- المشاهدات: 93
- الردود: 2
رسائلٌ ثلاث
كان يشعر بالذهول وهو يتلقى التعازي من معارفه أبناء جاليته في أرض المهجر، بعد أن تلقى اتصالاً على (الواتساب) من أخيه يخبره بوفاة والده. الفاتحة.. الفاتحة.. البركة فيكم.. جبر الله الكسر.. أحسن الله العزاء.. وهو يرد: الله يبارك فيك.. الله يبارك فيكم.. تفضل.. تفضلوا. اكتظت صالة شقته بالمعزين، وكانوا يسألون عن سبب الوفاة.. هل كان مريض؟.. هل كان يشكو من شيء؟ خجل من نفسه لأنه لم يتواصل مع أسرته منذ زمن طويل واضطهد نفسه وهو يكذب: لا.. لا شيء غير عادي، لا شيء خطير.. إنه اليوم قال أحدهم، لقد تَمَّ.. نعم، كُلّنا لها.. متى تسافر؟ رد: غداً صباحا إنشاء الله.
عندما وصل إلى الديار، استقبله الأهل والجيران بالتعازي، وبكى وهو يتبادل العناق مع إخوانه وأخواته، ثم دخل على والدته في حبسها.. ألقى بنفسه في حضنها فوجده دافئاً كما كان دائماً، فبكى بين ذراعيها كطفل صغير.
بعد انقضاء أيام العزاء، جلس مع أسرته جلسة وداع بعد أن ساوى معهم أمر التركة. لم يترك والدهم شيئاً ذا بال سوى الدار التي يسكنونها، فاتفق معهم على تركها على حالها، وكان لوالدهم غرفة صغيرة يختلي فيها، لم يجد بها سوى مصلاة من الجلد (فروة)، مسبحة، إبريق وضوء من الفخار (ركوة)، مصحف، وبعض الكتب القديمة. أغلقها كما وجدها وسلّم المفتاح لوالدته. وأناب أخاه الأصغر منه- اذ انه هو الاخ الأكبر بينهم- لينوب عنه في التصرف في شؤون الأسرة والدار. وصَّته والدته من بين دموعها وهى تودعه بأن لا يقطع التواصل معهم، وأن لا يطيل الغياب عنهم. وهكذا غادر الديار عائداً إلى مهجره.
عندما عاد إلى العمل، أخبروه أن العديد من العملاء كانوا قد حضروا اليه في غيابه، وأنهم أرسلوا له رسائل على بريده الإلكتروني فليراجعه. وأثناء تفقده له.. عثر على بعض الرسائل من والده.. أحس بالحسرة إذ أنه لم يتفقد بريده منذ زمن طويل اعتماداً على (الواتساب). ثلاث رسائل كُنَّ.. فتح الرسالة الاُولى، كانت مبعوثة في اليوم السادس عشر من شهر اُكتوبر أي قبل وفاته بنحو العشرة أيام:
تحية وسلام.. أرجو أن تجد رسالتي هذه وأنت في غاية العافية.. كما نحن بخير والحمد لله.. يا بُنى.. إني موصيك بوصايا إن هي وجدت طريقاً إلى قلبك جلبت لك خيراً كثيراً في الحال والمآل وهى خيرٌ مما يجمعون.
يا بُني.. دع ما لا يَهُمّك إلى ما يَهُمّك. ولا ترهق نفسك كثيراً في شؤون الدنيا.. لقد خرجنا إلى هذه الدنيا وخرجت معنا غريزة ظلت تنمو وتزدهر فينا عبر السنين، ألا وهى غريزة البقاء.. وينمو معها هموم ثلاث: هَم الفرار من الموت وهَم تحصيل المتعة وهَم تجنب الألم. فكل تعب الخلائق وشقائهم بسببها.
تعلم يا بُنى.. أنه لا مفرَّ من الموت إذا دقت ساعته، فهو سبيل الأولين والآخرين. فإن هروبك الحثيث منه لا يورثك إلا الرَّهق وخزى الفرار.
واعلم.. أنك لن تنال شيئاً ليس لك مما ترجو لتحقيق المتعة آنفة الذكر.. فإنك لن تحصل إلا على الذي هو لك مما ترى أنه يجنبك الألم. فكل الذي لك أو عليك مقرر سلفاً قبل خروجك من العدم.. فليس لك من الأمر شيء. فلا تهدر وقتَك وجُهدَك في محاولات يائسة من أجل تحصيل حاصل. بل ادخر جهدك لما يهمك، كما جاء في أول الوصية، وليكن ما يهمك هو حياتك الحقيقية- حياة القلب. أعانك الله يا بني ووفقك للخير دوماً.
ذَهُل من الرسالة إذ لم يكن يتوقع مثلها أبداً لا سيما من أبيه، قليل الكلام ضنينه. وأراد أن يفتح الرسالة الثانية غير أنه قوطع بالعمل، فقرر أن يقرأ باقي الرسائل لاحقاً وقتما يتوفر الوقت لذلك. غير أنه لم يستطع الرجوع إليها حتى انتهى الدوام، فقفل راجعاً مسرعاً إلى شقته حيث يسكن. وأخرج كمبيوتره المحمول على الفور. شغله وراح يبحث بشغف عن تلك الرسائل. فتح الرسالة الثانية.. وجدها بتاريخ الحادي والعشرين من نفس الشهر- اُكتوبر- أي بعد الرسالة الاُولى بخمسة أيام وجاء فيها:
بعد التحية والسلام.. أرجو أن تكون قد تأملت رسالتي السابقة جيداً. فإن كنت قد فعلت فتأمل هذه أيضاً.. إياك يا بُني والفضول، فإن الفضول كله مذموم لضرره البالغ. والفضول هو الزيادة في الحد المطلوب لكل أمر من الاُمور، كفضول المطعم والمشرب، فإنها تسبب الأمراض وتميت القلب، وكذلك فضول النوم والكلام والضحك وغيره، على أن من أخطر الفضول، فضول العلم والمال.. ففضول الأموال تسبب الهم والشقاء لأجل حفظها والاستكثار منها مخافة فقدانها، فلو كان لك وادياً منها لابتغيت الوادي الذي يليه، وذلك غاية العوز ودليل واضح على الحُمق.. اذ ما الشئ الذي لا يمكن الحصول عليه إلا بِوادِيين من الأموال ولا يمكن الحصول عليه بوادٍ واحدٍ في هذه الدنيا؟. وفضول العلم.. التي لا تُتّخَذ إلاّ للتجمل في المجالس رياءً فلا تملأ القلب إلا زهواً وكبراً.. وتدخلك فيما لا يعنيك فتسمع ما لا يرضيك، ويتشتت فكرك فتكون عرضة للأوهام. ألا تدري أنك كلما ازددت علماً ازددت جهلاً؟ فتضيع وقتك وجهدك فيما يضرّك ولا ينفعك. فاعلم يا بُنى باركك الله، أن خير العلم ما نفع وخير المال ما دفع- أي ما دفع شرور الفاقة. فخُذ من كل شيء قدر ما تحتاجه لحياتك ومماتك ودع ما سواه. يا بُني.. بُورِكت ووفقت والسلام.
وعندما فتح الرسالة الثالثة، وكانت بتاريخ السادس والعشرين من الشهر نفسه أي بعد الرسالة الثانية بخمسة أيام وقبل وفاته بيوم واحد.. وَجَد فيها:
سلام الله عليك يا بني.. وبعد.. قال بعض الشعراء ما معناه، أن الناس تسود الناس بالسخاء والإقدام. وقد صدق.. ولكن إن أردت بعض التدقيق، فإني أرُدّ الإقدام إلى صفة السخاء، فإنك إن عددت بذل المال والطعام والعلم من السخاءٌ، فإن الإقدام هو سخاء بالنفس. وهذا غاية السخاء. وقد وصف أحد صُلاح أمتنا الاُوَل وكُبراءها، أن أربعون صديقاً- أي من درجة الصديقية.. لم يبلغوا تلك الدرجة العظيمة إلا بسخاء النفوس وسلامة القلوب والنصح للأمة، أو كما قال. وكلها كما أرى مرتبطة بالسخاء.. فالسخاء لا يأتي إلا من قلب سليم. والنصح هو سخاء بالمعرفة وسخاء بالخير للغير. وكل ذلك من محاسن الأخلاق، فحسن الخلق أيضاً من السخاء، فعليك بالسخاء يا بُني.. عليك بالسخاء... لا أدري فلعلي لا أدرك العام المقبل كي أطلب منك الحضور في إجازتك السنوية لأراك، فإننا ميِّتون لا محالة ولكن لكل أجل كتاب.. فكن رجلاً وخذ ما آتيتك بقوة، ووصي بها بنيك من بعدك... سلمك الله من كل بلاء.. يا بُني.
شَخَصَ ببصره إلى سقف الحجرة. أحاسيس ومشاعر كثيرة ملأت كيانه جعلته ذاهلاً ذهولاً لازمه زمناً.. في الليل والنهار، في المنزل وفي العمل، وحده ومع الناس، راجع تاريخه منذ الطفولة.. تذكر أول يوم لدخوله المدرسة عندما هيأته والدته للذهاب إليها، بعد أن حممته وجففته جيداً بالبشكير (المنشفة) المعلق على باب الحمام من الداخل، وأعطته فرشاة الأسنان الصغيرة التي جلبها له والده معه من السوق، وذلك بعد أن أخبرته أنها بحثت عن فرش أسنان الأطفال في دكاكين الحى فلم تجدها. أعطته إياها بعد أن وضعت عليها قليلٌ من معجون الاسنان ووقفت معه ترشده كي يحسن السِّواك حتى لا يأكل السُّوس أسنانه كما كانت تقول له دائماً. وتذكّر أنه لم يكن يعلم حينها ما هو السُّوس الذي سوف يأكل أسنانه إن هو لم يحسن السواك. ألبسته ملابس جديدة سمع أنها تسمى الزّى المدرسي، وبعد ذلك أعطته الشاي والبسكويت وحثته على الإسراع حتى (يلحق الجرس). وبعد ذلك أخذه والده إلى المدرسة حيث سلمه إلى ناظر المدرسة الذي أخافه من الوهلة الاُولى.. فقد بدا له أنه شرير يهابه الجميع يزجرهم فيطيعونه صغاراً وكباراً. تحدث أباه معه قليلاً ثم أعطاه نقوداً لم يدري حينها لماذا- وبالطبع علم فيما بعد أنها الرسوم الدراسية. كتب على دفتره شيئاً، ثم سحب دُرجاً من الطاولة الكبيرة أمامه ووضع النقود فيه ثم دفعه إلى مكانه. والتفت ناظراً إليه بابتسامة شعر بأنها غريبة ربما يكون قد اصطنعها بعد أن رأى سيما الخوف في تلك العيون الواسعة البريئة. مالَ إلى الأمام مقربا وجْهَهُ من وجْهِهِ الصغير مصدرا صوتاً جاء مرعباً بالنسبة إليه (اممم). شعر بقشعريرة قوية تسري في أوصاله. كل شيء كان غريباً بالنسبة إليه في ذلك اليوم.. سُوسٌ يأكل الأسنان، زى مدرسي، جرس يجب أن يُلحق به، عدد ضخم من الأطفال لم يَرى مثله إلا اليوم، رجلٌ أصلع غريب الأطوار يبتسم ابتسامة غريبة في وجهه اسمه الناظر. أتاه صوت اُمه الحنون في خياله وتراءى له حضنها الدافئ فنزلت من عينه دمعة ساخنة. تذكر أنه عندما خرج والده مغادراً المدرسة، كاد أن يجري خلفه، كاد أن يصرخ، وكاد أن يتبول في ملابسه. تذكر كم كان والداه محبين له عطوفين عليه. غير أنه شعر أن أمّه خانته بولادتها لذلك الطفل الذي أخذ منه اهتمام والديه. كانت خيانة منها كما فهمها بعقله الصغير آنذاك. ومما زاد الأمر سوءًا، طلبهم له بأن يرعاه وأن يحبه حتى. ولكنه اعتاد على الأمر بعد أن ولدت بعده عدة ولادات بنين وبنات، وخصوصاً عندما لاحظ أن أحداً من والديه لم يهمله. ولكن وكما يحدث دوماً من الإخوة الكبار تجاه الأصغر منهم سناً، كان هنالك شيء في نفسه منهم.. ولَّد بعض الأنانية فيه أو قُلْ اهتماماً بنفسه زائداً قليلاً. تذكر فرحتهم يوم تخرجه من الجامعة، وأيضاً عند صرفه لأول أجر له من العمل وكيف أن والداه رفضا أخذ البعض منه قائلين له بأن يشتري لنفسه ملابس جديدة تناسب عمله. غير أنه بعد ذلك كثيراً ما كان يمد لهما يده بالعطاء ليعينهما في تربية بقية إخوته، فلاقى قبولاً ورضاً إضافيا منهما، فالوالدان يرضيان دوماً عن الابن على أي حال كما دَرَج وإن قصَّر.
تذكر أنه عندما حصل على عقد العمل في مهجره هذا، إنتظم سنيناً في إرسال مبالغ جيدة لوالديه، غير أنه رويداً رويداً قلل العطاء حتى استمرأ الإمساك. وبمرور الأيام قلت زياراته لهم في الإجازات، حتى انقطعت تماماً بمرور السنين. تذكر كل ذلك وغيره من التفاصيل التي أكبرت أكثر قدر والديه عنده. وهكذا ظل خيال والده يطوف به بلا انقطاع مذكراً إياه شمائله.. قيامه بأمرهم على أكمل وجه، فرحه بهم، حزنه وفرحه لأجلهم وفضْله عليه هو بالذات.. وبالتأكيد أسفه عليه بعد أن جافاهم مفضلاً مال الغربة الفاني على حبهم الباقي له.. عندها ابتدأ في ازدراء نفسه.
كل يوم كان يمرُ عليه كالدهر. تزداد فيه ذكرياته: أمه، إخوانه وأخواته الذين فُجعوا فيه، أما المرحوم أبيه.. فقد كان يبكي كلما ذكر جفوته وإهماله له بكاءً مريراً في سره.. وإلى الآن لم يستوعب كلمة المرحوم هذه التي صارت تسبق اسم أبيه كلما ذكر. هو رجل من الصالحين غير شك.. قالها في نفسه عندما راجع سيرته.. ورعه، تعففه الشديد، استقامته المشهودة حتى أنها كانت سبب فصله من العمل عندما رفض الفساد في زمن كاد فيه الفساد أن يُعترف به كفضيلة، زمان استشكل فيه الخطأ والصواب. وهو متأكد أن المرحوم والده كان قابضٌ على جمر الصواب حتى لقى ربه. كما تذكر أيضاً حرصه على زيارات أهل الورع والصلاح. وصورة غرفته تلك الخالية من متاع الحياة الدنيا، تؤكد له دوماً انصرافه عن زوائدها- أي الدنيا- واكتفاءه بضروراتها.
وهكذا كثر تفكره في تلك الاُمور التي كانت رسائل والده بعد أن قرأها مراراً وتكراراً باب ولوجه اليها. فمال قلبه إلى العوالم الروحية وصار يحب قراءة كل ما كتب عنها. وبدأ يجافي الدنيا وأهلها حتى صعبت عليه مجالستهم والتعامل معهم بل النظر إليهم حتى. فشعر بوحشة تجاههم لم يشعر بها من قبل رفضت أن تولى عنه.. وفكر كثيراً: ما العمل ما العمل؟
ذات يوم طرأ على باله سؤال.. بعد أن استرجع كثيراً حالة غرفة والده تلك حتى صار يشعر أن لها عمق آخر غير مادي، عُمق روحي ربما.. كيف لا وأنت حين تلج اليها تشعر كأنك انتقلت إلى بُعد آخر في الزمان.. شعر بأنه صار محتاجا حقيقة أن يولد من جديد، الولادة الثانية.. فالولادة الأولى تلك التي كانت بخروجه من بطن أمه، أي من حيِّز العدم المادي إلى حيِّز الوجود المادي. أما الولادة الثانية فتكون بالخروج من حيِّز العدم الروحي إلى حيِّز الوجود الروحي.. كان السؤال هو: هل يكمُن الحل في غرفة والده؟ اممم.. لِمَ لا.. فقد كان المرحوم أبي نموذجاً للاتزان النفسي رغم كل معاناته في المعايش ومدافعة شرور أهل الدنيا. لم يكن كثير الشكوى من ما يجد ويعاني. وهكذا ازداد شروده وصمته حتى أن رب عمله استاء منه وأعلمه بذلك مراراً.. مرَّ زمن ليس بالقصير ليتمكن من اتخاذ قرارٍ بالبدء من جديد.. نعم لا بُد من تصحيح المسار والبدء من جديد. بعد قراره هذا بأيام حزم أمتعته وركب الطائرة متوجهاً صوب الديار.
كان يشعر بالذهول وهو يتلقى التعازي من معارفه أبناء جاليته في أرض المهجر، بعد أن تلقى اتصالاً على (الواتساب) من أخيه يخبره بوفاة والده. الفاتحة.. الفاتحة.. البركة فيكم.. جبر الله الكسر.. أحسن الله العزاء.. وهو يرد: الله يبارك فيك.. الله يبارك فيكم.. تفضل.. تفضلوا. اكتظت صالة شقته بالمعزين، وكانوا يسألون عن سبب الوفاة.. هل كان مريض؟.. هل كان يشكو من شيء؟ خجل من نفسه لأنه لم يتواصل مع أسرته منذ زمن طويل واضطهد نفسه وهو يكذب: لا.. لا شيء غير عادي، لا شيء خطير.. إنه اليوم قال أحدهم، لقد تَمَّ.. نعم، كُلّنا لها.. متى تسافر؟ رد: غداً صباحا إنشاء الله.
عندما وصل إلى الديار، استقبله الأهل والجيران بالتعازي، وبكى وهو يتبادل العناق مع إخوانه وأخواته، ثم دخل على والدته في حبسها.. ألقى بنفسه في حضنها فوجده دافئاً كما كان دائماً، فبكى بين ذراعيها كطفل صغير.
بعد انقضاء أيام العزاء، جلس مع أسرته جلسة وداع بعد أن ساوى معهم أمر التركة. لم يترك والدهم شيئاً ذا بال سوى الدار التي يسكنونها، فاتفق معهم على تركها على حالها، وكان لوالدهم غرفة صغيرة يختلي فيها، لم يجد بها سوى مصلاة من الجلد (فروة)، مسبحة، إبريق وضوء من الفخار (ركوة)، مصحف، وبعض الكتب القديمة. أغلقها كما وجدها وسلّم المفتاح لوالدته. وأناب أخاه الأصغر منه- اذ انه هو الاخ الأكبر بينهم- لينوب عنه في التصرف في شؤون الأسرة والدار. وصَّته والدته من بين دموعها وهى تودعه بأن لا يقطع التواصل معهم، وأن لا يطيل الغياب عنهم. وهكذا غادر الديار عائداً إلى مهجره.
عندما عاد إلى العمل، أخبروه أن العديد من العملاء كانوا قد حضروا اليه في غيابه، وأنهم أرسلوا له رسائل على بريده الإلكتروني فليراجعه. وأثناء تفقده له.. عثر على بعض الرسائل من والده.. أحس بالحسرة إذ أنه لم يتفقد بريده منذ زمن طويل اعتماداً على (الواتساب). ثلاث رسائل كُنَّ.. فتح الرسالة الاُولى، كانت مبعوثة في اليوم السادس عشر من شهر اُكتوبر أي قبل وفاته بنحو العشرة أيام:
تحية وسلام.. أرجو أن تجد رسالتي هذه وأنت في غاية العافية.. كما نحن بخير والحمد لله.. يا بُنى.. إني موصيك بوصايا إن هي وجدت طريقاً إلى قلبك جلبت لك خيراً كثيراً في الحال والمآل وهى خيرٌ مما يجمعون.
يا بُني.. دع ما لا يَهُمّك إلى ما يَهُمّك. ولا ترهق نفسك كثيراً في شؤون الدنيا.. لقد خرجنا إلى هذه الدنيا وخرجت معنا غريزة ظلت تنمو وتزدهر فينا عبر السنين، ألا وهى غريزة البقاء.. وينمو معها هموم ثلاث: هَم الفرار من الموت وهَم تحصيل المتعة وهَم تجنب الألم. فكل تعب الخلائق وشقائهم بسببها.
تعلم يا بُنى.. أنه لا مفرَّ من الموت إذا دقت ساعته، فهو سبيل الأولين والآخرين. فإن هروبك الحثيث منه لا يورثك إلا الرَّهق وخزى الفرار.
واعلم.. أنك لن تنال شيئاً ليس لك مما ترجو لتحقيق المتعة آنفة الذكر.. فإنك لن تحصل إلا على الذي هو لك مما ترى أنه يجنبك الألم. فكل الذي لك أو عليك مقرر سلفاً قبل خروجك من العدم.. فليس لك من الأمر شيء. فلا تهدر وقتَك وجُهدَك في محاولات يائسة من أجل تحصيل حاصل. بل ادخر جهدك لما يهمك، كما جاء في أول الوصية، وليكن ما يهمك هو حياتك الحقيقية- حياة القلب. أعانك الله يا بني ووفقك للخير دوماً.
ذَهُل من الرسالة إذ لم يكن يتوقع مثلها أبداً لا سيما من أبيه، قليل الكلام ضنينه. وأراد أن يفتح الرسالة الثانية غير أنه قوطع بالعمل، فقرر أن يقرأ باقي الرسائل لاحقاً وقتما يتوفر الوقت لذلك. غير أنه لم يستطع الرجوع إليها حتى انتهى الدوام، فقفل راجعاً مسرعاً إلى شقته حيث يسكن. وأخرج كمبيوتره المحمول على الفور. شغله وراح يبحث بشغف عن تلك الرسائل. فتح الرسالة الثانية.. وجدها بتاريخ الحادي والعشرين من نفس الشهر- اُكتوبر- أي بعد الرسالة الاُولى بخمسة أيام وجاء فيها:
بعد التحية والسلام.. أرجو أن تكون قد تأملت رسالتي السابقة جيداً. فإن كنت قد فعلت فتأمل هذه أيضاً.. إياك يا بُني والفضول، فإن الفضول كله مذموم لضرره البالغ. والفضول هو الزيادة في الحد المطلوب لكل أمر من الاُمور، كفضول المطعم والمشرب، فإنها تسبب الأمراض وتميت القلب، وكذلك فضول النوم والكلام والضحك وغيره، على أن من أخطر الفضول، فضول العلم والمال.. ففضول الأموال تسبب الهم والشقاء لأجل حفظها والاستكثار منها مخافة فقدانها، فلو كان لك وادياً منها لابتغيت الوادي الذي يليه، وذلك غاية العوز ودليل واضح على الحُمق.. اذ ما الشئ الذي لا يمكن الحصول عليه إلا بِوادِيين من الأموال ولا يمكن الحصول عليه بوادٍ واحدٍ في هذه الدنيا؟. وفضول العلم.. التي لا تُتّخَذ إلاّ للتجمل في المجالس رياءً فلا تملأ القلب إلا زهواً وكبراً.. وتدخلك فيما لا يعنيك فتسمع ما لا يرضيك، ويتشتت فكرك فتكون عرضة للأوهام. ألا تدري أنك كلما ازددت علماً ازددت جهلاً؟ فتضيع وقتك وجهدك فيما يضرّك ولا ينفعك. فاعلم يا بُنى باركك الله، أن خير العلم ما نفع وخير المال ما دفع- أي ما دفع شرور الفاقة. فخُذ من كل شيء قدر ما تحتاجه لحياتك ومماتك ودع ما سواه. يا بُني.. بُورِكت ووفقت والسلام.
وعندما فتح الرسالة الثالثة، وكانت بتاريخ السادس والعشرين من الشهر نفسه أي بعد الرسالة الثانية بخمسة أيام وقبل وفاته بيوم واحد.. وَجَد فيها:
سلام الله عليك يا بني.. وبعد.. قال بعض الشعراء ما معناه، أن الناس تسود الناس بالسخاء والإقدام. وقد صدق.. ولكن إن أردت بعض التدقيق، فإني أرُدّ الإقدام إلى صفة السخاء، فإنك إن عددت بذل المال والطعام والعلم من السخاءٌ، فإن الإقدام هو سخاء بالنفس. وهذا غاية السخاء. وقد وصف أحد صُلاح أمتنا الاُوَل وكُبراءها، أن أربعون صديقاً- أي من درجة الصديقية.. لم يبلغوا تلك الدرجة العظيمة إلا بسخاء النفوس وسلامة القلوب والنصح للأمة، أو كما قال. وكلها كما أرى مرتبطة بالسخاء.. فالسخاء لا يأتي إلا من قلب سليم. والنصح هو سخاء بالمعرفة وسخاء بالخير للغير. وكل ذلك من محاسن الأخلاق، فحسن الخلق أيضاً من السخاء، فعليك بالسخاء يا بُني.. عليك بالسخاء... لا أدري فلعلي لا أدرك العام المقبل كي أطلب منك الحضور في إجازتك السنوية لأراك، فإننا ميِّتون لا محالة ولكن لكل أجل كتاب.. فكن رجلاً وخذ ما آتيتك بقوة، ووصي بها بنيك من بعدك... سلمك الله من كل بلاء.. يا بُني.
شَخَصَ ببصره إلى سقف الحجرة. أحاسيس ومشاعر كثيرة ملأت كيانه جعلته ذاهلاً ذهولاً لازمه زمناً.. في الليل والنهار، في المنزل وفي العمل، وحده ومع الناس، راجع تاريخه منذ الطفولة.. تذكر أول يوم لدخوله المدرسة عندما هيأته والدته للذهاب إليها، بعد أن حممته وجففته جيداً بالبشكير (المنشفة) المعلق على باب الحمام من الداخل، وأعطته فرشاة الأسنان الصغيرة التي جلبها له والده معه من السوق، وذلك بعد أن أخبرته أنها بحثت عن فرش أسنان الأطفال في دكاكين الحى فلم تجدها. أعطته إياها بعد أن وضعت عليها قليلٌ من معجون الاسنان ووقفت معه ترشده كي يحسن السِّواك حتى لا يأكل السُّوس أسنانه كما كانت تقول له دائماً. وتذكّر أنه لم يكن يعلم حينها ما هو السُّوس الذي سوف يأكل أسنانه إن هو لم يحسن السواك. ألبسته ملابس جديدة سمع أنها تسمى الزّى المدرسي، وبعد ذلك أعطته الشاي والبسكويت وحثته على الإسراع حتى (يلحق الجرس). وبعد ذلك أخذه والده إلى المدرسة حيث سلمه إلى ناظر المدرسة الذي أخافه من الوهلة الاُولى.. فقد بدا له أنه شرير يهابه الجميع يزجرهم فيطيعونه صغاراً وكباراً. تحدث أباه معه قليلاً ثم أعطاه نقوداً لم يدري حينها لماذا- وبالطبع علم فيما بعد أنها الرسوم الدراسية. كتب على دفتره شيئاً، ثم سحب دُرجاً من الطاولة الكبيرة أمامه ووضع النقود فيه ثم دفعه إلى مكانه. والتفت ناظراً إليه بابتسامة شعر بأنها غريبة ربما يكون قد اصطنعها بعد أن رأى سيما الخوف في تلك العيون الواسعة البريئة. مالَ إلى الأمام مقربا وجْهَهُ من وجْهِهِ الصغير مصدرا صوتاً جاء مرعباً بالنسبة إليه (اممم). شعر بقشعريرة قوية تسري في أوصاله. كل شيء كان غريباً بالنسبة إليه في ذلك اليوم.. سُوسٌ يأكل الأسنان، زى مدرسي، جرس يجب أن يُلحق به، عدد ضخم من الأطفال لم يَرى مثله إلا اليوم، رجلٌ أصلع غريب الأطوار يبتسم ابتسامة غريبة في وجهه اسمه الناظر. أتاه صوت اُمه الحنون في خياله وتراءى له حضنها الدافئ فنزلت من عينه دمعة ساخنة. تذكر أنه عندما خرج والده مغادراً المدرسة، كاد أن يجري خلفه، كاد أن يصرخ، وكاد أن يتبول في ملابسه. تذكر كم كان والداه محبين له عطوفين عليه. غير أنه شعر أن أمّه خانته بولادتها لذلك الطفل الذي أخذ منه اهتمام والديه. كانت خيانة منها كما فهمها بعقله الصغير آنذاك. ومما زاد الأمر سوءًا، طلبهم له بأن يرعاه وأن يحبه حتى. ولكنه اعتاد على الأمر بعد أن ولدت بعده عدة ولادات بنين وبنات، وخصوصاً عندما لاحظ أن أحداً من والديه لم يهمله. ولكن وكما يحدث دوماً من الإخوة الكبار تجاه الأصغر منهم سناً، كان هنالك شيء في نفسه منهم.. ولَّد بعض الأنانية فيه أو قُلْ اهتماماً بنفسه زائداً قليلاً. تذكر فرحتهم يوم تخرجه من الجامعة، وأيضاً عند صرفه لأول أجر له من العمل وكيف أن والداه رفضا أخذ البعض منه قائلين له بأن يشتري لنفسه ملابس جديدة تناسب عمله. غير أنه بعد ذلك كثيراً ما كان يمد لهما يده بالعطاء ليعينهما في تربية بقية إخوته، فلاقى قبولاً ورضاً إضافيا منهما، فالوالدان يرضيان دوماً عن الابن على أي حال كما دَرَج وإن قصَّر.
تذكر أنه عندما حصل على عقد العمل في مهجره هذا، إنتظم سنيناً في إرسال مبالغ جيدة لوالديه، غير أنه رويداً رويداً قلل العطاء حتى استمرأ الإمساك. وبمرور الأيام قلت زياراته لهم في الإجازات، حتى انقطعت تماماً بمرور السنين. تذكر كل ذلك وغيره من التفاصيل التي أكبرت أكثر قدر والديه عنده. وهكذا ظل خيال والده يطوف به بلا انقطاع مذكراً إياه شمائله.. قيامه بأمرهم على أكمل وجه، فرحه بهم، حزنه وفرحه لأجلهم وفضْله عليه هو بالذات.. وبالتأكيد أسفه عليه بعد أن جافاهم مفضلاً مال الغربة الفاني على حبهم الباقي له.. عندها ابتدأ في ازدراء نفسه.
كل يوم كان يمرُ عليه كالدهر. تزداد فيه ذكرياته: أمه، إخوانه وأخواته الذين فُجعوا فيه، أما المرحوم أبيه.. فقد كان يبكي كلما ذكر جفوته وإهماله له بكاءً مريراً في سره.. وإلى الآن لم يستوعب كلمة المرحوم هذه التي صارت تسبق اسم أبيه كلما ذكر. هو رجل من الصالحين غير شك.. قالها في نفسه عندما راجع سيرته.. ورعه، تعففه الشديد، استقامته المشهودة حتى أنها كانت سبب فصله من العمل عندما رفض الفساد في زمن كاد فيه الفساد أن يُعترف به كفضيلة، زمان استشكل فيه الخطأ والصواب. وهو متأكد أن المرحوم والده كان قابضٌ على جمر الصواب حتى لقى ربه. كما تذكر أيضاً حرصه على زيارات أهل الورع والصلاح. وصورة غرفته تلك الخالية من متاع الحياة الدنيا، تؤكد له دوماً انصرافه عن زوائدها- أي الدنيا- واكتفاءه بضروراتها.
وهكذا كثر تفكره في تلك الاُمور التي كانت رسائل والده بعد أن قرأها مراراً وتكراراً باب ولوجه اليها. فمال قلبه إلى العوالم الروحية وصار يحب قراءة كل ما كتب عنها. وبدأ يجافي الدنيا وأهلها حتى صعبت عليه مجالستهم والتعامل معهم بل النظر إليهم حتى. فشعر بوحشة تجاههم لم يشعر بها من قبل رفضت أن تولى عنه.. وفكر كثيراً: ما العمل ما العمل؟
ذات يوم طرأ على باله سؤال.. بعد أن استرجع كثيراً حالة غرفة والده تلك حتى صار يشعر أن لها عمق آخر غير مادي، عُمق روحي ربما.. كيف لا وأنت حين تلج اليها تشعر كأنك انتقلت إلى بُعد آخر في الزمان.. شعر بأنه صار محتاجا حقيقة أن يولد من جديد، الولادة الثانية.. فالولادة الأولى تلك التي كانت بخروجه من بطن أمه، أي من حيِّز العدم المادي إلى حيِّز الوجود المادي. أما الولادة الثانية فتكون بالخروج من حيِّز العدم الروحي إلى حيِّز الوجود الروحي.. كان السؤال هو: هل يكمُن الحل في غرفة والده؟ اممم.. لِمَ لا.. فقد كان المرحوم أبي نموذجاً للاتزان النفسي رغم كل معاناته في المعايش ومدافعة شرور أهل الدنيا. لم يكن كثير الشكوى من ما يجد ويعاني. وهكذا ازداد شروده وصمته حتى أن رب عمله استاء منه وأعلمه بذلك مراراً.. مرَّ زمن ليس بالقصير ليتمكن من اتخاذ قرارٍ بالبدء من جديد.. نعم لا بُد من تصحيح المسار والبدء من جديد. بعد قراره هذا بأيام حزم أمتعته وركب الطائرة متوجهاً صوب الديار.
تمت