- المشاهدات: 75
- الردود: 1
عنوان القصة: أريد أسنانا يا صغيرتي.
كان (حمدون) رجلا فقيرا، كلّ أمله في الحياة هو إشباع بطون أبنائه التسعة، لم يحلم يوما بشيء لنفسه، كان راضيًا بالحرمان مقابل أن يوفّر كلّ يوم قوتا يسدّ به رمق أسرته الناشئة.
(مريم) ابنته الوسطى، كانت تتشبّث بمعطفه البنّي الذي يلامس ركبتَيْه الهزيلتَيْن؛ لتستعين به على خطواتها الأولى في الحياة، كبرت وآن الأوان لتدخل المدرسة؛ فجلست على ركبتيْه وهي تطلب محفظة وكتبا وكراسات وأقلاما..
كانت تتحدّث معه وهي تلعب برقعة على معطفه الذي شابته صفرة باهتة، همَّت أن تسأله عن عدم تغييره لهذا المعطف الرّثّ، الذي ألفته على كتفيه كلَّ شتاء، لكنّها نسيت ذلك حين أخبرها أنّ ما تطلبه موجود تحت صندوق الملابس، فقد اشتراه صباحا وخبّأه حتّى لا يعبث به أخوها الصغير.
ليلتها لم يتناول الأب العشاء، ولم يشاهد التّلفاز كعادته، بل لم يُعِر أيّ اهتمام لأخبار المساء التي لم يكن يُفلت منها كلمة واحدة، ظلّ شاردا يرمق الباب من حين لآخر، كأنّه ينتظر أحدهم، ولم يلبث طويلا حتى طُرق الباب، ودخل جاره بعد أن استأذن، فسلّم ثمّ أخذ التّلفاز الذي دفع مقابله عشية أمس.
حزن الجميع وخيّم الصّمت على المكان، إلا (مريم) لم تحزن؛ فأدواتها المدرسيّة أهمّ من التلفاز، ولكنها حاولت تلطيف الجو وتخفيف الحزن؛ فأقبلت تَعِد أمّها وأباها بأن تشتريَ لهما تلفازا كبيرا، ومنزلا واسعا فيه غرف كثيرة ومطبخا مجهّزا حالما تكبر وتعمل. لم تترك كلماتها أثرا، فلم تستطع إيقاف الدموع الحارّة التي ترقرقت على وجنتيْ والدتها وهي تطالع الفراغ الذي تركه التّلفاز في الغرفة، أما (حمدون) فقد وضع رأسه الأشعث بين يديه متجنّبا النظر حوله، وإخوتها منهم من غطّ في سبات عميق لم يكن يناله من قبل؛ بسبب صوت التلفاز المزعج، ومنهم من جَهُم بعد أن تعب من طرح الأسئلة العقيمة عن مآل التّلفاز..
لاحظت (مريم) أنّ أباها منذ زمن لم يعد قادرا على مضغ الخبز إلا إذا أغرقه في القدح وأرواه مرقا، وأحيانا كان يكتفي باحتساء المرق الحارّ. اقتربت منه وهو يشرب دواءً لا تعلم فائدته، سألته عمّا يؤلمه، فابتسم ابتسامته المألوفة التي تبعث الطمأنينة في نفس ابنته، وأمسك يدَيْها ثم عانقها.
عندما كتبتْ أوّلَ قصّة هنّأتها المعلمة، وأرسلت قصّتها لمسابقة بين المدارس، ليبشّرها المدير بعد فترة وجيزة بالفوز. فأخذت شهادتها والظرف المغلق معها، وركضت إلى منزلها لترى السعادة تنبع من جوارح والديْها؛ حمل (حمدون) ابنته على ظهره وأخذ يدور بها في باحة الدار وهو يضحك ويدعو لها. كان مسرورا بحصولها على الجائزة الأولى، أمسك الشهادة وتمعّن فيها كثيرا كأنه يُحسن القراءة، لم ينتبه إلى أنها مقلوبة، ولم يهتمّ للظرف وما فيه من مال. أما أمّها فقد أطلقت العنان لزغرودة ملأت أجواء المنزل. يومها اشترى والدها اللحم، وغنّت والدتها لحنها المفضّل وهي تطهو الطّعام، وبعد العشاء سهر الجميع وكلهم آذان صاغية إلى قصّة كتبتها أديبة المنزل التي لم تناهز العشر سنوات.
ضحكة الوالد النّادرة التي أضاءت البيت يومها، أسعدت (مريم)، فتمنّت أن تكون سعادته دائمة، ووعدت والدها بأن تشتريَ له بالظرف المقبل معطفا جديدا وحذاءً، ابتسم (حمدون) حين سمع وعدها وقال بصوت طفوليّ خجول: "أريد أسنانا يا صغيرتي".
لم تحصل (مريم) بعد ذلك على جائزة أخرى؛ ربّما لأنّها لم تكتب إلّا من أجل الجائزة، وتحديدا من أجل الظّرف وما فيه، لم تتمكّن من إنجاز وعدها وتحقيق أمل والدها؛ فكانت تُؤجّل ذلك في كل مرة تظهر فيها نتائج المسابقة، وتُمنّي نفسها بأنّها ستحقق أمله قريبا. كانت دائما تسترق النظر لأبيها أثناء العَشَاء، فينتابها الحزن إذا رأته يلوك قطعة الخبز طويلا حين يجفّ الصحن، ويقلّبها بين بين فكّيه يمينًا ويسارًا، ليبتلعها بصعوبة، تلاحظه وهو يخرج فجرا ليعود منهكا والمساء قد أسدل ظلاله.. كانت صحّته تتهالك من حين لآخر من أجل أسرته.
ترعرعت الفتاة والعوَز أخمد كثيرا من أحلامها قبل أن تشبّ، لكنها لم تتهاون عن تحقيق ما تستطيع؛ فقد تفوّقت في الثانوية بجدارة، ودخلت الجامعة، وتحصّلت على التخصص الذي تريد، وستكون بعد سنوات طبيبة أسنان.
باتت تُقيم في الإقامة الجامعيّة، وتتحيّن العودة إلى منزلها حالما تحصل على المنحة، لن تشتريَ شيئا لها، كانت تكتفي بوجبة واحدة في المطعم الجامعيّ، لم تتذمّر من الجوع؛ فقد تعوّدت عليه ورافقته منذ سنين، لن ينتظرَ والدُها تخرُّجَها للحصول على أسنان، ستعود إليه حين تقبض مِنَح سنة كاملة فتجمعها الواحدة تلو الأخرى، ستعود لتمسك يده التي فنِيَت في سبيل تحقيق لقمة العيش له ولأسرته وتشقّقت من أشغال البناء بسبب الجبس والإسمنت، سترافقه إلى طبيب الأسنان، وحين يصير له فم جديد ستطهو له طعاما كان يراه في مطعم الحيّ، ويشيح بوجهه خشية أن يشتهيه وهو المعدَم الذي يعيل أطفالا لا تشبعهم الأماني.
ستعود إليه طفلة لم تكبر، طفلة سمعته يوما يُسِرّ إليها بحلمه البسيط، كما يُسرّ طفل بريء لوالده بطلباته المعجِزة على بساطتها.. كانت ستقتني له معطفا وحذاء وأسنانا.. كانت ستشتري له تلفازا من الطراز الحديث، تلفازا لا يسكت عن بثّ الأخبار، ليتمكن من مشاهدتها في أي وقت وبكل الزوايا وبجميع الألوان..
اليوم وهي تقضي بعض حاجاته في المدينة رأت كهلا ترافقه فتاة يبدو أنها ابنته، استوقفتها العلاقة المتينة التي بينهما؛ من خلال تشابك يديهما وابتساماتهما المتبادلة وتَناجيهما.. فاسترجعت ذكريات تخيّلها لضحكة والدها وهي تطلب منه أن يرافقها إلى طبيب الأسنان، ضحكة كالأطفال لم تتغيّر رغم المرض، وانتعش خيالها لتعيد ما فكّرت فيه؛ حين كانا سيعودان معا إلى المنزل، وأبوها يُخفي فرحه بالأسنان التي سيأكل بها خبزا متماسكا، كان خيال (مريم) شاسعا بقدر طموحها، لكن ذكرياتها كانت أحيانا تُدمِعُ عينيها وتعكِّرُ خاطرَها وتقهر فؤادها الحنون.
عاش (حمدون) مضحّيّا رغم فقره المدقع، واستطاع أن يربيَ أبناءه على القناعة والسماحة والصدق، لكنه مات قبل أن تتمكن (مريم) من تحقيق وعدها، فقد حمل معه حلمه بمضغ الخبز دون ألم.
عملت طبيبة الأسنان على تحقيق أحلام كل من كان بحاجة لها دون تردّد، كانت يدها مباركة؛ تعالج مرضاها بأخف درجات الألم، وتهبُ السكينة لكل سِنٍّ طبّبتها، وأصبحت لها عيادة أسنان هي الأيسر في المدينة؛ حتى صار الجميع يعرفونها باسم عيادة المساكين. حقّقت (مريم) كل طلبات عائلتها وأكثر، إلّا أنّها لم تستطع نسيان صوت والدها الخجول، فكل ليلة كانت تضع فيها رأسها على الوسادة تسمع صوته: "أريد أسنانا يا صغيرتي".
كان (حمدون) رجلا فقيرا، كلّ أمله في الحياة هو إشباع بطون أبنائه التسعة، لم يحلم يوما بشيء لنفسه، كان راضيًا بالحرمان مقابل أن يوفّر كلّ يوم قوتا يسدّ به رمق أسرته الناشئة.
(مريم) ابنته الوسطى، كانت تتشبّث بمعطفه البنّي الذي يلامس ركبتَيْه الهزيلتَيْن؛ لتستعين به على خطواتها الأولى في الحياة، كبرت وآن الأوان لتدخل المدرسة؛ فجلست على ركبتيْه وهي تطلب محفظة وكتبا وكراسات وأقلاما..
كانت تتحدّث معه وهي تلعب برقعة على معطفه الذي شابته صفرة باهتة، همَّت أن تسأله عن عدم تغييره لهذا المعطف الرّثّ، الذي ألفته على كتفيه كلَّ شتاء، لكنّها نسيت ذلك حين أخبرها أنّ ما تطلبه موجود تحت صندوق الملابس، فقد اشتراه صباحا وخبّأه حتّى لا يعبث به أخوها الصغير.
ليلتها لم يتناول الأب العشاء، ولم يشاهد التّلفاز كعادته، بل لم يُعِر أيّ اهتمام لأخبار المساء التي لم يكن يُفلت منها كلمة واحدة، ظلّ شاردا يرمق الباب من حين لآخر، كأنّه ينتظر أحدهم، ولم يلبث طويلا حتى طُرق الباب، ودخل جاره بعد أن استأذن، فسلّم ثمّ أخذ التّلفاز الذي دفع مقابله عشية أمس.
حزن الجميع وخيّم الصّمت على المكان، إلا (مريم) لم تحزن؛ فأدواتها المدرسيّة أهمّ من التلفاز، ولكنها حاولت تلطيف الجو وتخفيف الحزن؛ فأقبلت تَعِد أمّها وأباها بأن تشتريَ لهما تلفازا كبيرا، ومنزلا واسعا فيه غرف كثيرة ومطبخا مجهّزا حالما تكبر وتعمل. لم تترك كلماتها أثرا، فلم تستطع إيقاف الدموع الحارّة التي ترقرقت على وجنتيْ والدتها وهي تطالع الفراغ الذي تركه التّلفاز في الغرفة، أما (حمدون) فقد وضع رأسه الأشعث بين يديه متجنّبا النظر حوله، وإخوتها منهم من غطّ في سبات عميق لم يكن يناله من قبل؛ بسبب صوت التلفاز المزعج، ومنهم من جَهُم بعد أن تعب من طرح الأسئلة العقيمة عن مآل التّلفاز..
لاحظت (مريم) أنّ أباها منذ زمن لم يعد قادرا على مضغ الخبز إلا إذا أغرقه في القدح وأرواه مرقا، وأحيانا كان يكتفي باحتساء المرق الحارّ. اقتربت منه وهو يشرب دواءً لا تعلم فائدته، سألته عمّا يؤلمه، فابتسم ابتسامته المألوفة التي تبعث الطمأنينة في نفس ابنته، وأمسك يدَيْها ثم عانقها.
عندما كتبتْ أوّلَ قصّة هنّأتها المعلمة، وأرسلت قصّتها لمسابقة بين المدارس، ليبشّرها المدير بعد فترة وجيزة بالفوز. فأخذت شهادتها والظرف المغلق معها، وركضت إلى منزلها لترى السعادة تنبع من جوارح والديْها؛ حمل (حمدون) ابنته على ظهره وأخذ يدور بها في باحة الدار وهو يضحك ويدعو لها. كان مسرورا بحصولها على الجائزة الأولى، أمسك الشهادة وتمعّن فيها كثيرا كأنه يُحسن القراءة، لم ينتبه إلى أنها مقلوبة، ولم يهتمّ للظرف وما فيه من مال. أما أمّها فقد أطلقت العنان لزغرودة ملأت أجواء المنزل. يومها اشترى والدها اللحم، وغنّت والدتها لحنها المفضّل وهي تطهو الطّعام، وبعد العشاء سهر الجميع وكلهم آذان صاغية إلى قصّة كتبتها أديبة المنزل التي لم تناهز العشر سنوات.
ضحكة الوالد النّادرة التي أضاءت البيت يومها، أسعدت (مريم)، فتمنّت أن تكون سعادته دائمة، ووعدت والدها بأن تشتريَ له بالظرف المقبل معطفا جديدا وحذاءً، ابتسم (حمدون) حين سمع وعدها وقال بصوت طفوليّ خجول: "أريد أسنانا يا صغيرتي".
لم تحصل (مريم) بعد ذلك على جائزة أخرى؛ ربّما لأنّها لم تكتب إلّا من أجل الجائزة، وتحديدا من أجل الظّرف وما فيه، لم تتمكّن من إنجاز وعدها وتحقيق أمل والدها؛ فكانت تُؤجّل ذلك في كل مرة تظهر فيها نتائج المسابقة، وتُمنّي نفسها بأنّها ستحقق أمله قريبا. كانت دائما تسترق النظر لأبيها أثناء العَشَاء، فينتابها الحزن إذا رأته يلوك قطعة الخبز طويلا حين يجفّ الصحن، ويقلّبها بين بين فكّيه يمينًا ويسارًا، ليبتلعها بصعوبة، تلاحظه وهو يخرج فجرا ليعود منهكا والمساء قد أسدل ظلاله.. كانت صحّته تتهالك من حين لآخر من أجل أسرته.
ترعرعت الفتاة والعوَز أخمد كثيرا من أحلامها قبل أن تشبّ، لكنها لم تتهاون عن تحقيق ما تستطيع؛ فقد تفوّقت في الثانوية بجدارة، ودخلت الجامعة، وتحصّلت على التخصص الذي تريد، وستكون بعد سنوات طبيبة أسنان.
باتت تُقيم في الإقامة الجامعيّة، وتتحيّن العودة إلى منزلها حالما تحصل على المنحة، لن تشتريَ شيئا لها، كانت تكتفي بوجبة واحدة في المطعم الجامعيّ، لم تتذمّر من الجوع؛ فقد تعوّدت عليه ورافقته منذ سنين، لن ينتظرَ والدُها تخرُّجَها للحصول على أسنان، ستعود إليه حين تقبض مِنَح سنة كاملة فتجمعها الواحدة تلو الأخرى، ستعود لتمسك يده التي فنِيَت في سبيل تحقيق لقمة العيش له ولأسرته وتشقّقت من أشغال البناء بسبب الجبس والإسمنت، سترافقه إلى طبيب الأسنان، وحين يصير له فم جديد ستطهو له طعاما كان يراه في مطعم الحيّ، ويشيح بوجهه خشية أن يشتهيه وهو المعدَم الذي يعيل أطفالا لا تشبعهم الأماني.
ستعود إليه طفلة لم تكبر، طفلة سمعته يوما يُسِرّ إليها بحلمه البسيط، كما يُسرّ طفل بريء لوالده بطلباته المعجِزة على بساطتها.. كانت ستقتني له معطفا وحذاء وأسنانا.. كانت ستشتري له تلفازا من الطراز الحديث، تلفازا لا يسكت عن بثّ الأخبار، ليتمكن من مشاهدتها في أي وقت وبكل الزوايا وبجميع الألوان..
اليوم وهي تقضي بعض حاجاته في المدينة رأت كهلا ترافقه فتاة يبدو أنها ابنته، استوقفتها العلاقة المتينة التي بينهما؛ من خلال تشابك يديهما وابتساماتهما المتبادلة وتَناجيهما.. فاسترجعت ذكريات تخيّلها لضحكة والدها وهي تطلب منه أن يرافقها إلى طبيب الأسنان، ضحكة كالأطفال لم تتغيّر رغم المرض، وانتعش خيالها لتعيد ما فكّرت فيه؛ حين كانا سيعودان معا إلى المنزل، وأبوها يُخفي فرحه بالأسنان التي سيأكل بها خبزا متماسكا، كان خيال (مريم) شاسعا بقدر طموحها، لكن ذكرياتها كانت أحيانا تُدمِعُ عينيها وتعكِّرُ خاطرَها وتقهر فؤادها الحنون.
عاش (حمدون) مضحّيّا رغم فقره المدقع، واستطاع أن يربيَ أبناءه على القناعة والسماحة والصدق، لكنه مات قبل أن تتمكن (مريم) من تحقيق وعدها، فقد حمل معه حلمه بمضغ الخبز دون ألم.
عملت طبيبة الأسنان على تحقيق أحلام كل من كان بحاجة لها دون تردّد، كانت يدها مباركة؛ تعالج مرضاها بأخف درجات الألم، وتهبُ السكينة لكل سِنٍّ طبّبتها، وأصبحت لها عيادة أسنان هي الأيسر في المدينة؛ حتى صار الجميع يعرفونها باسم عيادة المساكين. حقّقت (مريم) كل طلبات عائلتها وأكثر، إلّا أنّها لم تستطع نسيان صوت والدها الخجول، فكل ليلة كانت تضع فيها رأسها على الوسادة تسمع صوته: "أريد أسنانا يا صغيرتي".