- المشاهدات: 67
- الردود: 1
بين جدران هذا المبنى عاشت أمي لثلاثين سنة، تأتي في السابعة صباحاً وتعود للمنزل في السادسة مساءً، لم يراها أحد ولا يعشق ضحكتها والحديث معها، حين يبدأ المذياع في العمل، تعرف أن أمي قد وصلت إلى مكانها هنا في مبنى كلية الأداب جامعة المنيا، تعمل والدتي في البوفيه.
لا أحد يشرب القهوة من يديها إلا ويدمنها ،ويعود ليشربها مرة أخرى، يحبُها الطلاب ويجتمعون عندها بين المحاضرات ويتناولون الحلوى و يحتسي كلاً منهم المشروبات الساخنة من يديها، وأحياناً تستمع إلى حكاويهم ويأخذون برأيها ومشورتها، فأمي ذات عقل رزين وتحب القراءة والثقافة، والاستماع إلى الراديو ونشرات الأخبار يومياً، لذلك يثق بها الطلاب ويشعرون بالراحة حينما يأتون عندها في فترات الاستراحة.
وأيضاً يحبها الدكاترة والأساتذة، و يتناولون القهوة الصباحية من يديها،وتشتري أمي الجرائد لتعطيها إليهم حسبما يتفق معها كل دكتور، تحب أمي عملها ولم تمل أو تشتكي منه قط، ففي قرارة نفسها تشعر بالعزة أنها تعمل بعرق جبينها، ولم تمد يدها لأحد، وأنها استعانت بالله، وكانت تسعى للعمل من أجلنا؛ حتى نكون أحسن الناس.
ربتنا أمي على أهمية السعي والعمل فطالما يرزقنا الله بالحلال فلا شئً أخر يهم، افتخر بأمي طول عمري، ولم أرى من الطلاب سوى نظرة التقدير والحب لها.
أمي ذات العيون الزرقاء الساحرة، والملامح الشقراء الجميلة التي ورثتهم عن جدتي التي يعود أصلها إلى سوريا، فمن يراها يحبها ويرى تجاعيد الزمن وقد خطت على وجهها خطوط الشقى، والعمر الذي جرى سريعاً علينا أنا وأخواتي، فقد تعبت أمي كثيراً من أجلنا، فبعد وفاة والدي اضطرت والدتي للعمل وهي مازالت في عمر الشباب، فلم تتوانى لحظة في البحث عن عمل حلال توفر من خلاله لقمة عيش لنا.
لا أعرف كيف أكافئ أمي بعد كل هذا العناء الذي جنته، فعلى الرغم من تلك المشقة، إلا أنني أرى نظرة الرضا في عينيها، فهذه هي صبحة التي تُتداري بضحكتها كل ألم وكل تعب تعيشه، فتستمع لكلامها وتشعر منه أنها لم تعاني من شئ طوال عمرها.
اليوم أتخرج من كلية الأداب وقد وفقني الله أن أكون الأول على دفعتي، وسيتم تعييني معيد بالكلية، وفي هذا اليوم قررت أن أكرس كلمتي إلى أمي، فبدأت حديثي وقولت:" أمي الحبيبة لا أجد من الكلمات وصفاً يعطيكِ حقك عما بذلتيه من أجلنا، فأنتِ الضحكة الرائعة التي ابدأ بها يومي، وأنتي من يتلخص فيها معنى الوفاء والرضا والصبر... أمي الرائعة وددت أن أتفوق واجتهد حتى يأتي هذا اليوم الذي أقف فيه أمام الجميع لأقول لهم وبكل الفخر أنكِ أمي التي تعبت من أجلي ومن أجل أخواتي، واليوم وأنا أتسلم الدرع أشعر بأن الذي يستحقه هو أنتي، فيكفي ما فعلتيه من أجلنا"
نزلت من على المسرح وذهبت إليها ووجدت الدموع تنهمر منها، فأخذت أقبل رأسها، والتصفيق يأتي من كل مكان من حولنا، فنظرت إليها ووجدت ضحكة صبحة ممتزجة بدموع الفرحة، ولذة الانتصار على الحياة، فربت على يديها وشعرت بدقات قلبها الذي اطمئن، وملأه الرضا والسعادة.
بعد سنتين من تخرجي توفيت أمي، وجاءت سيدة أخرى للعمل في البوفيه، ولكن ظلت والدتي مصدر للذكرى الحسنة والطيبة، وكلما احتسيت فنجان قهوة تذكرت أمي وكأن وجهها يأتي على حافة الفنجان فيذكرني بها،فهي الإنسانة الرائعة التي لم يصادفني الحظ أن أرى مثلها في صلابتها وشجاعتها وصبرها وتحملها لكل صعوبات الحياة من أجلنا، فمنها تعلمت الكثير من الحكمة والصبر حتى وصلت إلى ما أنا عليه.
ربتني والدتي على عزة النفس، وأن الله يرسل لنا رزقنا ونعيش به، فيكون بداخلنا إحساس بالرضا والطمأنينة، فلم نشعر يوماً بأن هناك شخص أفضل منا، كانت تشتري لنا الملابس في كل موسم سواء الأعياد، الصيف، الشتاء، المدارس، وغيرهم.
لم تكتفي والدتي بالعمل صباحاً، ولكنها كانت تعمل في حياكة ملابس الجيران في المساء، كانت تتسم بالمعاملة الجيدة لكل زبائنها واستقبالها لهم بالابتسامة، لذا اتصفت بالسيرة الحسنة بين الناس في منطقتنا.
اهتمت أمي بكل تفاصيل حياتنا، كنت حينما يغلبني اليأس والتعب انظر في وجهها الذي شابه تجاعيد الزمان، ثم أنظر إلى حالي مرة أخرى فينزل على قلبي الرضا والأمل، فامرأة مثلها تحملت الكثير وضحت بحياتها من أجل أبناءها، وكانت الفرحة بالنسبة لها تستمدها من النظر في وجوهنا، حينما تشتري لنا كل ما نحتاجه.
أنها الأم والأب وكل شيء بالنسبة لي ولأخواتي، كلماتها لنا كانت تطمئنا فنأخذ منها الأمل، ونسعى جاهدين لكي نسعدها، ونحاول تعويضها عن كل شئ حُرمت منه من أجلنا.
بعد استكمال أوراقي تعينت بالفعل بإحدى أقسام كلية الآداب كمعيد، و اطمح لاستكمال الماجستيروالدكتوراة، وأخي تخرج من كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، أما أختي الصغيرة فمازالت في الإعدادية، ولدي أخ صغير في الابتدائية.
أول شئ تمنته في الماضي، وحققته أخيراً هو عمل عمرة لأمي رحمة الله عليها، فقد توفت وكان حلمها أن تزور النبي محمد وترى الكعبة الشريفة قبل أن تموت، ولم أستطيع تلبية طلبها إلا متأخراً، ولكنِ أشعر أنها تراني، وبالتأكيد ضحكتها على وجهها وتشعر بالرضا الآن، أرى ضحكتك يا صبحة، وأعلم أنكِ الآن سعيدة لأني حققت حلمك الذي أجلتيه طويلاً من أجلنا، لكِ السلام على روحك يا أمي.
عدت مرة أخرى إلى الجامعة وكان الترم قد بدأ بالفعل وأعطيت أكثر من محاضرة للطلاب ثم ذهبت لأداء العمرة، واليوم استأنف عملي من جديد.
بعد انتهاء محاضرة اليوم وجدت طالبة تأتي في الخلفية فتقول:" صباح الخير يا دكتور سعد"
أهلا وسهلاً
الطالبة:"لو سمحت يا دكتور كان فيه جزء في المنهج مش فهماه، ومحتاجة حضرتك تشرحه ليا"
الدكتور:" اه طبعاً تحت أمرك ممكن بكرة بعد المحاضرة تجيلي المكتب وحاشرحه ليكي مرة تانية ".
الطالبة:"أشكرك دكتور سعد على تعبك معانا، الحقيقة حضرتك من الدكاترة المحترمين اللي بنحب نتعامل معاهم، وكمان متعاون جداً، وأنا قريت الكتاب اللي حضرتك كتبته عن والدتك وعلاقتك بيها وتأثرك بوفاتها، أنا عجبني جداً قصتكم، وبجد واضح من سردك أن والدتك برغم بساطتها كانت ست عظيمة جداً ربنا يرحمها يارب "
الدكتور :"أمين يارب أشكرك".
الطالبة ترد في عجالة :"استأذن حضرتك "
رحلت الفتاة عن عيني ولم ترحل ملامحها التي تشبه صبحة، سبحان الله ما هذه العيون الزرقاء، والوجه البرئ ذات الملامح الشقراء، وكأن طيف أمي جاء أمامي الآن، أهكذا الأرواح تتشابه، ربما ولكنِ أشعر بانجذاب غريب ناحية هذه الفتاة، ربما جاءت لتطمئنِ على صبحة، أهي حقيقة أم خيال، ما هذا؟!.... أنني أهذي من المؤكد أنها حقيقة، ولكن أشعر أن هناك شئ سيربطني بهذا الفتاة، وسأعرفه بكل تأكيد..قريباً.
لا أحد يشرب القهوة من يديها إلا ويدمنها ،ويعود ليشربها مرة أخرى، يحبُها الطلاب ويجتمعون عندها بين المحاضرات ويتناولون الحلوى و يحتسي كلاً منهم المشروبات الساخنة من يديها، وأحياناً تستمع إلى حكاويهم ويأخذون برأيها ومشورتها، فأمي ذات عقل رزين وتحب القراءة والثقافة، والاستماع إلى الراديو ونشرات الأخبار يومياً، لذلك يثق بها الطلاب ويشعرون بالراحة حينما يأتون عندها في فترات الاستراحة.
وأيضاً يحبها الدكاترة والأساتذة، و يتناولون القهوة الصباحية من يديها،وتشتري أمي الجرائد لتعطيها إليهم حسبما يتفق معها كل دكتور، تحب أمي عملها ولم تمل أو تشتكي منه قط، ففي قرارة نفسها تشعر بالعزة أنها تعمل بعرق جبينها، ولم تمد يدها لأحد، وأنها استعانت بالله، وكانت تسعى للعمل من أجلنا؛ حتى نكون أحسن الناس.
ربتنا أمي على أهمية السعي والعمل فطالما يرزقنا الله بالحلال فلا شئً أخر يهم، افتخر بأمي طول عمري، ولم أرى من الطلاب سوى نظرة التقدير والحب لها.
أمي ذات العيون الزرقاء الساحرة، والملامح الشقراء الجميلة التي ورثتهم عن جدتي التي يعود أصلها إلى سوريا، فمن يراها يحبها ويرى تجاعيد الزمن وقد خطت على وجهها خطوط الشقى، والعمر الذي جرى سريعاً علينا أنا وأخواتي، فقد تعبت أمي كثيراً من أجلنا، فبعد وفاة والدي اضطرت والدتي للعمل وهي مازالت في عمر الشباب، فلم تتوانى لحظة في البحث عن عمل حلال توفر من خلاله لقمة عيش لنا.
لا أعرف كيف أكافئ أمي بعد كل هذا العناء الذي جنته، فعلى الرغم من تلك المشقة، إلا أنني أرى نظرة الرضا في عينيها، فهذه هي صبحة التي تُتداري بضحكتها كل ألم وكل تعب تعيشه، فتستمع لكلامها وتشعر منه أنها لم تعاني من شئ طوال عمرها.
اليوم أتخرج من كلية الأداب وقد وفقني الله أن أكون الأول على دفعتي، وسيتم تعييني معيد بالكلية، وفي هذا اليوم قررت أن أكرس كلمتي إلى أمي، فبدأت حديثي وقولت:" أمي الحبيبة لا أجد من الكلمات وصفاً يعطيكِ حقك عما بذلتيه من أجلنا، فأنتِ الضحكة الرائعة التي ابدأ بها يومي، وأنتي من يتلخص فيها معنى الوفاء والرضا والصبر... أمي الرائعة وددت أن أتفوق واجتهد حتى يأتي هذا اليوم الذي أقف فيه أمام الجميع لأقول لهم وبكل الفخر أنكِ أمي التي تعبت من أجلي ومن أجل أخواتي، واليوم وأنا أتسلم الدرع أشعر بأن الذي يستحقه هو أنتي، فيكفي ما فعلتيه من أجلنا"
نزلت من على المسرح وذهبت إليها ووجدت الدموع تنهمر منها، فأخذت أقبل رأسها، والتصفيق يأتي من كل مكان من حولنا، فنظرت إليها ووجدت ضحكة صبحة ممتزجة بدموع الفرحة، ولذة الانتصار على الحياة، فربت على يديها وشعرت بدقات قلبها الذي اطمئن، وملأه الرضا والسعادة.
بعد سنتين من تخرجي توفيت أمي، وجاءت سيدة أخرى للعمل في البوفيه، ولكن ظلت والدتي مصدر للذكرى الحسنة والطيبة، وكلما احتسيت فنجان قهوة تذكرت أمي وكأن وجهها يأتي على حافة الفنجان فيذكرني بها،فهي الإنسانة الرائعة التي لم يصادفني الحظ أن أرى مثلها في صلابتها وشجاعتها وصبرها وتحملها لكل صعوبات الحياة من أجلنا، فمنها تعلمت الكثير من الحكمة والصبر حتى وصلت إلى ما أنا عليه.
ربتني والدتي على عزة النفس، وأن الله يرسل لنا رزقنا ونعيش به، فيكون بداخلنا إحساس بالرضا والطمأنينة، فلم نشعر يوماً بأن هناك شخص أفضل منا، كانت تشتري لنا الملابس في كل موسم سواء الأعياد، الصيف، الشتاء، المدارس، وغيرهم.
لم تكتفي والدتي بالعمل صباحاً، ولكنها كانت تعمل في حياكة ملابس الجيران في المساء، كانت تتسم بالمعاملة الجيدة لكل زبائنها واستقبالها لهم بالابتسامة، لذا اتصفت بالسيرة الحسنة بين الناس في منطقتنا.
اهتمت أمي بكل تفاصيل حياتنا، كنت حينما يغلبني اليأس والتعب انظر في وجهها الذي شابه تجاعيد الزمان، ثم أنظر إلى حالي مرة أخرى فينزل على قلبي الرضا والأمل، فامرأة مثلها تحملت الكثير وضحت بحياتها من أجل أبناءها، وكانت الفرحة بالنسبة لها تستمدها من النظر في وجوهنا، حينما تشتري لنا كل ما نحتاجه.
أنها الأم والأب وكل شيء بالنسبة لي ولأخواتي، كلماتها لنا كانت تطمئنا فنأخذ منها الأمل، ونسعى جاهدين لكي نسعدها، ونحاول تعويضها عن كل شئ حُرمت منه من أجلنا.
بعد استكمال أوراقي تعينت بالفعل بإحدى أقسام كلية الآداب كمعيد، و اطمح لاستكمال الماجستيروالدكتوراة، وأخي تخرج من كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، أما أختي الصغيرة فمازالت في الإعدادية، ولدي أخ صغير في الابتدائية.
أول شئ تمنته في الماضي، وحققته أخيراً هو عمل عمرة لأمي رحمة الله عليها، فقد توفت وكان حلمها أن تزور النبي محمد وترى الكعبة الشريفة قبل أن تموت، ولم أستطيع تلبية طلبها إلا متأخراً، ولكنِ أشعر أنها تراني، وبالتأكيد ضحكتها على وجهها وتشعر بالرضا الآن، أرى ضحكتك يا صبحة، وأعلم أنكِ الآن سعيدة لأني حققت حلمك الذي أجلتيه طويلاً من أجلنا، لكِ السلام على روحك يا أمي.
عدت مرة أخرى إلى الجامعة وكان الترم قد بدأ بالفعل وأعطيت أكثر من محاضرة للطلاب ثم ذهبت لأداء العمرة، واليوم استأنف عملي من جديد.
بعد انتهاء محاضرة اليوم وجدت طالبة تأتي في الخلفية فتقول:" صباح الخير يا دكتور سعد"
أهلا وسهلاً
الطالبة:"لو سمحت يا دكتور كان فيه جزء في المنهج مش فهماه، ومحتاجة حضرتك تشرحه ليا"
الدكتور:" اه طبعاً تحت أمرك ممكن بكرة بعد المحاضرة تجيلي المكتب وحاشرحه ليكي مرة تانية ".
الطالبة:"أشكرك دكتور سعد على تعبك معانا، الحقيقة حضرتك من الدكاترة المحترمين اللي بنحب نتعامل معاهم، وكمان متعاون جداً، وأنا قريت الكتاب اللي حضرتك كتبته عن والدتك وعلاقتك بيها وتأثرك بوفاتها، أنا عجبني جداً قصتكم، وبجد واضح من سردك أن والدتك برغم بساطتها كانت ست عظيمة جداً ربنا يرحمها يارب "
الدكتور :"أمين يارب أشكرك".
الطالبة ترد في عجالة :"استأذن حضرتك "
رحلت الفتاة عن عيني ولم ترحل ملامحها التي تشبه صبحة، سبحان الله ما هذه العيون الزرقاء، والوجه البرئ ذات الملامح الشقراء، وكأن طيف أمي جاء أمامي الآن، أهكذا الأرواح تتشابه، ربما ولكنِ أشعر بانجذاب غريب ناحية هذه الفتاة، ربما جاءت لتطمئنِ على صبحة، أهي حقيقة أم خيال، ما هذا؟!.... أنني أهذي من المؤكد أنها حقيقة، ولكن أشعر أن هناك شئ سيربطني بهذا الفتاة، وسأعرفه بكل تأكيد..قريباً.