- المشاهدات: 70
- الردود: 1
أنا الطبيب
قصة قصيرة
دائرة اكتشفت أنها تدخلها دون إرادة منها، بمجرد رقودها على السرير تنتقل لحالة لا تعرف كيف تصفها، لا تعرف إن كانت متيقظة أو نائمة، لكنها تجد نفسها معه، تسير حوله، تراه وتتابعه وتنتبه لكل ما يبدر منه أو يحدث معه، يضطرب قلبها إذا تعرض لشيء ضار وتسعد إذا ضحك ، وكثيراً ما ضبطت الدموع تنهمر من عينيها إذا رأت في عينيه الحزن أو الكدر للحظات ، وحينما يعود تستجوبه دون أن تبوح بسرها قاصدة أن يحكي لها هو بإرداته ما كان فهي حتى تلك اللحظة لم تكن تعرف أنها تتابعه لحظيا دقيقة بدقيقة وتكون معه في كل الأوقات، كانت فقط تقول إن قلبها يشعر به ويحس بمشاعره ويدور حوله فهو كيانها وحياتها وكل مالها في الوجود.
وحينما تسأله عن موقف حدث معه ولم يحدثها عنه كانت الدهشة تتملكه، يسألها من وشي لها عنه، من هو /هي الذي كلفته بمراقبته، فتضحك منه وتحتضنه قائلة إنه قلب الأم وروحها وإحساسها الذي أوقفته عليه.
...
لم يكن الأمر بإرادتها ولا هي تدري عنه شيئاً ، تنظر وترى وتتابع ولا تجد تفسيراً لما يجري، هي فقط تستيقظ صباحاً تجهز لحسام ولدها الطعام الذي سيأخذه معه، تعودا على هذا رغم أن زملاءه يأكلون من مطعم الكلية أو من المطاعم البسيطة المحيطة بالكلية، كان يرضى بما تأمره به دون تذمر أو اعتراض، ربما ذكر الأكل خارج البيت ويذكر أصحابه وهم يمرحون ويتسابقون للذهاب للمطعم وأحاديث الطعام وغيرها، لكنه أبدا لم يقل لها إنه يريد تغيير الوضع الذي تعود عليه، ربما لأن طعام أمه كان أروع في رأيه، وربما لأنه سمع منها كثيراً إن الطعام في المطاعم لن يكون أمناً ومفيدا ومغذيا مثل طعام البيت.
وأهم شيء يا بني النظافة.
هكذا كانت تقول له وكان يهز رأسه مؤمنا على كلامها فهو يثق بها لأنها كل دنياه وكل أهله، لم يعرف غيرها وكان يسألها فتقول له إن له أهلاً كثيرون من ناحية أمه ومن ناحية أبيه لكن الظروف باعدت بينهم لا أكثر، وحينما سألها أن تتواصل معهم دمعت عيناها ولاذت بصمت مقهور اضطره للصمت رغماً عنه.
كانت تجهز له الطعام وتعد له حقيبته وثيابه وحذاءه أيضاً وتتابعه وهو يستعد للخروج وتقف بجوار الباب تودعه دوماً وتوصيه برعاية نفسه والعودة إليها سريعاً، وكان يعدها بهذا، ويمضي في طريقه بينما تعود هي للنوم من جديد.
...
حينما كان يرى أهل أصدقائه ومعارفهم حولهم كان يعود إليها ثائراً، يصر أن تشرح له ما خفي عنه ورغم أن دموعها كانت تحسم الموقف وتضطره للصمت إلا إنه في المرة الأخيرة وقف أمام دموعها جامداً، مصراً أن تكف عن البكاء وتحكي له وقد كان، قالت من بين دموعها:
تزوجت أباك بمباركة أسرتينا في قريتنا بأقصى الصعيد، كنت صغيرة لم تر من الكون إلا مدرستها الثانوية بعد أن سمحت كثير من الأسر لبناتها باستكمال تعليمها، سألني أبي هل أرضى به زوجاً، سألته بدوري وهل أكمل تعليمي وأصبح طبيبة مثل عمي، انفرجت أساريره واهتز شاربه الكث هزة خفيفة ولمعت عيناه وهو يقول بحنان:
وافقتني أمي وواجهتهم بهذا، فوجئت بإخوتي وقد جمعوا كبار العائلة وجاء الجميع الدار وهدفهم موضوع واحد، على البنت طاعة ولي الأمر وهو هنا طبعا أخي الكبير عاصم الذي قالها بوضوح ودون خجل أو إحراج:
رد عاصم: ليس لك ميراث عندنا
وأيده الجميع، قلت:
لم أجد ما أرد به عليه لحظتها إلا الدموع المقهورة والصمت المخذول، لكن هذا لم يهز قراري أبداً، سأربيك وحدي وليكن ما يكون.
جاءت الوظيفة بعد أيام قليلة في المركز وهو يبعد عن القرية كثيراً، رفض إخوتي أولاً السفر اليومي والعودة في القطار بزحامه ومشاكله العديدة ، لكنهم وافقوا حينما عرضت ابنة عمي العجوز المتزوجة التي تسكن هناك ولم ترزق بأطفال أن أقيم معها وأعود لقريتي آخر الأسبوع، وبدأت العمل وهي ترعاك معي وتهتم بك ربما مثلي، وكل يوم خميس بعد الظهر أركب القطار عائدة أحملك للقرية، ويوم السبت صباحا أعود للمركز من جديد، واقترب الموعد الذي حدده أخي للزواج كما قال ، اتصلت بأمي هاتفياً وقلت لها لن أتزوج وليكن ما يكون، قالت أخوك مصمم على رأيه، انقطعت عن العودة للقرية ، اتصلت امي وقالت بصوت الفزع:
قلت لأمي هذا، وأخبرتها أنني جاءتني فرصة عمل بالإسكندرية، كانت فرصة بسبب زيادة الأجر وتوفر سكن مناسب وفوق هذا البعد عن أخي وقيوده، فلم أتردد، واكتفيت بك وحدك، لا أريد غيرك، هل ارتحت الآن؟
حدق حسام في وجهها الذي كساه الشحوب بلون صباح نقي صاف لم يتعكر بعفار النهار وضجيج لحظاته المترعة بالزيف، احتضنها بعينيه وروحه، فهو لم يكن يعرف أنها كانت تختزن كل هذه الأحزان وحدها.
...
هل يمكن يا أمي أن نعود إلى الصعيد يوماً ما، وهل يمكن أن نوصل ما انقطع منذ سنين؟
سألها، فشردت نظراتها متفكرة في إخوتها، هي تعرفهم وتعرف حدة تفكيرهم، وعنادهم، وبخاصة عاصم أخاها فقد جاء إلى الإسكندرية وراءها وقامت الشرطة باعتراضه وإجباره على التعهد بعدم التعرض لها وتحميله المسئولية كاملة عن سلامتها فعاد للقرية معلنا أنها قد ماتت للأبد، ومؤكد لن يغفر لها هذا أبداً، رغم أنها بعدها حاولت كثيرا الاتصال بهم والاعتذار إليه، لكنه كان يرفض مجرد التحدث إليها قائلاً إنه لن يقبل أن تعيش امرأة وحدها بلا رجل مهما كانت الأسباب، و بعد وفاة أمها انقطع الاتصال الهاتفي تماما.
ترى ماذا يقولون اليوم؟
عادت إليه من رحلة شرودها القصيرة، من أجله عاشت، ومن أجله قاتلت، ومن أجله ستفعل أي شيء، برقت عيناها ببريق يعرفه جيدا:
الطريق طويل، الغيوم تتكاثف رويداً، والظلمة تسيطر على الأمكنة، وهي لا تبالي، تقودها قدماها وهي تطير خلفها، حتى وصلت مكان حادثة على الطريق الرئيسي تجمع حولها الناس، رفرف قلبها وهوى بالمكان صارخاً، شعرت بروحها تهوي معه، بكيانها يهوي.
قال قائل:
قصة قصيرة
دائرة اكتشفت أنها تدخلها دون إرادة منها، بمجرد رقودها على السرير تنتقل لحالة لا تعرف كيف تصفها، لا تعرف إن كانت متيقظة أو نائمة، لكنها تجد نفسها معه، تسير حوله، تراه وتتابعه وتنتبه لكل ما يبدر منه أو يحدث معه، يضطرب قلبها إذا تعرض لشيء ضار وتسعد إذا ضحك ، وكثيراً ما ضبطت الدموع تنهمر من عينيها إذا رأت في عينيه الحزن أو الكدر للحظات ، وحينما يعود تستجوبه دون أن تبوح بسرها قاصدة أن يحكي لها هو بإرداته ما كان فهي حتى تلك اللحظة لم تكن تعرف أنها تتابعه لحظيا دقيقة بدقيقة وتكون معه في كل الأوقات، كانت فقط تقول إن قلبها يشعر به ويحس بمشاعره ويدور حوله فهو كيانها وحياتها وكل مالها في الوجود.
وحينما تسأله عن موقف حدث معه ولم يحدثها عنه كانت الدهشة تتملكه، يسألها من وشي لها عنه، من هو /هي الذي كلفته بمراقبته، فتضحك منه وتحتضنه قائلة إنه قلب الأم وروحها وإحساسها الذي أوقفته عليه.
...
لم يكن الأمر بإرادتها ولا هي تدري عنه شيئاً ، تنظر وترى وتتابع ولا تجد تفسيراً لما يجري، هي فقط تستيقظ صباحاً تجهز لحسام ولدها الطعام الذي سيأخذه معه، تعودا على هذا رغم أن زملاءه يأكلون من مطعم الكلية أو من المطاعم البسيطة المحيطة بالكلية، كان يرضى بما تأمره به دون تذمر أو اعتراض، ربما ذكر الأكل خارج البيت ويذكر أصحابه وهم يمرحون ويتسابقون للذهاب للمطعم وأحاديث الطعام وغيرها، لكنه أبدا لم يقل لها إنه يريد تغيير الوضع الذي تعود عليه، ربما لأن طعام أمه كان أروع في رأيه، وربما لأنه سمع منها كثيراً إن الطعام في المطاعم لن يكون أمناً ومفيدا ومغذيا مثل طعام البيت.
وأهم شيء يا بني النظافة.
هكذا كانت تقول له وكان يهز رأسه مؤمنا على كلامها فهو يثق بها لأنها كل دنياه وكل أهله، لم يعرف غيرها وكان يسألها فتقول له إن له أهلاً كثيرون من ناحية أمه ومن ناحية أبيه لكن الظروف باعدت بينهم لا أكثر، وحينما سألها أن تتواصل معهم دمعت عيناها ولاذت بصمت مقهور اضطره للصمت رغماً عنه.
كانت تجهز له الطعام وتعد له حقيبته وثيابه وحذاءه أيضاً وتتابعه وهو يستعد للخروج وتقف بجوار الباب تودعه دوماً وتوصيه برعاية نفسه والعودة إليها سريعاً، وكان يعدها بهذا، ويمضي في طريقه بينما تعود هي للنوم من جديد.
...
حينما كان يرى أهل أصدقائه ومعارفهم حولهم كان يعود إليها ثائراً، يصر أن تشرح له ما خفي عنه ورغم أن دموعها كانت تحسم الموقف وتضطره للصمت إلا إنه في المرة الأخيرة وقف أمام دموعها جامداً، مصراً أن تكف عن البكاء وتحكي له وقد كان، قالت من بين دموعها:
تزوجت أباك بمباركة أسرتينا في قريتنا بأقصى الصعيد، كنت صغيرة لم تر من الكون إلا مدرستها الثانوية بعد أن سمحت كثير من الأسر لبناتها باستكمال تعليمها، سألني أبي هل أرضى به زوجاً، سألته بدوري وهل أكمل تعليمي وأصبح طبيبة مثل عمي، انفرجت أساريره واهتز شاربه الكث هزة خفيفة ولمعت عيناه وهو يقول بحنان:
- هل ترغبين باستكمال تعليمك لتصبحي دكتورة يا بنت بدران؟
- أتمنى يا أبي
وافقتني أمي وواجهتهم بهذا، فوجئت بإخوتي وقد جمعوا كبار العائلة وجاء الجميع الدار وهدفهم موضوع واحد، على البنت طاعة ولي الأمر وهو هنا طبعا أخي الكبير عاصم الذي قالها بوضوح ودون خجل أو إحراج:
- لن نظل نطعمك ونسقيك أنت وولدك طول العمر، اذهبي لمن يتكفل بهذا.
رد عاصم: ليس لك ميراث عندنا
وأيده الجميع، قلت:
- أنا طبيبة، سأعمل وأصرف على ولدي.
لم أجد ما أرد به عليه لحظتها إلا الدموع المقهورة والصمت المخذول، لكن هذا لم يهز قراري أبداً، سأربيك وحدي وليكن ما يكون.
جاءت الوظيفة بعد أيام قليلة في المركز وهو يبعد عن القرية كثيراً، رفض إخوتي أولاً السفر اليومي والعودة في القطار بزحامه ومشاكله العديدة ، لكنهم وافقوا حينما عرضت ابنة عمي العجوز المتزوجة التي تسكن هناك ولم ترزق بأطفال أن أقيم معها وأعود لقريتي آخر الأسبوع، وبدأت العمل وهي ترعاك معي وتهتم بك ربما مثلي، وكل يوم خميس بعد الظهر أركب القطار عائدة أحملك للقرية، ويوم السبت صباحا أعود للمركز من جديد، واقترب الموعد الذي حدده أخي للزواج كما قال ، اتصلت بأمي هاتفياً وقلت لها لن أتزوج وليكن ما يكون، قالت أخوك مصمم على رأيه، انقطعت عن العودة للقرية ، اتصلت امي وقالت بصوت الفزع:
- أخوك سيأتي إليك ويجبرك على العودة وتنفيذ أمره، لا تعرضي نفسك يا بنتي للأذى.
قلت لأمي هذا، وأخبرتها أنني جاءتني فرصة عمل بالإسكندرية، كانت فرصة بسبب زيادة الأجر وتوفر سكن مناسب وفوق هذا البعد عن أخي وقيوده، فلم أتردد، واكتفيت بك وحدك، لا أريد غيرك، هل ارتحت الآن؟
حدق حسام في وجهها الذي كساه الشحوب بلون صباح نقي صاف لم يتعكر بعفار النهار وضجيج لحظاته المترعة بالزيف، احتضنها بعينيه وروحه، فهو لم يكن يعرف أنها كانت تختزن كل هذه الأحزان وحدها.
...
هل يمكن يا أمي أن نعود إلى الصعيد يوماً ما، وهل يمكن أن نوصل ما انقطع منذ سنين؟
سألها، فشردت نظراتها متفكرة في إخوتها، هي تعرفهم وتعرف حدة تفكيرهم، وعنادهم، وبخاصة عاصم أخاها فقد جاء إلى الإسكندرية وراءها وقامت الشرطة باعتراضه وإجباره على التعهد بعدم التعرض لها وتحميله المسئولية كاملة عن سلامتها فعاد للقرية معلنا أنها قد ماتت للأبد، ومؤكد لن يغفر لها هذا أبداً، رغم أنها بعدها حاولت كثيرا الاتصال بهم والاعتذار إليه، لكنه كان يرفض مجرد التحدث إليها قائلاً إنه لن يقبل أن تعيش امرأة وحدها بلا رجل مهما كانت الأسباب، و بعد وفاة أمها انقطع الاتصال الهاتفي تماما.
ترى ماذا يقولون اليوم؟
عادت إليه من رحلة شرودها القصيرة، من أجله عاشت، ومن أجله قاتلت، ومن أجله ستفعل أي شيء، برقت عيناها ببريق يعرفه جيدا:
- من أجلك سأحاول
الطريق طويل، الغيوم تتكاثف رويداً، والظلمة تسيطر على الأمكنة، وهي لا تبالي، تقودها قدماها وهي تطير خلفها، حتى وصلت مكان حادثة على الطريق الرئيسي تجمع حولها الناس، رفرف قلبها وهوى بالمكان صارخاً، شعرت بروحها تهوي معه، بكيانها يهوي.
قال قائل:
- جريح يحتاج لطبيب فوراً