- المشاهدات: 104
- الردود: 1
في حي من أحياء العالم الثالث تقطن "مي عيشة" المرأة المغربية الأصيلة، التي تبلغ من العمر ستين سنة. إلا أنها لا تستنكف عن العمل و المثابرة . تستيقظ كل يوم على وقع آذان الفجر، تؤدي مناسكها وتتوجه صوب سوق الخضر للبيع بالجملة. هذا المكان الذي لم تبخل عليه من جهدها ، أتذكر تلك اللحظات التي قضيتها فوق ظهرها وهي منغمسة في العمل.المسكينة "مي عيشة". حدثتني ذات يوم وهي تتلاعب بذوائب شعري كالعادة عن قصتها فهي لم تكن ترضى بهذه الوضعية إلا أن الزمان وضع حسانه فوق رقبتها ولم يترك لها خيرا آخر سوى العمل. فبعد أن كانت والدتي ووالدي في عامهم الأول من الزواج يخططان لبناء صرح لهذا الأساس الذي وضعاه . حدث مالم يكن في الحسبان ، حيث توفي والدي وهو في طريقه للعمل فوق صهوة سابحه الحديدي، إتر حادثة مميتة . فحل الحمام في المنزل وخلف من ورائه رجلا آخر يدعى الفقر. هذا الأخير الذي لم يترك الفرصة لأمي عيشة. فهو يريد الاقتران بها وهي ترفض ذلك والمجتمع يضغط عليها بمبادئه القيمية التي لا ترحم ولا تقدر حالة "مي عيشة". لكن عندما اتصلت بها وأخبرتها أني قادم وبأنني سأخرج من رحم المعاناة. زدت الطينة بلة ولم يعد هناك خيار آخر "لمي عيشة" سوى الخروج للعمل.فالفقر أوجها والهم أنحلها والغم أضناها إلى درجة كنت أحيانا أحتج وأضرب بطنها من السغب. فكانت المسكينة تأخذ الأُشُّ وتببله بالشاي وترسله إلى معدتها فأقتات منه ما يبقيني على قيد الحياة. مررنا بأوقات صعبة في تلك الفترة حيث كانت تحمل الأثقال إلى درجة كنت ألتصق بجلدة بطنها فأعاود الاحتجاج مرة أخرى. أركل برجلي والمسكينة تتوجع. لكن مع مرور الوقت تعودت على حمل الأثقال أنا أيضا. فقللت من الاحتجاج. المسكينة ظلت على حالتها حتى في مرحلة النفاس ، وكل ذلك من أجل أن توفر لي كل شيء. فهي كانت الأم والأب والأخت والأخ ، إنها كل شيء.
أتذكر ذات يوم أنها سقطت من فوق شاحنة كانت تنزل منها الخضروات مما سبب لها كسرا في الرجل اليمنى. عشنا في تلك الفترة أسوأ اللحظات إلى درجة أننا لم نجد بُلغة تبقينا على قيد الحياة . فكان المنقد الوحيد هو الأُشُّ لكن هذه المرة مع ماء المطر الذي كانت تحصل عليه والدتي من ثقب في سقف "البراكة". كل ذلك إلا أن "مي عيشة" لا تستسلم .
عادت لعملها كما كانت.فمرت السنون علينا كصعود سلحفاة على جبل. رغم ذلك لم تتوقف "مي عيشة" عن العميوما رافقتها للعمل وإنما كانت تضاعف جهدها وتذهب لتنظيف المنازل في المساء. أتذكر يوما رافقتها للعمل في أحد الفيلات التي تحسب على دول العالم الأول ، أنذاك كنت في ربيعي السابع كانت تلك أول مرة أرى فيها مثل هذه البنايات، لأنني كنت أظن أن كل الناس تسكن في مثل منزلنا في "الكريان"(دور الصفيح). كانت تلك بمثابة ولادة جديدة لي ، حيث أصبحت أدرك أننا ننتمي إلى عالم آخر مختلف عن هذا العالم. خلته المريخ الذي كانت تخبرني عنه أمي بقولها: " واش باغي طلع للمريخ". كل هذا أدخلني في صدمة أخرجني منها صراخ صاحبة النزل على والدتي. "عنداك داك لموسخ دولدك يدوي مع ولادي ولا يلعب معاهم".
وأمي تطأطئ رأسها وتلتمس الاعتذار رغم أنني لم أقترب من أولادها. أنذاك أدركت رغم حداثة سني أن سكان هذا الكوكب لا يمكننا التواصل معهم أو اللعب معهم. كل هذا لم يؤثر في بقدر ما تدمرت لبكاء والدتي أثناء العودة إلى المنزل. حينها أخذت قرار حمل السلاح ولكن أي سلاح؟. نعم إنه سلاح العلم الذي لطالما كانت تحثني عنه والدتي وتخبرني أن السبيل الوحيد للنجاة والصعود لذلك الكوكب هو العلم.
مرت الأيام وأصبحت أرفض فكرة عمل والدتي، كيف لا و المجتمع يطعن سهامه في قلبي رغم ذلك كانت "مي عيشة" تنهرني وتغضب علي عندما أفاتحها في الموضوع وتقول: " واش شميتي ريحت بطانك أولد لهجالة". هذا الكلام كنت أحسبه ذما لكن مع تقدم الزمن ، أصبحت أدرك أنه البدرة التي زرعت في شخصيتي شيم الرجولة و الصبر على الصعاب ومواجهة كل من يحاول كبح جماحي وإقاف قطار حياتي. وذات يوم سألتها لماذا تنهرني وتذمني عندما أتحدث معها بخصوص العمل. فأخبرتني أن النفس يجب عليها أن تتعود على مثل هذا النوع من التنمر، كي تربي مناعة تقيها في المستقبل. أكثر من ذلك كانت تلقنني مبادئ العيش داخل هذا المستنقع اللعين. أتذكر عدة حكم كانت تخبرني بها على رأسها قولة "عبد الرحمن المجذوب". " يالواكل لحم الراس فالبير لوح عظامو ضحك ولعب مع ناس وفمك ديرلو لجامو". وقولة كانت تقولها لي في مراهقتي كي أتجنب كيد النساء. تقول: " سوق نسا سوق مطيار ، يادخلو رد بالك يوروك من ربح قنطار ويدولك راس مالك". كنت أحفظ هذه القولات وأعمل بها كأنها دستور في الحياة. كيف لا أعمل بها ومن أخبرتني عنها ، توجد من تحت قدميها مفاتيح دار الخلود.
وها أنا ذا حققت حلمنا وأصبحت طبيبا ، أحاول أن أنقذ ما أمكنني من الأرواح تفاديا لما وقع "لمي عيشة". والآن أسير في طريقي لسوق الخضر . فرغم تحسن الحال إلا أن " مي عيشة" لازالت تذهب هنالك لملاقات الأحباب وتذكر أيام الشقاء والعذاب التي مرت عليها مخلفة آثار جروح لا تندمل، رغم محاولاتي العديدة لتضميد هذه الجراح أملا في رؤية "مي عيشة" تينع من جديد.
أتذكر ذات يوم أنها سقطت من فوق شاحنة كانت تنزل منها الخضروات مما سبب لها كسرا في الرجل اليمنى. عشنا في تلك الفترة أسوأ اللحظات إلى درجة أننا لم نجد بُلغة تبقينا على قيد الحياة . فكان المنقد الوحيد هو الأُشُّ لكن هذه المرة مع ماء المطر الذي كانت تحصل عليه والدتي من ثقب في سقف "البراكة". كل ذلك إلا أن "مي عيشة" لا تستسلم .
عادت لعملها كما كانت.فمرت السنون علينا كصعود سلحفاة على جبل. رغم ذلك لم تتوقف "مي عيشة" عن العميوما رافقتها للعمل وإنما كانت تضاعف جهدها وتذهب لتنظيف المنازل في المساء. أتذكر يوما رافقتها للعمل في أحد الفيلات التي تحسب على دول العالم الأول ، أنذاك كنت في ربيعي السابع كانت تلك أول مرة أرى فيها مثل هذه البنايات، لأنني كنت أظن أن كل الناس تسكن في مثل منزلنا في "الكريان"(دور الصفيح). كانت تلك بمثابة ولادة جديدة لي ، حيث أصبحت أدرك أننا ننتمي إلى عالم آخر مختلف عن هذا العالم. خلته المريخ الذي كانت تخبرني عنه أمي بقولها: " واش باغي طلع للمريخ". كل هذا أدخلني في صدمة أخرجني منها صراخ صاحبة النزل على والدتي. "عنداك داك لموسخ دولدك يدوي مع ولادي ولا يلعب معاهم".
وأمي تطأطئ رأسها وتلتمس الاعتذار رغم أنني لم أقترب من أولادها. أنذاك أدركت رغم حداثة سني أن سكان هذا الكوكب لا يمكننا التواصل معهم أو اللعب معهم. كل هذا لم يؤثر في بقدر ما تدمرت لبكاء والدتي أثناء العودة إلى المنزل. حينها أخذت قرار حمل السلاح ولكن أي سلاح؟. نعم إنه سلاح العلم الذي لطالما كانت تحثني عنه والدتي وتخبرني أن السبيل الوحيد للنجاة والصعود لذلك الكوكب هو العلم.
مرت الأيام وأصبحت أرفض فكرة عمل والدتي، كيف لا و المجتمع يطعن سهامه في قلبي رغم ذلك كانت "مي عيشة" تنهرني وتغضب علي عندما أفاتحها في الموضوع وتقول: " واش شميتي ريحت بطانك أولد لهجالة". هذا الكلام كنت أحسبه ذما لكن مع تقدم الزمن ، أصبحت أدرك أنه البدرة التي زرعت في شخصيتي شيم الرجولة و الصبر على الصعاب ومواجهة كل من يحاول كبح جماحي وإقاف قطار حياتي. وذات يوم سألتها لماذا تنهرني وتذمني عندما أتحدث معها بخصوص العمل. فأخبرتني أن النفس يجب عليها أن تتعود على مثل هذا النوع من التنمر، كي تربي مناعة تقيها في المستقبل. أكثر من ذلك كانت تلقنني مبادئ العيش داخل هذا المستنقع اللعين. أتذكر عدة حكم كانت تخبرني بها على رأسها قولة "عبد الرحمن المجذوب". " يالواكل لحم الراس فالبير لوح عظامو ضحك ولعب مع ناس وفمك ديرلو لجامو". وقولة كانت تقولها لي في مراهقتي كي أتجنب كيد النساء. تقول: " سوق نسا سوق مطيار ، يادخلو رد بالك يوروك من ربح قنطار ويدولك راس مالك". كنت أحفظ هذه القولات وأعمل بها كأنها دستور في الحياة. كيف لا أعمل بها ومن أخبرتني عنها ، توجد من تحت قدميها مفاتيح دار الخلود.
وها أنا ذا حققت حلمنا وأصبحت طبيبا ، أحاول أن أنقذ ما أمكنني من الأرواح تفاديا لما وقع "لمي عيشة". والآن أسير في طريقي لسوق الخضر . فرغم تحسن الحال إلا أن " مي عيشة" لازالت تذهب هنالك لملاقات الأحباب وتذكر أيام الشقاء والعذاب التي مرت عليها مخلفة آثار جروح لا تندمل، رغم محاولاتي العديدة لتضميد هذه الجراح أملا في رؤية "مي عيشة" تينع من جديد.