- المشاهدات: 214
- الردود: 4
رؤيـــــــــــــــــــــــــــــــــة
اشعر بفرح يغمرني على الرغم من الحزن الذي يملأ جنبات قلبي، شعور متداخل لا يمكنني وصفه، هذا اليوم الذي انتظره كيوم العيد وينتهي كيوم المأتم، ولكنني ما زلت انتظره، أبكي فرحا وشوقا وطمعا وحزنا، فلا يمكنني بعد الآن أن أحدد سبب بكائي، انظر الى اللعبة التي اشتريتها منذ ثلاثة شهور في عيد ميلاده، أحملها معي كل مرة وأعود بها خائب الظن أجر خيباتي وحسراتي وألآمي واترك اللعبة بجانب فراشي لعلي أستطيع أن اهديها له يوما ما، أنظر إليها بصمت وترد إلى النظر بصمت أيضا، أشعر أنها تتوق للخروج من علبتها لتشعر بفرحته بها كما أشعر بفرحتي بلقائه.
ارتديت ملابسي بعد أن اخترتها بعناية، ارتديت القميص الذي يحبه ولمعت حذائي، أشعر كأنني عريس يذهب للقاء عروسه، أتوق شوقا إليه، احتضن لعبته في حضني لعلها تنقل إليه إحساسي به وشوقي إليه، أتوق إلى لقائه بعد غياب دام ستة أشهر، تقفز الأسئلة الى رأسي كالجرذان، تنهشها، هل تغير شكله، هل غير تسريحة شعره، هل يتفوق في دروسه، هل مازال يخاف من الظلام، ألف هل وهل تنطلق في رأسي بلا أجوبة، أهز رأسي لعلها تتساقط وتريحني، أنظر الى الطريق بلهفة وأطويها طيا، اعرف أنني سأصل قبل الموعد بساعة على الأقل لكني لا أستطيع الانتظار أكثر من ذلك.
وصلت الى مكان الرؤية، نفس المشهد القاتم، نفس العبث، صور كثيرة متكررة، رجال كثر واقفين منتظرين، منهم من ينفث دخان سيجارته بغضب، ومنهم من ينظر في ساعته كل ثلاثة ثواني وكأن الثواني تمر مرور الدهر، ومنهم من يمشي جيئة وذهابا، ومنهم من يجلس مسدلا كتفيه في يأس ومنهم ومنهم ومنهم، الكثير مننا ينتظر في خوف وأمل وشوق ويأس، المشاعر كثيرة ومختلطة، تتلاقي عيوننا وتهرب فلا قدرة على البوح أو تحمل قصص بائسة أخرى.
أنظر في ساعتي، ما زال الوقت مبكرا، أفكر فيمن حولي، منهم من رحل دامعا مخفيا كسرته، ومنهم من رحل غاضبا متوعد ومهددا، ومنهم من رحل صامتا ساهما، ومنهم ما زال مصرا على الانتظار. انظر مرة أخرى الى ساعتي وأتذكر وجهها عندما أهدتني إياها، أمي الغالية.
غاليتي، كما كنت أدعوها، كانت تبتسم وتقول "قل يا أمي" أقول لها أنت الغالية ولا غالية سواك، تضحك وتقول سننتظر إلى أن تتزوج ثم نرى. وقد تزوجت يا أمي وأنجبت وما زلتي غاليتي. أمي التي كانت الأم والأب معا، تلك السيدة التي تحملت تربية أربعة أطفال، توفي والدي وهو بعد شابا في الثلاثين، تخلى عنا الجميع ولم تلومهم أمي فدائما ما كانت تقول ليس لأحد ذنبا في تحمل حمل لا يخصه، لم أكن أفهم ذلك فقد كنت مازالت في العاشرة من عمري وكنت أكبر أخوتي، لكني أتذكر جيدا أنني ذهبت إليها باكيا أطلب منها أن تتركني اعمل لأساعدها في تربية أخوتي، أتذكر شحوب الموت الذي اعتلى وجهها، ثم انتفضت كمن لسعه ألف عقرب وعقرب، غابت في غرفتها وعادت حاملة كتاب الله وطلبت مني القسم عليه ألا اترك تعليمي مهما حدث وأن أحقق لها حلمها هي وأبي. أقسمت وأنا أبكي لكنني قررت ألا أخيب ظنها ما حييت.
كانت أمي جميلة، كانت اسم على مسمى فقد كانت كالزهرة البرية النافرة، تحفة فنية أبدع الصانع في صنعها، زبلت عندما توفي والدي، لكن جمالها كان رفيقها دوما، كنت أتعجب كثيرا من تلك المرأة ذات الوجهيين، الأم الحنون خفيفة الظل التي تداعبنا وتمرح معنا وتجلجل ضحكاتها في المنزل، والمرأة ذات الوجه الخشبي المتجلد عندما تتعامل مع الإغراب، أيقنت عندما بلغت الصبا أن هذا الوجه كان درع الحماية التي كانت تواجه به النظرات والهمسات، وأدركت أيضا لماذا لم يعد عمي يزورنا كما كان يفعل، فقد توقف عن زيارتنا عندما رفضت أمي الزواج به، وأدركت لماذا أغلقت الأبواب في وجه كل زائر غريب فلقد أغلقت أبواب قلبها على حبيبها الراحل ووجهت كل مشاعرها نحونا، لقد ماتت المرأة ودفنت إلى جوار زوجها، وبقيت الأم فقط الى جوار أبنائها.
لم اخجل يوما من ذكر أن أمي كانت عاملة في أحد الشركات، فقد كنت أتشرف بها في كل مكان، وكنت أذهب إليها في مكان عملها وأقبل يدها أمام الجميع، مازلت أذكر نظرات الخجل والحمرة التي تصبغ وجهها عندما أفعل ذلك، وخوفها علي من نظرات الحسد التي تلاحقني على حد قولها عندما أفعل ذلك، لم أكن وحدي الذي يفعل ذلك، فكأن الزرعة كلها قد صحت وصح معها الأربعة نبتات، فقد كان أخوتي الثلاثة يحبونها ويضعونها تاجا فوق رؤوسهم أينما كانوا.
تخرجت في كلية الهندسة وسعيت للعمل وقد وزعت أول مرتب أقبضه على أخوتي، أما الغالية فقد أحضرت لها شالا من القطيفة الناعمة، فقد كانت تتطلع إليه دوما، بكت أمي يومها كثيرا في حضني وبكيت معها، أقسمت عليها في هذا اليوم أن تتركني أساعدها، ووافقت، كلما تخرج أحدنا فعل مثل ما فعلت وتولى المساعدة حتى تخرجنا جميعا وطلبنا منها الراحة والاكتفاء فوافقت والدموع في عينيها، في عيد الأم كنا قد اتفقنا على أن الوقت قد حان لها لتلقي هدية العمر، لم تفهم في البداية عندما اعطينها جواز السفر والتذاكر، تلك المرة لم تبكي بل انطلقت الزغاريد تملأ جنبات البيت والشارع، ذهبت أمي الى العمرة، كان فراقها صعبا فتلك كانت أول مرة أدخل فيها البيت وهي غير موجودة، لكنها مجرد أيام أتحملها سعيدا من أجلها، لكن كانت إرادة الله غير إرادة البشر، فقد استرد الله وديعته ودفنت بعيدا عنا بألاف الأميال.
هل عادت الدنيا كما كانت؟ لا، فقد تغيرت الأشكال والألوان وطعم الحياة، فقد الفراشات ألوانها وفقدت الزهور عبيرها، وفقدت الموسيقى نغماتها، أصبح الضحك مكسور والفرح ناقص، كأن الواحة أصبحت قاحلة والنهر قد جف. تمنيت كثيرا أن تحمل أمي أحفادها وتسقيهم من حنانها وتدغدغ أقدامهم مثلما كانت تفعل معنا، أعلم أن أبنائنا قد فقدوا الكثير لكنها إرادة الله.
تركنا منزلنا بلا تغيير وتركنا غرفتها دون أن تمس، كنا جميعا نختلس الفرصة للدخول إليها وتلمس مواضع يدها ورائحتها في الوسادة. أصررت أن أتزوج بعد أن يتزوج جميع أخوتي، تزوجت بعد أن اطمأننت على أخوتي، وأنجبت إبني الوحيد "عمر"، فلذة كبدة وقطعة من روحي تمشي على الأرض، أحببته كما لم أحب من قبل، كنت أعود من عملي ملهوفا متشوقا إليه كمن ينتظر الربيع بعد طول شتاء، ضحكته تملأ قلبي، هذا المخلوق الذي أعاد الفرحة إلى قلبي وذكرني بمعنى السعادة، كلما نظرت إليه أتمنى لو كنت قد أنجبته باكرا، وأفكر سوف أنجب عشرة من الأبناء، فهذا الشعور لا يمكن الاكتفاء منه.
تطلقت أنا ووالدته، من المخطئ أنا أم هي؟ لم تعد تلك الأمور تهم، كل ما يهم هو "عمر"، ولدي، روحي التي اقتلعت مني عندما أصبح سكينا حادا في يد والدته تذبحني به كل شهر في ميعاد الرؤية التي تتعمد تفويته، لم أره منذ ستة أشهر، أشعر أن روحي تنسحب مني في كل ميعاد لا تأتي فيه، لا يواسيني غير أخوتي ورائحة أمي في الوسادة التي أبكي عليها كل يوم، أتوق إلى حضنها وربتها على ظهري عندما أكون مهموما، لكن يا غاليتي فقد رحلتي ورحل معك حنان الدنيا وأصبحت الأرض صحراء جرداء.
أنظر حولي لم يعد متبقي من طابور المنتظرين غير واثنين أخرين، لقد مر ميعاد الرؤية وانتهي الأمل، هل سيكون لدى طاقة المرة القادمة؟ هل سأصمد شهرا أخر؟ أغادر مهدما مكسورا مهزوما كقائد رحل عنه جيشه وترك وحيدا في ساحة المعركة، امر بجوار أب يحتضن ابنه ويبكي، أربت على كتفه وأعطيه اللعبة لعها تجد السعادة في حضن هذا الطفل.