- المشاهدات: 529
- الردود: 4
حنين الاحتراق
مساءَ ذلكَ اليومِ، لا شيءَ كانَ يغريه ليخرجَ من البيت وأيضا لا شيء كان يستحق أن يبقى لأجله
ارتدى معطفهُ الوحيدَ وخرجَ ليدخّن اخر سيجارتَيْنِ لديهِ في العلبة.
لا شيء غير الظلام في ذلك الشارع الذي صارَ يَحْفَظُهُ ويحفظُ كلَّ حفرةٍ فيهِ فهو لا يحتاجُ ليصلَ الى وجهته لتلكَ الإنارةِ العموميةِ المكسورةِ، التي لا يذكر اخر مرة رآها تعمل فيها اِن كانت اشتغلت أصلا من قبل.
على أمل أن يجد صديقَهُ وليد تحتَ تلكَ الزيتُونةِ في طرف الغابة أين يلتقي دائما معه هو ومجموعة من الأصدقاء، كان قد أشعل احدى السيجارتين وترك الأخرى مكانها فسيحتاجها بعد قليل إذا احضر صديقه ما اتفقا عليه وغاص في ظلام الطريق وغرق في نشوة النفس الأول من السيجارة ليرسوا على ذكريات كان همه الوحيد مؤخرا هو الهرب منها.
سارع الخطى كي لا يسترسل كثيرا في خواطره المظلمة وأيضا ليصل بسرعة الى مكان اللقاء لان البرد بدأ يفتك بأصابع قدميه العارية فليلة باردة كتلك كان لابد عليه أن لا يخرج فيها أصلا من البيت فضلا أن يخرج فيها بأقدام عارية
وهو يقتربُ من الشجرةِ لمْ يرَ دخاناً ولا ناراً لأنَّ صديقه لمْ يصلْ بعد، ومعنى ذلك أنَّه ليسَ عليه الانتظارُ فحسب وإنَّما عليهِ أنْ يشعلَ النّار وحده أيضا لحينِ وصولِ وليد.
على قَدْرِ ما هوَ مُحتاجٌ لشيءٍ يجفِّفُ بهِ أقدامَهُ وأطرافَ ثيابِهِ على قدرِ ما كان يكرهُ تلكَ الرائحةَ التي يتحتم عليه أن يأخذها معه الى فراشه كل ليلة تقريبا كمقابل عليه دفعه لقاء ما حصل عليه من دفء
لن يفكِّر كثيراً في رائحة النار التي ستلتصق به وبفراشه لأنَّه يعلم أنه لا بد من دفع ضريبة معينةٍ كلّما أراد الحصول على شيء ولو كان بسيطا، هكذا هي حياته لا مكان لشيءٍ مجاني فيها دونَ مقابل، هو يعلم ذلك جيدا وهي تُصِرُّ أن تثبتَ له ذلك في كل مرةٍ حتّى في أتفهِ الأشياءِ.
متكئا على جدع الشجرة جالسا على حجر كان قد افرشه بشهادة ميلاد له قديمة ممزقة يحملها دائما كي لا تتسخ ثيابه، تاه في منظر النار وهي تستعر أمامه بعد أن قام بإشعالها بقطعة من شهادة الميلاد تلك.
وهو يلقي بأصابعِ قدميْه أمام النّار كي تجف بدأ يفكر كيف لنفس المشهد ونفس الصوت أن يثيرَ في نفسه كل تلك الدهشة والغرابة بطريقة مختلفة في كل مرة، فهوَ لمْ يستطِعْ أبداً تفسيرَ كيف لنفس النار وهي تشتعل ولنفس صوت الحطب وهو يئن محترقا فيها أن تمنحه كل مرة شعورا مختلفا وإحساسا جديدا وكأنه يشاهدها للمرة الأولى.
كان قد رمى السيجارةَ التي رافقَتْهُ في الطريق المظلمة وقبل أن يفعل ذلك ساعَدَتْهُ كي يشعلَ النار بها وتَرَكَتْهُ وَحده ينتظِرُ تحت شجرة الزيتون، حسناً بالتفكير في الأمرِ لوهلةٍ ، وبالنسبة لسيجارةٍ واحدةٍ لم يَعْرِفْها الا قبل قليل فقد استفاد منها أكثر بكثيرٍ من مُعظَمِ من يعرفهم قبلها بأحزان ودروب،
من الأشياء التي لا يجد فيها صعوبة في حياته على قلتها هو كيفية اشعال النار حتى أنه قال لصديقه ذات مرة ممازحا أنه من كثرة ما أشعل النار أيام كان يبيت في الغابات في الجيش ربما يمكنه اشعالها فقط من طقطقة أصابعه
طبعا كان يبالغ في الأمر ولكن علاقته بالنار لم تكن يوما عادية يكفي أن أول ذكرى له في حياته كانت منها وهو بعمر الرابعة يوم احرقته في يده لتترك له فيها علامة لازال يحملها معه أينما ذهب وكأنها تقول له :
-الآن صرتَ ملعوناً بي ... فسوف تتذكر بعد هذا كلّ شيء.
وأي لعنةٍ تلكَ ...
أحياناً يحاول جاهدا أن يتذكر أي شيء قبل ذلك دون جدوى، إنَّ وميضَ النّارِ ذلك اليوم في البيت القصديري الذي كانوا يسكنونه آنذاك أرَّخَ في ذهنه المشهد :
كانونٌ من النَّارِ وقُرْبَهُ إنَاءُ ماءٍ منَ الحديدِ أخضرٌ وهوَ فوقَ حصيرٍ من صوفِ الكباشِ كانَ هذَا كلَّ ما يمكنهُ تذكُّرهُ وكانَ كل شيءٍ جامداً في ذلك المشهدِ الا النَّارَ كانتْ ترقصُ أمامهُ وكأنَّها تنادي عليهِ وبالنسبةِ لطفلٍ صغيرٍ كانت إغراءاً أكثرَ ممَّا يمكنهُ تحمله.
منذُ ذلكَ الحينِ وهو لا يتذكر حدثا مهما في حياته إلا ولا بد أن تكون النّار جزءاً منه، شاهدةً عليه
-علي
انحنى قليلا وهو يقرأ ما تبقى من الورقة التي أشعل بها النّارَ من شهادة ميلاده، التقطَها لم يتبقى فيها غيرُ اسمهِ وكأن النّار لم ترد أن تحرقه مرةً أخرى ذلك اليوم لأنها فعلت ذلك صباح ذلك اليوم بالذات و ربما لأنها أرادت أن تذّكره بأنها معه منذ اللعنة الأولى أو ربما أرادته أن يبدأ بالنسيان، لا يدري ماذا كانت تريد أن تخبره فعندما يتعلق الأمر بها فانه يعلم جيدا أن علاقته بالنّارِ لم تكن يوماً عاديةً، يرمي بنفسه في النَّار ليحرقَ اسمه فيها ويُخْرِجُ السيجارة المتبقيةَ في جيبهِ ليحرقَ فيها أنفاسه، ليتذكر ما حدث له صباحا.
كان قد مرَّ شهرٌ كامل على آخرِ حديثٍ جمعهُ مع أمه، لم يستطع أيٌّ منهما أن يكسر هذا الجليد الذي تراكم بينهما، أو أن يبدّد أيّ منهما تلك الجفوةَ الحاصلة
لا يذكر أنَّه استطاع ألا يحدِّث أمه كل هذا الوقت، فقط حدَثَ مرة أن افترقا لمدة شهرٍ ونصف أيام خدمته العسكرية لكنها وفور انتهاء فترة التدريب أتته تُسابقُ خطوَها وتحملُ كل ما استطاعت حمله من أكل وملابس وكأنها تعوّضه عما فاته أو فاتها من حنان ورعاية.
لم يحدث بينهما شجارٌ أو ما شابه، لكن شيئا قامت به.... - بل حصل معها - أثار غضبه ولم يستطع هضمه ولا حتى مواجهتها به فرغم مرور شهر فهو لم يجد بعد طريقة للحديث معها في الأمر
كان قد قرّر وضع حدٍّ لكل هذا، فاليوم، قام باقتناءِ هدية بسيطة لها كيس من الحناء كانت قد طلبته منه منذ فترةٍ ليْست بالبعيدة، بدت له فكرةً مناسبةً أن يهديها شيئا يبقى معها لمدة طويلة نسبيا، ليقاوم فترات الجفاء القادمة
مُتَوَجِّهاً إليها بعد خروجه من المحل الذي اقتنى منه هديتَه، شغل تفكيره شيء واحد فقط .... - كيف سيبدأ حديثه معها؟
كل شيء بدا غريبا في طريقه إليها وأكثر تعقيدا من كلِّ المراتِ السابقة، لطالما كان التواصل مع أمه لا يحتاج لأكثر من ابتسامة منها تشرقُ بين تجاعيد وجهها الجميل لتملأ حياتَهُ حياةً، لم يكن يحتاج للتفكير قبل ذلك كيف سيتكلم معها فهي التي علمته الكلام
هو عادةً لا يهتم للتفاصيلِ الصغيرةِ كافتتاحِ حوارٍ، أو اختيارِ هديةٍ فهي من علَّمته أنَّ جوهر الأشياء هو المهمُ، لكن هذه المرةَ بالذاتِ تختلفُ، فمن بين كل أحاديثهما السابقة كان افتتَاحُ هذا الحوار صعباً جدا ومهمًّا
محاولا إيجاد مكان لإخفاء علبة سجائره، ارتسمتْ على وجهه نفسُ الابتسامةِ الصفراء التي علته يوم أمسكته أمه فيها يدخن لأول مرة، يومها غضبت عليه فأقسم برأسها أنه لن يعود إلى ذلك أبدا، طبعا لم يكن يقصد أنه سوفَ يَتَوَقَفُ عنِ التدخينِ ولكنَّه كانَ يقصدُ أنَّها لنْ تمسكهُ يُدَخِنُ مرةً أُخْرَى
مدركاً أنَّ مساعيهِ في الصلحِ ستفشلُ إن هو حنث بقَسَمِهِ قامَ بإخفاءِ علبةِ السجَائِرِ، واقتربَ منْ أمه بعد شهر من الفراق سلم عليها وجلس بجانبها، لكنه لم يقبلها هذه المرة على رغم عادته مع أنه كان يريد ذلك وبشدة، وهي أيضا كانت على غيرِ عادتِها صامتةً
. لم تكن الأفكار قد تبلورت بعد في ذهنه عن كيفية افتتاح الحديث معها -
أيعتذر منها ويطلب المغفرة؟ -
-هل يلومها ويعاتبها؟
أم يتجاهلان الموضوع بفتح موضوع آخر جديد كما تعودا أن يفعلا دائما بعد كل جفوةٍ تحصلُ بينَهُما؟
قرر ألا يغامرَ كثيراً وأن يقوم بما تعود على فعله :
أتعلمين أن وليد قرر التقدم للفتاة التي تعرف عليها مؤخرا، لكن أمه لم توافق عليها –
مسكين وليد لا يعلم حتى سبب رفض والدته لاختياره؟
أرجوا أن لا تفعلي ذلك معي يا أمي ذات يوم .... قالها ممازحا -
توقف عن الكلام، وساد صمت رهيب في المكان لم يستطع عندها أن يتمالك نفسه
أجهشَ بالبكاءِ، تسلَّلتِ منهُ دموعٌ استقرَّتْ في الوعاءِ الذي كانَ قد بدأَ يُبَلِّلُ فيهِ الحنَّاء بالماء، مبللةً بدموعه وضع الحنّاء على قبرِ والدتهِ، ورفع يديهِ ليقرأ عليها الفاتحة، وبعدها انصرف
***
مساءَ ذلكَ اليومِ، لا شيءَ كانَ يغريه ليخرجَ من البيت وأيضا لا شيء كان يستحق أن يبقى لأجله
ارتدى معطفهُ الوحيدَ وخرجَ ليدخّن اخر سيجارتَيْنِ لديهِ في العلبة.
لا شيء غير الظلام في ذلك الشارع الذي صارَ يَحْفَظُهُ ويحفظُ كلَّ حفرةٍ فيهِ فهو لا يحتاجُ ليصلَ الى وجهته لتلكَ الإنارةِ العموميةِ المكسورةِ، التي لا يذكر اخر مرة رآها تعمل فيها اِن كانت اشتغلت أصلا من قبل.
على أمل أن يجد صديقَهُ وليد تحتَ تلكَ الزيتُونةِ في طرف الغابة أين يلتقي دائما معه هو ومجموعة من الأصدقاء، كان قد أشعل احدى السيجارتين وترك الأخرى مكانها فسيحتاجها بعد قليل إذا احضر صديقه ما اتفقا عليه وغاص في ظلام الطريق وغرق في نشوة النفس الأول من السيجارة ليرسوا على ذكريات كان همه الوحيد مؤخرا هو الهرب منها.
سارع الخطى كي لا يسترسل كثيرا في خواطره المظلمة وأيضا ليصل بسرعة الى مكان اللقاء لان البرد بدأ يفتك بأصابع قدميه العارية فليلة باردة كتلك كان لابد عليه أن لا يخرج فيها أصلا من البيت فضلا أن يخرج فيها بأقدام عارية
وهو يقتربُ من الشجرةِ لمْ يرَ دخاناً ولا ناراً لأنَّ صديقه لمْ يصلْ بعد، ومعنى ذلك أنَّه ليسَ عليه الانتظارُ فحسب وإنَّما عليهِ أنْ يشعلَ النّار وحده أيضا لحينِ وصولِ وليد.
على قَدْرِ ما هوَ مُحتاجٌ لشيءٍ يجفِّفُ بهِ أقدامَهُ وأطرافَ ثيابِهِ على قدرِ ما كان يكرهُ تلكَ الرائحةَ التي يتحتم عليه أن يأخذها معه الى فراشه كل ليلة تقريبا كمقابل عليه دفعه لقاء ما حصل عليه من دفء
لن يفكِّر كثيراً في رائحة النار التي ستلتصق به وبفراشه لأنَّه يعلم أنه لا بد من دفع ضريبة معينةٍ كلّما أراد الحصول على شيء ولو كان بسيطا، هكذا هي حياته لا مكان لشيءٍ مجاني فيها دونَ مقابل، هو يعلم ذلك جيدا وهي تُصِرُّ أن تثبتَ له ذلك في كل مرةٍ حتّى في أتفهِ الأشياءِ.
متكئا على جدع الشجرة جالسا على حجر كان قد افرشه بشهادة ميلاد له قديمة ممزقة يحملها دائما كي لا تتسخ ثيابه، تاه في منظر النار وهي تستعر أمامه بعد أن قام بإشعالها بقطعة من شهادة الميلاد تلك.
وهو يلقي بأصابعِ قدميْه أمام النّار كي تجف بدأ يفكر كيف لنفس المشهد ونفس الصوت أن يثيرَ في نفسه كل تلك الدهشة والغرابة بطريقة مختلفة في كل مرة، فهوَ لمْ يستطِعْ أبداً تفسيرَ كيف لنفس النار وهي تشتعل ولنفس صوت الحطب وهو يئن محترقا فيها أن تمنحه كل مرة شعورا مختلفا وإحساسا جديدا وكأنه يشاهدها للمرة الأولى.
كان قد رمى السيجارةَ التي رافقَتْهُ في الطريق المظلمة وقبل أن يفعل ذلك ساعَدَتْهُ كي يشعلَ النار بها وتَرَكَتْهُ وَحده ينتظِرُ تحت شجرة الزيتون، حسناً بالتفكير في الأمرِ لوهلةٍ ، وبالنسبة لسيجارةٍ واحدةٍ لم يَعْرِفْها الا قبل قليل فقد استفاد منها أكثر بكثيرٍ من مُعظَمِ من يعرفهم قبلها بأحزان ودروب،
من الأشياء التي لا يجد فيها صعوبة في حياته على قلتها هو كيفية اشعال النار حتى أنه قال لصديقه ذات مرة ممازحا أنه من كثرة ما أشعل النار أيام كان يبيت في الغابات في الجيش ربما يمكنه اشعالها فقط من طقطقة أصابعه
طبعا كان يبالغ في الأمر ولكن علاقته بالنار لم تكن يوما عادية يكفي أن أول ذكرى له في حياته كانت منها وهو بعمر الرابعة يوم احرقته في يده لتترك له فيها علامة لازال يحملها معه أينما ذهب وكأنها تقول له :
-الآن صرتَ ملعوناً بي ... فسوف تتذكر بعد هذا كلّ شيء.
وأي لعنةٍ تلكَ ...
أحياناً يحاول جاهدا أن يتذكر أي شيء قبل ذلك دون جدوى، إنَّ وميضَ النّارِ ذلك اليوم في البيت القصديري الذي كانوا يسكنونه آنذاك أرَّخَ في ذهنه المشهد :
كانونٌ من النَّارِ وقُرْبَهُ إنَاءُ ماءٍ منَ الحديدِ أخضرٌ وهوَ فوقَ حصيرٍ من صوفِ الكباشِ كانَ هذَا كلَّ ما يمكنهُ تذكُّرهُ وكانَ كل شيءٍ جامداً في ذلك المشهدِ الا النَّارَ كانتْ ترقصُ أمامهُ وكأنَّها تنادي عليهِ وبالنسبةِ لطفلٍ صغيرٍ كانت إغراءاً أكثرَ ممَّا يمكنهُ تحمله.
منذُ ذلكَ الحينِ وهو لا يتذكر حدثا مهما في حياته إلا ولا بد أن تكون النّار جزءاً منه، شاهدةً عليه
-علي
انحنى قليلا وهو يقرأ ما تبقى من الورقة التي أشعل بها النّارَ من شهادة ميلاده، التقطَها لم يتبقى فيها غيرُ اسمهِ وكأن النّار لم ترد أن تحرقه مرةً أخرى ذلك اليوم لأنها فعلت ذلك صباح ذلك اليوم بالذات و ربما لأنها أرادت أن تذّكره بأنها معه منذ اللعنة الأولى أو ربما أرادته أن يبدأ بالنسيان، لا يدري ماذا كانت تريد أن تخبره فعندما يتعلق الأمر بها فانه يعلم جيدا أن علاقته بالنّارِ لم تكن يوماً عاديةً، يرمي بنفسه في النَّار ليحرقَ اسمه فيها ويُخْرِجُ السيجارة المتبقيةَ في جيبهِ ليحرقَ فيها أنفاسه، ليتذكر ما حدث له صباحا.
كان قد مرَّ شهرٌ كامل على آخرِ حديثٍ جمعهُ مع أمه، لم يستطع أيٌّ منهما أن يكسر هذا الجليد الذي تراكم بينهما، أو أن يبدّد أيّ منهما تلك الجفوةَ الحاصلة
لا يذكر أنَّه استطاع ألا يحدِّث أمه كل هذا الوقت، فقط حدَثَ مرة أن افترقا لمدة شهرٍ ونصف أيام خدمته العسكرية لكنها وفور انتهاء فترة التدريب أتته تُسابقُ خطوَها وتحملُ كل ما استطاعت حمله من أكل وملابس وكأنها تعوّضه عما فاته أو فاتها من حنان ورعاية.
لم يحدث بينهما شجارٌ أو ما شابه، لكن شيئا قامت به.... - بل حصل معها - أثار غضبه ولم يستطع هضمه ولا حتى مواجهتها به فرغم مرور شهر فهو لم يجد بعد طريقة للحديث معها في الأمر
كان قد قرّر وضع حدٍّ لكل هذا، فاليوم، قام باقتناءِ هدية بسيطة لها كيس من الحناء كانت قد طلبته منه منذ فترةٍ ليْست بالبعيدة، بدت له فكرةً مناسبةً أن يهديها شيئا يبقى معها لمدة طويلة نسبيا، ليقاوم فترات الجفاء القادمة
مُتَوَجِّهاً إليها بعد خروجه من المحل الذي اقتنى منه هديتَه، شغل تفكيره شيء واحد فقط .... - كيف سيبدأ حديثه معها؟
كل شيء بدا غريبا في طريقه إليها وأكثر تعقيدا من كلِّ المراتِ السابقة، لطالما كان التواصل مع أمه لا يحتاج لأكثر من ابتسامة منها تشرقُ بين تجاعيد وجهها الجميل لتملأ حياتَهُ حياةً، لم يكن يحتاج للتفكير قبل ذلك كيف سيتكلم معها فهي التي علمته الكلام
هو عادةً لا يهتم للتفاصيلِ الصغيرةِ كافتتاحِ حوارٍ، أو اختيارِ هديةٍ فهي من علَّمته أنَّ جوهر الأشياء هو المهمُ، لكن هذه المرةَ بالذاتِ تختلفُ، فمن بين كل أحاديثهما السابقة كان افتتَاحُ هذا الحوار صعباً جدا ومهمًّا
محاولا إيجاد مكان لإخفاء علبة سجائره، ارتسمتْ على وجهه نفسُ الابتسامةِ الصفراء التي علته يوم أمسكته أمه فيها يدخن لأول مرة، يومها غضبت عليه فأقسم برأسها أنه لن يعود إلى ذلك أبدا، طبعا لم يكن يقصد أنه سوفَ يَتَوَقَفُ عنِ التدخينِ ولكنَّه كانَ يقصدُ أنَّها لنْ تمسكهُ يُدَخِنُ مرةً أُخْرَى
مدركاً أنَّ مساعيهِ في الصلحِ ستفشلُ إن هو حنث بقَسَمِهِ قامَ بإخفاءِ علبةِ السجَائِرِ، واقتربَ منْ أمه بعد شهر من الفراق سلم عليها وجلس بجانبها، لكنه لم يقبلها هذه المرة على رغم عادته مع أنه كان يريد ذلك وبشدة، وهي أيضا كانت على غيرِ عادتِها صامتةً
. لم تكن الأفكار قد تبلورت بعد في ذهنه عن كيفية افتتاح الحديث معها -
أيعتذر منها ويطلب المغفرة؟ -
-هل يلومها ويعاتبها؟
أم يتجاهلان الموضوع بفتح موضوع آخر جديد كما تعودا أن يفعلا دائما بعد كل جفوةٍ تحصلُ بينَهُما؟
قرر ألا يغامرَ كثيراً وأن يقوم بما تعود على فعله :
أتعلمين أن وليد قرر التقدم للفتاة التي تعرف عليها مؤخرا، لكن أمه لم توافق عليها –
مسكين وليد لا يعلم حتى سبب رفض والدته لاختياره؟
أرجوا أن لا تفعلي ذلك معي يا أمي ذات يوم .... قالها ممازحا -
توقف عن الكلام، وساد صمت رهيب في المكان لم يستطع عندها أن يتمالك نفسه
أجهشَ بالبكاءِ، تسلَّلتِ منهُ دموعٌ استقرَّتْ في الوعاءِ الذي كانَ قد بدأَ يُبَلِّلُ فيهِ الحنَّاء بالماء، مبللةً بدموعه وضع الحنّاء على قبرِ والدتهِ، ورفع يديهِ ليقرأ عليها الفاتحة، وبعدها انصرف
***