينها، وددت أن اركض إليها، أعانقها وأقبلها. بكيت بحرقةٍ لأنّه لم تُتح لي الفرصة لفعل ذلك. طلبت منه أن أراها مجدداً لكنّه رفض.
****
في السابق دائماً ما كان يتساءل، ما دامت أمي لما لا تزورني ؟، ألا يهمها رؤيتي أو سماع أخباري ؟، أتراها تتذكرني مثلما أتذكرها ؟، تبكيني مثلما ابكيها؟.
مع تقدم السنين لم تعد هذه التساؤلات تطرح، الآن أصبح يدرك طبيعة ذلك العمل والمكان. لقد كبر ولد الأمس وصار رجلاً، لا يخفى عليه ما معنى نادٍ ليلي، وما صفة صاحبة الفستان الأحمر. كلّما فكّر أنّها تغني وتهز خصرها ويعاكسها العشرات من الرجال ثارت حفيظتَه وحميّتَه وكره ذكرها واحتقرها .
****
القلق والاستياء تسللا أيضا إلى منامه، أكثر ما كان يتعب قلبه المتعب أصلا أن يغفو ليلاً ويرى طيف امرأة، يُخيّل إليه أنّه يسمع أنينها، تجلس هناك في الظلام، يتقدم نحو الصوت الحزين يتحسس المكان، فمرة يظهر أن الصوت صار وراءه، ومرة عن يمينه، وأخرى عن شماله. لم يتحمل ذلك ورفع يديه صاماً أذنيه ليكتشف أنّ الصوت يصدح داخل عقله، أغمض عينيه ونزل على ركبتيه واضعاً رأسه على الأرض. أنار أخوه الغرفة فوجده على تلك الهيئة. أيقظه وهرع إليه بكوب ماء.
باتت هذه الحالة تتكرر من ليلة إلى أخرى، ففي فتره نومه يظّل عقله نشطاً وعيونه تتحرك يميناً وشمالاً ما يعني أنّه يحلم. لقد عاد طيفها للمنام مجددا تركض خلفه حتى ارتبكت خطواتها وسقطت منهارة تبكي بلا صوت، كانت عيناها معلقة به وكأنّها تريد الوصول إليه، وفجأة تغيّر المكان وكأنّه غابة، فاضت الأرض تحتها وصارت تغرق في الوحل المتحرك تنادي وتستغيث.
كان صراخها يشق القلب، حينها توقف عن الهرب وعاد لمساعدتها. كانت هناك شجرة، كسر منها غصناً ثم مدّه لها حتّى تتشبث فيه، وبمجرد ما أمسكته تحول الغصن إلى أفعى، فزع لمّا رآه وافلت ذيلها من بين يديه، وكم كانت الأفعى سامة وحقودة التفت عليها وأغرقتها حتى اختفت بالكامل.
استيقظ من الحلم فزعا يردد: ما بال هذه الأيام ثقيلة عليّ، تُضيّق صدري . بدا شريط الذكريات يجتاح مخيلته، أصابه بإعياء ذهني، تبيّن أنّها نفس الذكرى المحبوسة داخل عقله، أيقظت فيه الشعور بالأسى، فرغم البعد والفراق إلا أن زاوية من قلبه مازالت ترنو وتحن إليها.
في اليوم التالي قصد أحد الشيوخ الصالحين العارفين يطلب تفسيراً. سأله الشيخ: كيف هي علاقتك بأمك؟ .
رد عليه: منقطعة. لكن ما صلتها بمنامي ؟!
: هذا ما يجب أن تبحث عنه.
: لم تزرني يوما في الحقيقة وتزورني في المنام ؟!.
: يا بنيّ، لا ينبغي لأحد إنكار الرحم الذي خرج منه.. قد نصحتك وأجري على الهي.
أدرك من فحوى كلامه انه لن يجد الراحة إلاّ في التصالح مع ماضيه، وتقبل الحقيقة الثابتة التي لا مناص منها لأن إخفاءها في أظلم بقعة من ذاكرته سيبقي عقله ينزف.
****
استأنف السؤال عنها، لكن الكثير رفضوا الحديث. لم يُحبط واجتهد في البحث مراتٍ عديدة، وصار يسأل كل يوم حتّى الأطفال و يغريهم ببعض النقود. وأخيراً حالفه الحظ وأدرك ما يريد.
كان متلهفاً حتى رآها فإنصدم، وشحب وجهه، أحسّ أنّ الأرض تميد به لم يصدّق أنّ جميلة الأمس صارت عجوزاً هرمة، لا أسنان بيضاء لامعة، ولا بشرة ناعمة، ولا قوام رشيق. لقد تبددت الصورة التي خلدتها ذاكرته أيام الطفولة. وقف يتحسر: فعلا لا شباب يدوم.
بدأت خطواته تقترب. دنى منها يرمي قطعه نقود في العلبة التي تجمع فيها الدراهم، كان أول ما خطر بباله أن يسألها أين المال الذي كنت تجنينه من هز الخصر والغناء في ليالي الأثرياء ؟
تجمدت حينها ولم تحرك ساكنا. عاد يسألها في إصرار، أين حنجرتك الذهبية؟. كان عتاباً قصيراً ، مرُّ لكّن لابّد منه.
لا اشك انّك سألت، وهذا ما قيل لك عني. أجابها أنّه رأى ذلك بأم عينه، هنا صار حزنها أعمق. هزت رأسها بالنفي، قد تراها مهنةً غير مشرفة ولا حتّى محترمة لكنّها كانت أحسن من المتاجرة بكرامتي، بشرفي وضميري. أنا لا أصوّغ لذلك، لكن صدقني أنّ هذه النكرة التي أمامك لم تبع شيئا من هذا أو ذاك .
واستمرت تقول: لقد ساقتني الظروف، لم أسلك هذا الطريق لأحقق فيه أحلامي أو أمنياتي، ولكن من أجل رغيفٍ وجبن ألقيتُ بنفسي تحت عجلاتِ الدّهر. أنا اليوم ضعيفة، هزيلة ومريضة. اسأل الناس دينارًا ويمنعونني، زماني كلّه كان صعباً.
حلّ الصمت برهة، وفكر حائرا... كيف؟ أين كان أبّي من كل هذا؟
أبوك كان أسوء اختياراتي، هو سبب كل ما عشته. كنت على صغر عندما زَيّن ليّ الحب ووعدني بالزواج. بمجرد ما أهديته قلبي غدر بي، أخذ ما أخذ وابتعد. كنت أنت ثمرة ذلك الغدر، لم يكن باستطاعتي العودة إلى منزلي أهلي، وقد آلت الأوضاع إلى ما آلت إليه.
حين اكتشف تورّطه معي تزوجني، ووعدني بتوثيق زواجنا، ظنّنت أنّه يفعل هذا كي يحميني، كم كنت ساذجةً بلهاء. لقد كان يتحيّن يوم ولادتك لينتزعك منّي، لقد غدر بي للمرة الثانية.
كنت وحيدةً أواجه الصعاب، وهو من بعيد يراقب معاناتي، كل ما كان يحييّني هو حركتك في أحشائي، كلّما فكّرت أنّه سيكون لي ولدُ يناديني أمّي دمعت عيوني فرحاً. لكّن لم يطل أن تبدلت فرحتي إلى أحزان، لم تستوعب جفوني غزارة دموعي حينما فرقني عنك. حرمني من رائحتك وسماعي بكائك، سلب روحي منّي لحظة أبعدك عنّي.
يومها لم تكن لي القدرة على الدفاع أو المطالبة، قال أنّي لا استحق أن أكون أمّا لطفله ولا يشرفه أن يقال عنّي كذلك، وأنّه سيهبك اسمه ويأويك إليه في مقابل أن أتنازل عنك. قبلت، وفي نفس الوقت اطمأننت لأنّك ستكون مع أبيك وستعيش سالما كيفما كان الحال.
لم يساعدها استعادة الذكريات المريرة، واستثارة جراح الماضي. كان في صوتها نبرة انكسار تنم عن حزن صادق عميق.
قال في إشفاق: أبي قد مات. فلا مجال للملامة و المحاسبة بعد الآن. بالرغم مما كان يبقى أبي الّذي ربّاني وأحسن تربيي، ومقامي ولم يفرق بيني وبين إخوتي يوماّ. علّمني وكوّنني، وجعل مني رجلاً. بغض النظر عن المواقف والآراء التي اختلفنا فيها، لا شيء يزعزع مكانته في قلبي ولكّونه أبي الّذي انتقل إلى رحمه ربّه، وجثمانه وارى الثرى. لا يسعني إلاّ الترحم عليه وطلب المغفرة له.
لا أريد أن أظلمك أو أظلم مشاعرك، يحزنني ما عانيته بسببه، لكن ما أتمناه أن تحاولي الصفح عنه، هكذا ترتاحين ويرتاح هو أيضا. أماه اجعلي قلبك يلين وينسى.
انهارت بالبكاء لمّا سمعته يناديها "أماه"، هذه الكلمة أيقظت فيها مآسي خامدة منذ سنين، لم تستوعب جفونها غزارة دموعها، كم تمنت سماعها إنّها كالبلسم على الجرح.
أوقفها على قدميها يسوقها على مهل، لم تكف دقيقه عن التبرير والتعليل، كانت تشرح له تحاول تبييض صفحتها، تبكي وتشكي في لهجة سريعة لاهثة، تريد أن تقول كل شيء في لحظة.
لم يتمالك نفسه هو الآخر واحتضانها ليهدئ من روعها كان أطول عناق، أطول من سنين الفراق، مشبعاً بالحنين والشوق، لم تتوقف عن تحسس وجهه، وهو لم يتوقف عن تقبيل يديها.
اخبرها انه لا داعي لذكر هفوات الماضي وأخطاءها القديمة، ما مضى قد مضى، وأضاف مبتسما: وداعا للمشاعر محطمة، وداعا للوحدة والهجران، إننا بالفعل نستحق الاعتناء بأنفسنا .وان نعيش معاً كعائلة واحدة ، أن نعيش سعداء.
****
دخل بها فرحا على عائلته يعرفهم عليها، اخبرهم أنها أمه. لم يستطع إخوته إخفاء دهشتهم كانت صدمة كبيرة. كان ترحيبهم بها قصيراً ومحتشماً، تساؤلات كثيرة تدور في خلدهم، لم يلبثوا هنيهة معهما حتى اجتمعوا في المطبخ يتهامسون.
أدرك حينها انه لا مجال لإطالة البقاء، اخبرهم انه سيغادرهم لينتقل للعيش مع أمه. استنكروا الأمر لكنّهم لم يستطيعوا إيقافه، أرادوا إقناعه بالعدول عن رأيه، لكنهم لم يتجرءوا، عجز لسانهم عن النطق بأيّ حرف. لأنّ بقاءه معهم يعني بقاء أمه أيضاً.
حزّ في نفسه أنّ إخوته لم يحسوا بسعادته، لم يقدروها، لم يفرحوا بتجاوزه الصراع الذي كان يعيشه بين عقله وقلبه، بين الرفض والقبول لم يفرحوا لأجل أنّه وأخيراً استطاع الاختيار والخروج بقرار لفض المعاناة النفسية التي طالما تأذى منها.
لمّا همّ بالمغادرة سمع زوجة أبيه تنادي: تغادرنا بهذه البساطة؟!. لطالما ناديتني أمّي، وها أنا ذا أسالك أيّهما أحق بالفضل الأم التي أنجبت وتخلّت أم الأم التي ربّت وشقت؟! .
نظر اليها محرجاً: لم ولن أنسى فضل من ربتني، أبداً لست ناكراً للجميل، وإنّما أنتِ لديك أولادكِ وهي ليس لديها إلاّ أنا . أنا أكون ابنها الوحيد. ليس لها سند ورفقة غيري. هذه أمّي التي أتت بي للوجود. امّي التي لا تتكرر مرتين. ليس لدي رغبة أسمى من رؤية ثغرها ضاحكاً وقلبها فرحاً.
في الوقت الذي أحبّ الانتصار الّذي استطاع فيه مقارعة كبرياء نفسه، صار عليه مقارعة نظرة المجتمع. كان هذا هو التحدي التالي، إذ لا يوجد أصعب من التعامل مع الحقيقة بصرف النظر عن كونها مُرّة، في عالم مبني على النفاق والكذب. ومع ذلك في داخله ي
حدث نفسه قاطعاً عهداً: رغم كل شيء تظّل أمّي.
في رواقٍ طويلٍ مشينا، وعلى هذا السؤال أكثرت الإلحاح، إلى أين نحن ذاهبون ؟.. لكن ولا كلمة يمشي وكأّنّ به صمم، أظهرت عيناه غضباً، لم أتجرأ بعدها على إعادة سؤاله .
ولجنا قاعةً كبيرةً ومكتظةً بها أضواء ملّونة وموسيقى عالية، وفجأة تعالت الهتافات والتصفيقات، واحتشد الجمع وما عدت أرى شيئا. حملني أبي ووضعني فوق الطاولة.
على منصة وقفت امرأةٌ جميلة ترتدي فستانا أحمراً طويلاً، مفتوحاً من الصدر والظهر. أمسكت الميكروفون وبدأت افتتاحية السهرة. جلس الجميع على كراسيهم بينما بقيت وأبي واقفين. أشار بإصبعه نحوها يطلب مني تذكّرها جيّدا. لاحظتنا من بعيد بينما كانت تُلقي كلمتها. توقفت للحظةٍ تحدق فينا، عندها صرخ أبي باسمها. تبدلت ملامح وجهها وتراجعت خطوتين إلى الوراء.
رمت ما في يّدها وبدأت تتقدم اتجاهنا مهرولةً، شدّني أبي من يدي وانطلق بي مسرعاً، كانت تلاحقنا باستماتة ومع آخر خطوة لها تعثرت وسقطت. رأيتها وهي ممدّدة على الأرض منهارةً تبكي كانت نظراتها معلّقة فيّ وكأنّها تحاول الوصول إليّ . سألته من تكون؟، لما عساي أتذكرها؟. أجابني أنّ أمنيتي في رؤية أمّي قد تحققت.
لمته وعاتبته لأنّه لم يخبرني حينها، وددت أن اركض إليها، أعانقها وأقبلها. بكيت بحرقةٍ لأنّه لم تُتح لي الفرصة لفعل ذلك. طلبت منه أن أراها مجدداً لكنّه رفض.
****
في السابق دائماً ما كان يتساءل، ما دامت أمي لما لا تزورني ؟، ألا يهمها رؤيتي أو سماع أخباري ؟، أتراها تتذكرني مثلما أتذكرها ؟، تبكيني مثلما ابكيها؟.
مع تقدم السنين لم تعد هذه التساؤلات تطرح، الآن أصبح يدرك طبيعة ذلك العمل والمكان. لقد كبر ولد الأمس وصار رجلاً، لا يخفى عليه ما معنى نادٍ ليلي، وما صفة صاحبة الفستان الأحمر. كلّما فكّر أنّها تغني وتهز خصرها ويعاكسها العشرات من الرجال ثارت حفيظتَه وحميّتَه وكره ذكرها واحتقرها .
****
القلق والاستياء تسللا أيضا إلى منامه، أكثر ما كان يتعب قلبه المتعب أصلا أن يغفو ليلاً ويرى طيف امرأة، يُخيّل إليه أنّه يسمع أنينها، تجلس هناك في الظلام، يتقدم نحو الصوت الحزين يتحسس المكان، فمرة يظهر أن الصوت صار وراءه، ومرة عن يمينه، وأخرى عن شماله. لم يتحمل ذلك ورفع يديه صاماً أذنيه ليكتشف أنّ الصوت يصدح داخل عقله، أغمض عينيه ونزل على ركبتيه واضعاً رأسه على الأرض. أنار أخوه الغرفة فوجده على تلك الهيئة. أيقظه وهرع إليه بكوب ماء.
باتت هذه الحالة تتكرر من ليلة إلى أخرى، ففي فتره نومه يظّل عقله نشطاً وعيونه تتحرك يميناً وشمالاً ما يعني أنّه يحلم. لقد عاد طيفها للمنام مجددا تركض خلفه حتى ارتبكت خطواتها وسقطت منهارة تبكي بلا صوت، كانت عيناها معلقة به وكأنّها تريد الوصول إليه، وفجأة تغيّر المكان وكأنّه غابة، فاضت الأرض تحتها وصارت تغرق في الوحل المتحرك تنادي وتستغيث.
كان صراخها يشق القلب، حينها توقف عن الهرب وعاد لمساعدتها. كانت هناك شجرة، كسر منها غصناً ثم مدّه لها حتّى تتشبث فيه، وبمجرد ما أمسكته تحول الغصن إلى أفعى، فزع لمّا رآه وافلت ذيلها من بين يديه، وكم كانت الأفعى سامة وحقودة التفت عليها وأغرقتها حتى اختفت بالكامل.
استيقظ من الحلم فزعا يردد: ما بال هذه الأيام ثقيلة عليّ، تُضيّق صدري . بدا شريط الذكريات يجتاح مخيلته، أصابه بإعياء ذهني، تبيّن أنّها نفس الذكرى المحبوسة داخل عقله، أيقظت فيه الشعور بالأسى، فرغم البعد والفراق إلا أن زاوية من قلبه مازالت ترنو وتحن إليها.
في اليوم التالي قصد أحد الشيوخ الصالحين العارفين يطلب تفسيراً. سأله الشيخ: كيف هي علاقتك بأمك؟ .
رد عليه: منقطعة. لكن ما صلتها بمنامي ؟!
: هذا ما يجب أن تبحث عنه.
: لم تزرني يوما في الحقيقة وتزورني في المنام ؟!.
: يا بنيّ، لا ينبغي لأحد إنكار الرحم الذي خرج منه.. قد نصحتك وأجري على الهي.
أدرك من فحوى كلامه انه لن يجد الراحة إلاّ في التصالح مع ماضيه، وتقبل الحقيقة الثابتة التي لا مناص منها لأن إخفاءها في أظلم بقعة من ذاكرته سيبقي عقله ينزف.
****
استأنف السؤال عنها، لكن الكثير رفضوا الحديث. لم يُحبط واجتهد في البحث مراتٍ عديدة، وصار يسأل كل يوم حتّى الأطفال و يغريهم ببعض النقود. وأخيراً حالفه الحظ وأدرك ما يريد.
كان متلهفاً حتى رآها فإنصدم، وشحب وجهه، أحسّ أنّ الأرض تميد به لم يصدّق أنّ جميلة الأمس صارت عجوزاً هرمة، لا أسنان بيضاء لامعة، ولا بشرة ناعمة، ولا قوام رشيق. لقد تبددت الصورة التي خلدتها ذاكرته أيام الطفولة. وقف يتحسر: فعلا لا شباب يدوم.
بدأت خطواته تقترب. دنى منها يرمي قطعه نقود في العلبة التي تجمع فيها الدراهم، كان أول ما خطر بباله أن يسألها أين المال الذي كنت تجنينه من هز الخصر والغناء في ليالي الأثرياء ؟
تجمدت حينها ولم تحرك ساكنا. عاد يسألها في إصرار، أين حنجرتك الذهبية؟. كان عتاباً قصيراً ، مرُّ لكّن لابّد منه.
لا اشك انّك سألت، وهذا ما قيل لك عني. أجابها أنّه رأى ذلك بأم عينه، هنا صار حزنها أعمق. هزت رأسها بالنفي، قد تراها مهنةً غير مشرفة ولا حتّى محترمة لكنّها كانت أحسن من المتاجرة بكرامتي، بشرفي وضميري. أنا لا أصوّغ لذلك، لكن صدقني أنّ هذه النكرة التي أمامك لم تبع شيئا من هذا أو ذاك .
واستمرت تقول: لقد ساقتني الظروف، لم أسلك هذا الطريق لأحقق فيه أحلامي أو أمنياتي، ولكن من أجل رغيفٍ وجبن ألقيتُ بنفسي تحت عجلاتِ الدّهر. أنا اليوم ضعيفة، هزيلة ومريضة. اسأل الناس دينارًا ويمنعونني، زماني كلّه كان صعباً.
حلّ الصمت برهة، وفكر حائرا... كيف؟ أين كان أبّي من كل هذا؟
أبوك كان أسوء اختياراتي، هو سبب كل ما عشته. كنت على صغر عندما زَيّن ليّ الحب ووعدني بالزواج. بمجرد ما أهديته قلبي غدر بي، أخذ ما أخذ وابتعد. كنت أنت ثمرة ذلك الغدر، لم يكن باستطاعتي العودة إلى منزلي أهلي، وقد آلت الأوضاع إلى ما آلت إليه.
حين اكتشف تورّطه معي تزوجني، ووعدني بتوثيق زواجنا، ظنّنت أنّه يفعل هذا كي يحميني، كم كنت ساذجةً بلهاء. لقد كان يتحيّن يوم ولادتك لينتزعك منّي، لقد غدر بي للمرة الثانية.
كنت وحيدةً أواجه الصعاب، وهو من بعيد يراقب معاناتي، كل ما كان يحييّني هو حركتك في أحشائي، كلّما فكّرت أنّه سيكون لي ولدُ يناديني أمّي دمعت عيوني فرحاً. لكّن لم يطل أن تبدلت فرحتي إلى أحزان، لم تستوعب جفوني غزارة دموعي حينما فرقني عنك. حرمني من رائحتك وسماعي بكائك، سلب روحي منّي لحظة أبعدك عنّي.
يومها لم تكن لي القدرة على الدفاع أو المطالبة، قال أنّي لا استحق أن أكون أمّا لطفله ولا يشرفه أن يقال عنّي كذلك، وأنّه سيهبك اسمه ويأويك إليه في مقابل أن أتنازل عنك. قبلت، وفي نفس الوقت اطمأننت لأنّك ستكون مع أبيك وستعيش سالما كيفما كان الحال.
لم يساعدها استعادة الذكريات المريرة، واستثارة جراح الماضي. كان في صوتها نبرة انكسار تنم عن حزن صادق عميق.
قال في إشفاق: أبي قد مات. فلا مجال للملامة و المحاسبة بعد الآن. بالرغم مما كان يبقى أبي الّذي ربّاني وأحسن تربيي، ومقامي ولم يفرق بيني وبين إخوتي يوماّ. علّمني وكوّنني، وجعل مني رجلاً. بغض النظر عن المواقف والآراء التي اختلفنا فيها، لا شيء يزعزع مكانته في قلبي ولكّونه أبي الّذي انتقل إلى رحمه ربّه، وجثمانه وارى الثرى. لا يسعني إلاّ الترحم عليه وطلب المغفرة له.
لا أريد أن أظلمك أو أظلم مشاعرك، يحزنني ما عانيته بسببه، لكن ما أتمناه أن تحاولي الصفح عنه، هكذا ترتاحين ويرتاح هو أيضا. أماه اجعلي قلبك يلين وينسى.
انهارت بالبكاء لمّا سمعته يناديها "أماه"، هذه الكلمة أيقظت فيها مآسي خامدة منذ سنين، لم تستوعب جفونها غزارة دموعها، كم تمنت سماعها إنّها كالبلسم على الجرح.
أوقفها على قدميها يسوقها على مهل، لم تكف دقيقه عن التبرير والتعليل، كانت تشرح له تحاول تبييض صفحتها، تبكي وتشكي في لهجة سريعة لاهثة، تريد أن تقول كل شيء في لحظة.
لم يتمالك نفسه هو الآخر واحتضانها ليهدئ من روعها كان أطول عناق، أطول من سنين الفراق، مشبعاً بالحنين والشوق، لم تتوقف عن تحسس وجهه، وهو لم يتوقف عن تقبيل يديها.
اخبرها انه لا داعي لذكر هفوات الماضي وأخطاءها القديمة، ما مضى قد مضى، وأضاف مبتسما: وداعا للمشاعر محطمة، وداعا للوحدة والهجران، إننا بالفعل نستحق الاعتناء بأنفسنا .وان نعيش معاً كعائلة واحدة ، أن نعيش سعداء.
****
دخل بها فرحا على عائلته يعرفهم عليها، اخبرهم أنها أمه. لم يستطع إخوته إخفاء دهشتهم كانت صدمة كبيرة. كان ترحيبهم بها قصيراً ومحتشماً، تساؤلات كثيرة تدور في خلدهم، لم يلبثوا هنيهة معهما حتى اجتمعوا في المطبخ يتهامسون.
أدرك حينها انه لا مجال لإطالة البقاء، اخبرهم انه سيغادرهم لينتقل للعيش مع أمه. استنكروا الأمر لكنّهم لم يستطيعوا إيقافه، أرادوا إقناعه بالعدول عن رأيه، لكنهم لم يتجرءوا، عجز لسانهم عن النطق بأيّ حرف. لأنّ بقاءه معهم يعني بقاء أمه أيضاً.
حزّ في نفسه أنّ إخوته لم يحسوا بسعادته، لم يقدروها، لم يفرحوا بتجاوزه الصراع الذي كان يعيشه بين عقله وقلبه، بين الرفض والقبول لم يفرحوا لأجل أنّه وأخيراً استطاع الاختيار والخروج بقرار لفض المعاناة النفسية التي طالما تأذى منها.
لمّا همّ بالمغادرة سمع زوجة أبيه تنادي: تغادرنا بهذه البساطة؟!. لطالما ناديتني أمّي، وها أنا ذا أسالك أيّهما أحق بالفضل الأم التي أنجبت وتخلّت أم الأم التي ربّت وشقت؟! .
نظر اليها محرجاً: لم ولن أنسى فضل من ربتني، أبداً لست ناكراً للجميل، وإنّما أنتِ لديك أولادكِ وهي ليس لديها إلاّ أنا . أنا أكون ابنها الوحيد. ليس لها سند ورفقة غيري. هذه أمّي التي أتت بي للوجود. امّي التي لا تتكرر مرتين. ليس لدي رغبة أسمى من رؤية ثغرها ضاحكاً وقلبها فرحاً.
في الوقت الذي أحبّ الانتصار الّذي استطاع فيه مقارعة كبرياء نفسه، صار عليه مقارعة نظرة المجتمع. كان هذا هو التحدي التالي، إذ لا يوجد أصعب من التعامل مع الحقيقة بصرف النظر عن كونها مُرّة، في عالم مبني على النفاق والكذب. ومع ذلك في داخله ي
حدث نفسه قاطعاً عهداً: رغم كل شيء تظّل أمّي.