- المشاهدات: 65
- الردود: 1
قصة قصيرة
_ السند
منذ أن سمع محمد خبر موت أبيه وهو في هم كبير، شعر أن ساعده الأيمن قد بتر بقسوة، أحس أن سنده وظهره قد قسم، لقد ضحى أبوه كثيرا، من أجله، منذ أن ماتت أمه في عمر الخمس سنوات، كان يغسل له ملابسه، ويجهز له طعامه، ويذاكر له دروسه، ويحممه، كما كان يسهر على راحته أثناء مرضه، لقد كان أبوه مضحيا كبيرا، معه ومع اخوته، فلم يتزوج بعد موت أمه، وعاش متفرغا له ولإخوته، وحينما، تعثر في التعليم قرر أن يساعده، ويقف بجانبه، وقدم له في مدرسة خاصة لكي تساعده وتهتم به، حتى حين طلب منه أن يشترك له في ناد لتعلم لعب كرة القدم التي كان يتميز فيها ويعشقها، اشترك له رغم قلة راتبه، فقد التحق بعمل إضافي بعد عمله الأساسي، حتى أنه تحايل على صحته، ومرضه، فقد كان مريض ضغط وسكر، ومع ذلك لم يفكر يوما في التخلي عنه، وعن تحقيق حلمه، في دخول كلية بالجامعة الخاصة التي كانت تطلب الكثير من المال، ورغم هذا لم يبخل عليه يوما بالانفاق، استمر الأب هكذا يكافح عاما بعد عام وأزمة بعد أزمة، حتى يحقق لأبناءه ما يريدون، دون أدنى ذرة في التفكير في نفسه، وحياته الخاصة، وعندما عرض عليه أبناءه الزواح كي يجد من ترافقه وتخفف عنه، رفض بشدة بالغة، خاف أن يأتي بإمرأة تكدر صفو حيات أبناءه، أو تهدم حياتهم، فقد علمهم أبناءه جميعا، وحين كبر قرر أن يسافر ليحقق ذاته ويكوّن مستقبله، ويحقق حلمه، فوافق أبوه على الفور، ولم يعترض، أو يطلب منه أن يظل بجانبه، والآن ماذا فعلت له الغربة غير الأنين والوحدة تفترسه من كل جانب كأنه طفل تاه في وسط ملهى كبير، ماذا فعل له المال إنه سر شقاؤه وهمه، جعل الجميع يبغضه وينفر منه، رسم حاجز منيع بينه وبينهم، لابد أن ينهي أموره ويعود لموطنه كي يحضر مراسم دفن أبيه، نزل الخبر عليه كشلال ساخن في قمة القيظ، قام من مقعده، اتصل ليحجز طائرة لموعد سفره حتى يلحق أبيه قبل أن يدفن. بعدها أغلق الهاتف الذي أعلن قيامة أحزانه، وضعه على المنضدة، سمع طرقات ملحة على بابه، أفاقته من شروده للحظة، راح ليعرف من الملح، إنه الخادم قد أتى كعادته لينظف له البيت الذي يشبه ملهى للصغار يلعبون فيه دون رقيب، ملابسه مبعثرة على الفراش، وأطباق طعام العشاء لا زالت في موضعها يحط عليها بعض الذباب الذي دخل من الشرفة التي تكاسل عن غلقها رغم البرد القارس، لماذا لم يتزوج ابنة عمه كي تقوم على خدمته مثلما نصحه أبوه عندما قرر السفر منذ عامين، كان أبوه يتمنى أن يزوجه قبل أن يموت بعدما أحس بدنو أجله بعد اصابته بالسرطان، الذي التهم نصف ما يدخره من سفره، لكنه كان يود أن يعد نفسه ويكون مستقبله قبل الزواج إلا أن القدر قال كلمته وانتهى الأمر، دخل سعيد خادمه محمل بأكياس مليئة باللحم والخضار والفاكهة الذي قد وصاه بها بالأمس، أنزل الأكياس ليدخلها المطبخ، لكنه لاحظ أمارات الحزن تعلو وجه سيده، سأله عن الأمر، أعلن له خبر موت أبيه وأنه سيعد نفسه للسفر ظهر اليوم، حزن بشدة للأمر، وطلب من محمد أن يعد له كوب شاي وبعض الطعام، لكن محمد نهره وقال:
_ إني حزين وليس لدي نفس لتذوق أي شيء، إذهب وضع الأكياس وأنا سأعد حقيبتي. أعد محمد الحقيبة متفحصا دواء والده الذي اشتراه له لأنه غير متوافر في مصر، نظر للدواء متأملا وكأنما يشكوه همه ويبثه حزنه، وأخذ يمسح دموعه المنهمرة التي عصت عليه ساعة سماع الخبر، لقد كان الخبر كالصدمة التي ألجمت دموعة وحبستها إن الدموع خاصمته منذ أن عرف الاكتئاب طريقه بعد تخرجه من الجامعة وحيرته في البحث عن عمل بشهادة كلية التجارة، لكن كيف البلد حبلى بآلاف خريجين التجارة، انهمرت دموعه وزاد نحيبه، رمى زجاجة الدواء على الأرض بقوة كأنما يعاقبها على موت أبيه لتنكسر وتحدث جلبه أسمعت الخادم في الداخل، أتى الخادم منزعجا يذكره بتقبل الأمر والرضا بقضاء الله. رد محمد وصوته يسابق نحيبه:
_إنه أبي وسندي إني رغم بلوغي الثلاثين لا أستطيع أن أتصرف في أي أمر دون مشورته، لما عاندته في الزواج، تمنى أن يرى فرحتي قبل موته، إلا أني كعهدي معه خيبت أماله.
هدأه الخادم، احتضنه بقوة قائلا:
_ إنا لله وإنا إليه راجعون، اصبر واحتسب سيعوضك الله خيرًا عن فقدك لأبيك.
_لا شىء يعوض فقد أبي، إنه كان لي كل شيء وقد خسرته للأبد.
مر الوقت بشق الأنفس يتمنى أن يسابق الطائرة لكي يحتضن جسد أبيه ويودعه سيغمره بالقبلات، سيغسله بدموعه، سيحكي له كل ما عاناه في الغربة، لن يدفنه قبل أن يروي له مأساته، أخيرا وصل إلى بيت أبيه في قريتهم المتواضعة، وجد إخوته في انتظاره أمام حجرة أبيه البكاء يعتصرهم كأنهم جمر يحترق، أصبح كل شيء كاتم تماما، كأنهم في غم لا ينتهي، كأنه لوحة كئيبة، النحيب يتعالى من أخته وأخوه. ربت على كتفهم بحزن. دخل على أبيه وجده ملقى على الفراش ثابت كالجبال، مغطى الوجه أزاح الغطاء ليغمره بالقبلات أخذ يحتضنه بقوة ظل يولول كالنساء لمدة ساعة يحكي له متاعبه، اعتذر له عن كل آثامه، والأب متجهم الوجه كأنه حي يستمع متأثر بكلام ابنه الملتاع، إلى أن نادوه لكي يقوموا بتغسيله ودفنه، قبل أن يذهب لدفن أبيه تحسس جيبه كالمجنون فأطلع حافظته كأنه ينتزع خنجر من قلبه، فأخرج جواز سفرة اللعين. نظر له بغل كأنما يعاقبه على موت أبيه، ثم مزقه ونثر الأوراق على الأرض.
تمت/ مايسة الألفي
_ السند
منذ أن سمع محمد خبر موت أبيه وهو في هم كبير، شعر أن ساعده الأيمن قد بتر بقسوة، أحس أن سنده وظهره قد قسم، لقد ضحى أبوه كثيرا، من أجله، منذ أن ماتت أمه في عمر الخمس سنوات، كان يغسل له ملابسه، ويجهز له طعامه، ويذاكر له دروسه، ويحممه، كما كان يسهر على راحته أثناء مرضه، لقد كان أبوه مضحيا كبيرا، معه ومع اخوته، فلم يتزوج بعد موت أمه، وعاش متفرغا له ولإخوته، وحينما، تعثر في التعليم قرر أن يساعده، ويقف بجانبه، وقدم له في مدرسة خاصة لكي تساعده وتهتم به، حتى حين طلب منه أن يشترك له في ناد لتعلم لعب كرة القدم التي كان يتميز فيها ويعشقها، اشترك له رغم قلة راتبه، فقد التحق بعمل إضافي بعد عمله الأساسي، حتى أنه تحايل على صحته، ومرضه، فقد كان مريض ضغط وسكر، ومع ذلك لم يفكر يوما في التخلي عنه، وعن تحقيق حلمه، في دخول كلية بالجامعة الخاصة التي كانت تطلب الكثير من المال، ورغم هذا لم يبخل عليه يوما بالانفاق، استمر الأب هكذا يكافح عاما بعد عام وأزمة بعد أزمة، حتى يحقق لأبناءه ما يريدون، دون أدنى ذرة في التفكير في نفسه، وحياته الخاصة، وعندما عرض عليه أبناءه الزواح كي يجد من ترافقه وتخفف عنه، رفض بشدة بالغة، خاف أن يأتي بإمرأة تكدر صفو حيات أبناءه، أو تهدم حياتهم، فقد علمهم أبناءه جميعا، وحين كبر قرر أن يسافر ليحقق ذاته ويكوّن مستقبله، ويحقق حلمه، فوافق أبوه على الفور، ولم يعترض، أو يطلب منه أن يظل بجانبه، والآن ماذا فعلت له الغربة غير الأنين والوحدة تفترسه من كل جانب كأنه طفل تاه في وسط ملهى كبير، ماذا فعل له المال إنه سر شقاؤه وهمه، جعل الجميع يبغضه وينفر منه، رسم حاجز منيع بينه وبينهم، لابد أن ينهي أموره ويعود لموطنه كي يحضر مراسم دفن أبيه، نزل الخبر عليه كشلال ساخن في قمة القيظ، قام من مقعده، اتصل ليحجز طائرة لموعد سفره حتى يلحق أبيه قبل أن يدفن. بعدها أغلق الهاتف الذي أعلن قيامة أحزانه، وضعه على المنضدة، سمع طرقات ملحة على بابه، أفاقته من شروده للحظة، راح ليعرف من الملح، إنه الخادم قد أتى كعادته لينظف له البيت الذي يشبه ملهى للصغار يلعبون فيه دون رقيب، ملابسه مبعثرة على الفراش، وأطباق طعام العشاء لا زالت في موضعها يحط عليها بعض الذباب الذي دخل من الشرفة التي تكاسل عن غلقها رغم البرد القارس، لماذا لم يتزوج ابنة عمه كي تقوم على خدمته مثلما نصحه أبوه عندما قرر السفر منذ عامين، كان أبوه يتمنى أن يزوجه قبل أن يموت بعدما أحس بدنو أجله بعد اصابته بالسرطان، الذي التهم نصف ما يدخره من سفره، لكنه كان يود أن يعد نفسه ويكون مستقبله قبل الزواج إلا أن القدر قال كلمته وانتهى الأمر، دخل سعيد خادمه محمل بأكياس مليئة باللحم والخضار والفاكهة الذي قد وصاه بها بالأمس، أنزل الأكياس ليدخلها المطبخ، لكنه لاحظ أمارات الحزن تعلو وجه سيده، سأله عن الأمر، أعلن له خبر موت أبيه وأنه سيعد نفسه للسفر ظهر اليوم، حزن بشدة للأمر، وطلب من محمد أن يعد له كوب شاي وبعض الطعام، لكن محمد نهره وقال:
_ إني حزين وليس لدي نفس لتذوق أي شيء، إذهب وضع الأكياس وأنا سأعد حقيبتي. أعد محمد الحقيبة متفحصا دواء والده الذي اشتراه له لأنه غير متوافر في مصر، نظر للدواء متأملا وكأنما يشكوه همه ويبثه حزنه، وأخذ يمسح دموعه المنهمرة التي عصت عليه ساعة سماع الخبر، لقد كان الخبر كالصدمة التي ألجمت دموعة وحبستها إن الدموع خاصمته منذ أن عرف الاكتئاب طريقه بعد تخرجه من الجامعة وحيرته في البحث عن عمل بشهادة كلية التجارة، لكن كيف البلد حبلى بآلاف خريجين التجارة، انهمرت دموعه وزاد نحيبه، رمى زجاجة الدواء على الأرض بقوة كأنما يعاقبها على موت أبيه لتنكسر وتحدث جلبه أسمعت الخادم في الداخل، أتى الخادم منزعجا يذكره بتقبل الأمر والرضا بقضاء الله. رد محمد وصوته يسابق نحيبه:
_إنه أبي وسندي إني رغم بلوغي الثلاثين لا أستطيع أن أتصرف في أي أمر دون مشورته، لما عاندته في الزواج، تمنى أن يرى فرحتي قبل موته، إلا أني كعهدي معه خيبت أماله.
هدأه الخادم، احتضنه بقوة قائلا:
_ إنا لله وإنا إليه راجعون، اصبر واحتسب سيعوضك الله خيرًا عن فقدك لأبيك.
_لا شىء يعوض فقد أبي، إنه كان لي كل شيء وقد خسرته للأبد.
مر الوقت بشق الأنفس يتمنى أن يسابق الطائرة لكي يحتضن جسد أبيه ويودعه سيغمره بالقبلات، سيغسله بدموعه، سيحكي له كل ما عاناه في الغربة، لن يدفنه قبل أن يروي له مأساته، أخيرا وصل إلى بيت أبيه في قريتهم المتواضعة، وجد إخوته في انتظاره أمام حجرة أبيه البكاء يعتصرهم كأنهم جمر يحترق، أصبح كل شيء كاتم تماما، كأنهم في غم لا ينتهي، كأنه لوحة كئيبة، النحيب يتعالى من أخته وأخوه. ربت على كتفهم بحزن. دخل على أبيه وجده ملقى على الفراش ثابت كالجبال، مغطى الوجه أزاح الغطاء ليغمره بالقبلات أخذ يحتضنه بقوة ظل يولول كالنساء لمدة ساعة يحكي له متاعبه، اعتذر له عن كل آثامه، والأب متجهم الوجه كأنه حي يستمع متأثر بكلام ابنه الملتاع، إلى أن نادوه لكي يقوموا بتغسيله ودفنه، قبل أن يذهب لدفن أبيه تحسس جيبه كالمجنون فأطلع حافظته كأنه ينتزع خنجر من قلبه، فأخرج جواز سفرة اللعين. نظر له بغل كأنما يعاقبه على موت أبيه، ثم مزقه ونثر الأوراق على الأرض.
تمت/ مايسة الألفي