- المشاهدات: 111
- الردود: 4
موعد مع الوجع
عندما يبوح القلم بما يختلج الفؤاد، وتبكي الرّوح أسفا على باب الذّكريات، وقتها تُدرك الورقة الحمقاء أنّها ارتكبت جرما في حقّ البوح، لأنّها لم تقل الحقيقة، ولم تُعبّر ولو بنسبة قليلة عمّا يسكن الخاطر، ويدمي القلب، عندما يطغى الحبر الأسود على ذلك اللّوح يسار غرفتي المتمرّدة على نمطيّة التّرتيب والنّظام، ذلك اللّوح المجاور لمكتبي الذّي تبعثرت فوقه أوراق وأغلفة رسائل لم ترسل بعد، رسائل أبت هي الأخرى أن تبوح...بالألم الذّي يعتصر فؤادي وأنا أمسك بجريدة غبيّة، جريدة عنوانها الخذلان، كم آهات أرادت التّعبير وكم صرخات أرادت أن تتعالى لكنّ حاجز الصّمت اللّعين جمّد الكلمات في شفتي، وأحرق الأمنيات بداخلي، آآآآه تبّا لك يا زمن، تبّا لزمن رسم فيه القمر بريشة حاقدة، وقتلت فيه فلذات أكبادنا وصوّرت لتعرض على شاشة زرقاء الواجهة قاتمة الصّدر، آآآه يا زمن مات فيه الموت وانتحرت الحياة على مشرعة الأحزان.
حملت الأحزان في حقيبة السّفر سوداء اللّون، وغادرتُ البيت فجرا إلى مدينة النّخيل مدينة 'ألف قبّة وقبّة' حيثُ أكمل دراساتي العليا في قسم اللغة والأدب العربي بجامعة الشّهيد 'حمة لخضر' بالوادي-الجزائر، مدينة يقصدها أغلب سكّان بلدتي –للأسف-لمعالجة أنفسهم وأقاربهم من مرض السرطان الخبيث، مدينة تحملُ أعباء ثقالا، وتعتصر ألما عندما يبكي المصاب ويئن، عندما تعود الشّابة العشرينية -التي اغتصب المرض فرحتها- بالكفن الأبيض بدلا من فستان الزّفاف في صندوق الموت لأهلها، عندما تموت براءات كثيرات أمام غطرسته، وتنحني الرقاب خاضعة، وتكتفي الأهداب بمعانقة الدمع لتخفّف القليل من الوجع.
ها أنا الآن عائدة بعد قضاء يوم شاق في البحث عن مراجع تلزمني للتقدّم في أبحاثي، وبعد لقاء علمي جمعني بمشرفي العزيز، بعدما عانقَت أهدابي كثبان الرمال الذّهبية، وروحي صفاء تلك السّماء الرّحبة الشّاسعة، وقوافل الجِمال التي تعترض طريقنا وتمرّ بهدوء ووقار، واخترقت فوضى الأسواق الشّعبية مسمعي، لفت انتباهي مشهد يوجع الفؤاد ويدمي القلب، ويُنطق القلم ليحكي عن خبايا الصّدور وخفاياها.
كانت جالسة في المقعد الخلفي من الحافلة الّتي استقلّيتها لأعود إلى مدينتي، وإلى جانبها تقعد امرأة رسم الزّمن مواعيدا للألم على وجنتيها، عجوز تقارب السّبعين من عمرها أو الثّمانين، تتسلّل شعيرات حمراء اللّون وتنسدل على جبينها -الذّي تمنّيت أن أرسم عليه قبلة حبّ ومودّة- حيث غطّت الحنّاء شيبات الدّهر التي تلعب بأنوثتنا ونحن في العشرينات، لترقص بثوبها الأبيض على رؤوسنا عندما تستفحل وتفعل الحياة فعلتها بنا، عندما نبكي يضحك الشّيب ويقهقه، وعندما نتألّم يتأمّل ويفرح، لأنّه سيكون تاجنا ورفيقنا الذّي سنحاول الخلاص منه بمختلف الطّرق والعلاجات إلّا أنّه عنيد سينازع وسيعود كلّ مرّة، ربّما هو أوفى من بعض البشر..؛لأنّه ما إن يتعلّق بنا سيبقى....ولن يغادرنا كما يفعلون.
فاطمة كان اسمها، كانت عينيها تنطق ألما وتروي حكايا المتعبين، حتّى أنّ قطرة الدم الموجودة على غطاء رأسها تقول الكثير، وهو ما دفع بي لسؤال من تجلس بجانبها: ما بها؟ كانت ابنتها التي رفضت الزّواج من أجل العناية بها، أخبرتني أن والدتها مصابة بعدو البشر، وقاطع الأرحام وممزّق الأبدان...نعم إنّه السّرطان، ينخر جسدها الضّعيف ويحارب تلك النّظرة التي ما غادرت ذاكرتي لهذه اللّحظة وأنا أخلّدها على الورق، قالت: كنّا بمدينة الوادي، حيث تمّ التّكفّل بأمّي وكانت هذه آخر محاولة في جلسات العلاج بالكيماوي، فوضعها غدا خطيرا جدّا، وربّما هي آخر أيّامها معنا... لكنّها لا تعلم أنّها مصابة بالسّرطان، ولا تتذكّر من المستشفى إلّا الألم، ألم اعتقدته لمرض خفيف الطلّة، سريع المغادرة، ولكن... الحياة قاسية.
لا يمكنني أن أصف الوجع الذي شعرت به وقتها، لا تترجمه الكلمات، ولن تزنه القوافي، ربّما نزول تلك الدّمعة وقتها، كان أصدق شعور للتّعبير.. لم أنطق ببنت شفة، ونسيت مغازلة رمال وادي سوف بكلماتي كعادتي عندما أكون في طريق العودة إلى مدينتي، اكتفيت بالالتفات خلفي والنّظر إلى وجه 'خالتي فاطمة' أو أمّي...أقسم أنّي اعتبرتها أمّي في تلك اللّحظات...تمنّيت مواساتها، والارتماء في حضنها الدّافئ علّني أخفّف الألم الذّي تشعر به ولا تفهم سببه.. ساعاتٌ ثِقال مرّت كالدهر، وأنا أقلّب صفحات الزّمن اللّعين على وجنتيها، قرأت رواية البؤس في نظراتها، ورتّلت آيات الصّبر بشفتيها...
ما زالت ساعة تفصلنا عن الوصول إلى مدينتنا...فنعانق الفوسفاط.... علّتنا الأولى، ونشتمّ عطر الكاهنة فنشفى، كان أغلب الرّكاب منشغلين بهواتفهم، والنّظر إلى ذلك الطّريق الممتدّ الذي لا يكاد ينتهي، لنستفيق من غفوتنا تلك على استغاثة امرأة: هاتوا عليا.. قلبي سيتوقف، سأموت..
كانت صرخات خالتي فاطمة تتعالى ...وتتعالى وهي لا تعلم أنّ وجعها السّرطان .. جسدها لم يتحمّل جرعة الكيماوي المحرقة، فتألّم قلبها ونادت عليا... سألها مسؤول التّذاكر :
-ما بك خالتي؟ و من هو علي؟
نظرت إليه مطوّلا وأجابته: علي، ولدي نادِه الآن أرجوك.
حاول تهدئها والتّخفيف عنها وادّعى بأنّه اتّصل بعلي وهو قادم ليأخذها إلى البيت...لم ينجح الرّجل في إقناعها.. زادت صرخاتها بازدياد ألمها ...حاولت ابنتها تهدئتها لكنّها خرجت عن السّيطرة فصفعتها قائلة كلّكم كاذبون... نظرت إليها ولم أجد إلى يدي تقدّم لها حبّة شوكولا عساها تنقذ الموقف وتجعلها تصدّق أنّ عليا قادم وأنّ وصولنا غدا قريبا.. لم تصفعن كما توقّعت وتمنّيت لو كان ذلك ينقص من وجعها... ولم تنعتن بالكاذبة أخذت حبّة الشوكولا من عندي أكلتها بسرعة، وعاودت طلبها: هاتوا لي عليا...
طال بنا الطّريق لكنّنا وصلنا أخيرا وجاءها علي ضمّته بقوّة إلى صدرها... تاركة سؤالا عميقا في وجداني: ماذا فعل عليا حتّى أحبَته هكذا ماذا فعل حتّى اعتبرته شفاء ألمها....أين أنت يا علي؟ هاتوا لي عليا حتّى يخبرني عن حال أمّي.
عندما يبوح القلم بما يختلج الفؤاد، وتبكي الرّوح أسفا على باب الذّكريات، وقتها تُدرك الورقة الحمقاء أنّها ارتكبت جرما في حقّ البوح، لأنّها لم تقل الحقيقة، ولم تُعبّر ولو بنسبة قليلة عمّا يسكن الخاطر، ويدمي القلب، عندما يطغى الحبر الأسود على ذلك اللّوح يسار غرفتي المتمرّدة على نمطيّة التّرتيب والنّظام، ذلك اللّوح المجاور لمكتبي الذّي تبعثرت فوقه أوراق وأغلفة رسائل لم ترسل بعد، رسائل أبت هي الأخرى أن تبوح...بالألم الذّي يعتصر فؤادي وأنا أمسك بجريدة غبيّة، جريدة عنوانها الخذلان، كم آهات أرادت التّعبير وكم صرخات أرادت أن تتعالى لكنّ حاجز الصّمت اللّعين جمّد الكلمات في شفتي، وأحرق الأمنيات بداخلي، آآآآه تبّا لك يا زمن، تبّا لزمن رسم فيه القمر بريشة حاقدة، وقتلت فيه فلذات أكبادنا وصوّرت لتعرض على شاشة زرقاء الواجهة قاتمة الصّدر، آآآه يا زمن مات فيه الموت وانتحرت الحياة على مشرعة الأحزان.
حملت الأحزان في حقيبة السّفر سوداء اللّون، وغادرتُ البيت فجرا إلى مدينة النّخيل مدينة 'ألف قبّة وقبّة' حيثُ أكمل دراساتي العليا في قسم اللغة والأدب العربي بجامعة الشّهيد 'حمة لخضر' بالوادي-الجزائر، مدينة يقصدها أغلب سكّان بلدتي –للأسف-لمعالجة أنفسهم وأقاربهم من مرض السرطان الخبيث، مدينة تحملُ أعباء ثقالا، وتعتصر ألما عندما يبكي المصاب ويئن، عندما تعود الشّابة العشرينية -التي اغتصب المرض فرحتها- بالكفن الأبيض بدلا من فستان الزّفاف في صندوق الموت لأهلها، عندما تموت براءات كثيرات أمام غطرسته، وتنحني الرقاب خاضعة، وتكتفي الأهداب بمعانقة الدمع لتخفّف القليل من الوجع.
ها أنا الآن عائدة بعد قضاء يوم شاق في البحث عن مراجع تلزمني للتقدّم في أبحاثي، وبعد لقاء علمي جمعني بمشرفي العزيز، بعدما عانقَت أهدابي كثبان الرمال الذّهبية، وروحي صفاء تلك السّماء الرّحبة الشّاسعة، وقوافل الجِمال التي تعترض طريقنا وتمرّ بهدوء ووقار، واخترقت فوضى الأسواق الشّعبية مسمعي، لفت انتباهي مشهد يوجع الفؤاد ويدمي القلب، ويُنطق القلم ليحكي عن خبايا الصّدور وخفاياها.
كانت جالسة في المقعد الخلفي من الحافلة الّتي استقلّيتها لأعود إلى مدينتي، وإلى جانبها تقعد امرأة رسم الزّمن مواعيدا للألم على وجنتيها، عجوز تقارب السّبعين من عمرها أو الثّمانين، تتسلّل شعيرات حمراء اللّون وتنسدل على جبينها -الذّي تمنّيت أن أرسم عليه قبلة حبّ ومودّة- حيث غطّت الحنّاء شيبات الدّهر التي تلعب بأنوثتنا ونحن في العشرينات، لترقص بثوبها الأبيض على رؤوسنا عندما تستفحل وتفعل الحياة فعلتها بنا، عندما نبكي يضحك الشّيب ويقهقه، وعندما نتألّم يتأمّل ويفرح، لأنّه سيكون تاجنا ورفيقنا الذّي سنحاول الخلاص منه بمختلف الطّرق والعلاجات إلّا أنّه عنيد سينازع وسيعود كلّ مرّة، ربّما هو أوفى من بعض البشر..؛لأنّه ما إن يتعلّق بنا سيبقى....ولن يغادرنا كما يفعلون.
فاطمة كان اسمها، كانت عينيها تنطق ألما وتروي حكايا المتعبين، حتّى أنّ قطرة الدم الموجودة على غطاء رأسها تقول الكثير، وهو ما دفع بي لسؤال من تجلس بجانبها: ما بها؟ كانت ابنتها التي رفضت الزّواج من أجل العناية بها، أخبرتني أن والدتها مصابة بعدو البشر، وقاطع الأرحام وممزّق الأبدان...نعم إنّه السّرطان، ينخر جسدها الضّعيف ويحارب تلك النّظرة التي ما غادرت ذاكرتي لهذه اللّحظة وأنا أخلّدها على الورق، قالت: كنّا بمدينة الوادي، حيث تمّ التّكفّل بأمّي وكانت هذه آخر محاولة في جلسات العلاج بالكيماوي، فوضعها غدا خطيرا جدّا، وربّما هي آخر أيّامها معنا... لكنّها لا تعلم أنّها مصابة بالسّرطان، ولا تتذكّر من المستشفى إلّا الألم، ألم اعتقدته لمرض خفيف الطلّة، سريع المغادرة، ولكن... الحياة قاسية.
لا يمكنني أن أصف الوجع الذي شعرت به وقتها، لا تترجمه الكلمات، ولن تزنه القوافي، ربّما نزول تلك الدّمعة وقتها، كان أصدق شعور للتّعبير.. لم أنطق ببنت شفة، ونسيت مغازلة رمال وادي سوف بكلماتي كعادتي عندما أكون في طريق العودة إلى مدينتي، اكتفيت بالالتفات خلفي والنّظر إلى وجه 'خالتي فاطمة' أو أمّي...أقسم أنّي اعتبرتها أمّي في تلك اللّحظات...تمنّيت مواساتها، والارتماء في حضنها الدّافئ علّني أخفّف الألم الذّي تشعر به ولا تفهم سببه.. ساعاتٌ ثِقال مرّت كالدهر، وأنا أقلّب صفحات الزّمن اللّعين على وجنتيها، قرأت رواية البؤس في نظراتها، ورتّلت آيات الصّبر بشفتيها...
ما زالت ساعة تفصلنا عن الوصول إلى مدينتنا...فنعانق الفوسفاط.... علّتنا الأولى، ونشتمّ عطر الكاهنة فنشفى، كان أغلب الرّكاب منشغلين بهواتفهم، والنّظر إلى ذلك الطّريق الممتدّ الذي لا يكاد ينتهي، لنستفيق من غفوتنا تلك على استغاثة امرأة: هاتوا عليا.. قلبي سيتوقف، سأموت..
كانت صرخات خالتي فاطمة تتعالى ...وتتعالى وهي لا تعلم أنّ وجعها السّرطان .. جسدها لم يتحمّل جرعة الكيماوي المحرقة، فتألّم قلبها ونادت عليا... سألها مسؤول التّذاكر :
-ما بك خالتي؟ و من هو علي؟
نظرت إليه مطوّلا وأجابته: علي، ولدي نادِه الآن أرجوك.
حاول تهدئها والتّخفيف عنها وادّعى بأنّه اتّصل بعلي وهو قادم ليأخذها إلى البيت...لم ينجح الرّجل في إقناعها.. زادت صرخاتها بازدياد ألمها ...حاولت ابنتها تهدئتها لكنّها خرجت عن السّيطرة فصفعتها قائلة كلّكم كاذبون... نظرت إليها ولم أجد إلى يدي تقدّم لها حبّة شوكولا عساها تنقذ الموقف وتجعلها تصدّق أنّ عليا قادم وأنّ وصولنا غدا قريبا.. لم تصفعن كما توقّعت وتمنّيت لو كان ذلك ينقص من وجعها... ولم تنعتن بالكاذبة أخذت حبّة الشوكولا من عندي أكلتها بسرعة، وعاودت طلبها: هاتوا لي عليا...
طال بنا الطّريق لكنّنا وصلنا أخيرا وجاءها علي ضمّته بقوّة إلى صدرها... تاركة سؤالا عميقا في وجداني: ماذا فعل عليا حتّى أحبَته هكذا ماذا فعل حتّى اعتبرته شفاء ألمها....أين أنت يا علي؟ هاتوا لي عليا حتّى يخبرني عن حال أمّي.