عجبا لهم ...
تقي الدين
✯مــشــرف عـام✯
الإشراف
التدقيق والتقييم
قضايا وألغاز
النشاط: 100%
نتمنى من الكتاب المشاركين في مسابقة المحتوى الإبداعي أن يلتزموا و لو بشيء من بنية القصة أدناه و أن يبتعدوا عن الإنشاء باستعمال تطبيقات الذكاء الاصطناعي، فالهدف الأساسي هو تطوير المحتوى العربي و خلق روح من الإبداع و التنافسية الشريفة بعيدا عن كل أشكال التحايل و الغش.
كنت مستقرا قبل انتقالي شمال البلاد في قرية جنوبية صغيرة لا تخفى فيها خافية، يعرف الكبير فيها الصغير والصغير فيها الكبير، وسكن الشقة المجاورة لشقتي قبل أيام من انتقالي شاب نحيف، أسمر البشرة، كثيف اللحية وحزين الملامح يتناهى إليَ بكاءه في سكون الليالي وألمح انتفاخ عينيه عند خروجه لأداء صلاة الفجر كل يوم فعجبت لأمره وحزنت لحاله. شاب وحيد يستأنس بعبراته في ظلمات الليل وأقرانه يستأنسون بصاحبات وزوجات وبنات وبنين، فحز في نفسي أن اسأل عن حاله واستفسر عن موقفه لعلي أقدر أن أمد له يد العون فنزلت للمقهى الشعبي وتبادلت أطراف الحديث مع مجموعة شباب قصوا على شيئا من قصته فقالوا:
"إنه من فلسطين وقد خرج منها بمعجزة فلجأ إلى قريتنا، وقيل أنه استقر في قرى أخرى لكننا لا ندري صحة ذلك من عدمه و كل ما نعرفه أو قيل لنا بالأحرى هو أنه شخص مكسور يأبى العمل و الاختلاط و يفضل العزلة، لا يبتغي قوتا و لا لباسا و لا حتى فراشا، ينتقل بين شقته و المسجد مطأطأ الرأس، متواضع الهيئة، تكاد تقسم أنه أبكم من شدة رفضه للحديث".
ثم لم أزل أسمعه بعد ذلك في كثير من الليالي إما باكيا أو يذرح شقته جيئة و إيابا، هائما بين جدرانها كناقة غرقت بين رمال الصحراء فلم تجد طريق العودة بين الإبل فأحزن لحزنه و أبكي لبكائه و يخيل لي ما مر به هذا الفتى من قهر و ظلم فأتمنى لو استطيع أن أداخله مداخلة صديق أو جار قريب فيفتح لي قلبه و يفرغ علي أوجاعه لربما الكلام يشفي شيئا من ألمه و يزيح ثقلا عن كاهله إلا أنني آبى ذلك في كل مرة خوفا من أن أوصم بالتطفل أو الفضول الزائد، وأخشى أن يرى فيَ ذلك الفتى مجرد سائل آخر يفتح جروحه حتى سمعته ليلة يوم إثنين و أنا أتسلق الدرج محاولا التسلل إلى مرتعي يأن أنّة مرض شديد فوقفت محتارا كسائل على ناصية طريق لا أدري ماذا أصنع ثم استعذت بالله من الشيطان و حادثت نفسي قائلا أن هذا أخ في الدين و العروبة فلا يجوز تركه لوحده لعل مرضه يستلزم طبيبا فسرت صوب شقته وطرقت بابه بضع مرات ثم أدرت المقبض فإذا بالباب مفتوح فولجت و قد لفحني لحظة دخولي نسيم موحش لم أعهد الإحساس به إلا على عتبات المقابر، كان الفتى مستلقيا على سرير خشبي قديم أكله العفن فاقتربت منه بعدما أضأت ذلك المصباح الخافت فوق رأسه ففتح عينيه و عجب لرؤية ذلك الجار الغريب يقف عند سريره فسألته أتشكو مرضا أم أنك تبكي بكاء العادة؟ فمسح العرق من جبينه وأدركت أنه كان يعاني من حمى قوية فاستدعيت الطبيب وأتيت بكرسي مهترئ كان واقفا قرب طاولة الطعام فاتخذته مجلسا وسألت: ما قصتك؟ فنهرني بيده واستدار فألحيت عليه قائلا: لئن لم تعطني إجابة لأبقين هنا طيلة الليل فأفسد عزلتك وأحرمك ساعات بكائك بل إني سأستمر بتكرار السؤال حتى تتحدث. فاستقام وعاد لرشده ولمح في نبرتي جِدًا لم يعهده من قبل فأنشأ يقول:
"كنا أربعة ... أنا وزوجتي وابنتين وكان القصف كثيفا عنيفا حتى اعتدنا صوته، سويت المنازل المجاورة لمنزلنا بالتراب وترجتني زوجتي أكثر من مرة أن نغادر صوب أحد المخيمات خوفا على البنات لكنني أبيت أن أفر من منزلي وأتركه لشخص غريب يستوطن جدرانه، ثم إن المخيمات لم تكن أكثر أمنا. وسمعت يوم خميس أن شاحنة قمح ستصل المدينة بعد الظهر فخرجت صباحا والجميع نيام قاصدا مكان وصول الحمولة لعلي أظفر بكيس يسد رمقنا أياما معدودات لا يعلمها إلا الله وانتظرت مثل انتظار كل السكان حتى زلزلت الأرض تحت أقدامنا بقصف عنيف فاختبت ولمحت على يميني دخانا يتصاعد من مكان مألوف و أدركت بعد لحظة أن القصف قد ضرب المنطقة التي وقف فيها منزلي يتيما بين الحطام فهرعت كالمجنون أدفع الأجساد وأصرخ باسم زوجتي لكنها لم تكن هناك والمنزل لم يكن هناك و البنات لم يكنّ هناك فرحت أقلب الصخور و أدفع التراب لساعتين أو ثلاث حتى جاء عمي فأمسكني بقوة و دفعني بعيدا و هو يردد لقد رحلوا ... لقد رحلوا ...، و كان عنده شيء من المال فاستثمره في إخراجي و أرادني أن أتزوج مرة أخرى حتى لا ينقطع النسل لكنني رفضت وأخبرته أنني عائد لا محالة حتى لو اخرجني بالقوة عازما على دفن زوجتي و بناتي دفنا يليق بأرواحهم و أثرهم، و إني لأخطط للعودة قريبا فلا أريد أن أختلط بالناس و لا أن أعمل عندهم بل إني عجبت لأمرهم كيف يضحكون و بلاد المسلمين ثكلى، كيف يأكلون و إخوانهم جوعى، كيف ينسون و إخوانهم يموتون، فكما ترى إني أبكي على تعنتي الذي قتل رفيقة دربي و فلذات كبدي لكنني أبكي أيضا على إسلامنا، على عروبتنا، على أسلحتنا الموضوعة حتى أكلها الصدأ، على كلمات واهية واهنة تُشترى بها بعض الضمائر و تُخرس بها بعض الأفواه، عجبا ألا يرون الموت والظلم والتنكيل والكذب والتلفيق، عجبا لهم ... عجبا ... عجبا ...".
وظل يردد تلك العبارة حتى فقد وعيه و جاء الطبيب فأمر بأخذه للمشفى وكانت تلك آخر مرة أراه فيها وقد سمعت من ألسنة الناس أنه قد عاد لبلده ليوفي بوعده لروح زوجته و بناته فعجبت أنا من قوته ولم أجد حد كتابتي هذه السطور وصفا يوفيه حقه فإنه أقوى من السباع وأكثر صبرا من الجمال وأكثر أصالة من الخيول، لقد رأيت في ذلك الشاب شعبا، رأيت فيه لمحة من إسلامنا الحق، رأيت فيه قول: "والله إني أتيتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة". رحلت عن قريتي حاملا معي تلك الذكرى، متأملا تفاهة الحياة، فلا خير فينا إن نسينا ولا خير فينا إن تناسينا ولا خير فينا إن تغاضينا.
عجبا لهم ...
كنت مستقرا قبل انتقالي شمال البلاد في قرية جنوبية صغيرة لا تخفى فيها خافية، يعرف الكبير فيها الصغير والصغير فيها الكبير، وسكن الشقة المجاورة لشقتي قبل أيام من انتقالي شاب نحيف، أسمر البشرة، كثيف اللحية وحزين الملامح يتناهى إليَ بكاءه في سكون الليالي وألمح انتفاخ عينيه عند خروجه لأداء صلاة الفجر كل يوم فعجبت لأمره وحزنت لحاله. شاب وحيد يستأنس بعبراته في ظلمات الليل وأقرانه يستأنسون بصاحبات وزوجات وبنات وبنين، فحز في نفسي أن اسأل عن حاله واستفسر عن موقفه لعلي أقدر أن أمد له يد العون فنزلت للمقهى الشعبي وتبادلت أطراف الحديث مع مجموعة شباب قصوا على شيئا من قصته فقالوا:
"إنه من فلسطين وقد خرج منها بمعجزة فلجأ إلى قريتنا، وقيل أنه استقر في قرى أخرى لكننا لا ندري صحة ذلك من عدمه و كل ما نعرفه أو قيل لنا بالأحرى هو أنه شخص مكسور يأبى العمل و الاختلاط و يفضل العزلة، لا يبتغي قوتا و لا لباسا و لا حتى فراشا، ينتقل بين شقته و المسجد مطأطأ الرأس، متواضع الهيئة، تكاد تقسم أنه أبكم من شدة رفضه للحديث".
ثم لم أزل أسمعه بعد ذلك في كثير من الليالي إما باكيا أو يذرح شقته جيئة و إيابا، هائما بين جدرانها كناقة غرقت بين رمال الصحراء فلم تجد طريق العودة بين الإبل فأحزن لحزنه و أبكي لبكائه و يخيل لي ما مر به هذا الفتى من قهر و ظلم فأتمنى لو استطيع أن أداخله مداخلة صديق أو جار قريب فيفتح لي قلبه و يفرغ علي أوجاعه لربما الكلام يشفي شيئا من ألمه و يزيح ثقلا عن كاهله إلا أنني آبى ذلك في كل مرة خوفا من أن أوصم بالتطفل أو الفضول الزائد، وأخشى أن يرى فيَ ذلك الفتى مجرد سائل آخر يفتح جروحه حتى سمعته ليلة يوم إثنين و أنا أتسلق الدرج محاولا التسلل إلى مرتعي يأن أنّة مرض شديد فوقفت محتارا كسائل على ناصية طريق لا أدري ماذا أصنع ثم استعذت بالله من الشيطان و حادثت نفسي قائلا أن هذا أخ في الدين و العروبة فلا يجوز تركه لوحده لعل مرضه يستلزم طبيبا فسرت صوب شقته وطرقت بابه بضع مرات ثم أدرت المقبض فإذا بالباب مفتوح فولجت و قد لفحني لحظة دخولي نسيم موحش لم أعهد الإحساس به إلا على عتبات المقابر، كان الفتى مستلقيا على سرير خشبي قديم أكله العفن فاقتربت منه بعدما أضأت ذلك المصباح الخافت فوق رأسه ففتح عينيه و عجب لرؤية ذلك الجار الغريب يقف عند سريره فسألته أتشكو مرضا أم أنك تبكي بكاء العادة؟ فمسح العرق من جبينه وأدركت أنه كان يعاني من حمى قوية فاستدعيت الطبيب وأتيت بكرسي مهترئ كان واقفا قرب طاولة الطعام فاتخذته مجلسا وسألت: ما قصتك؟ فنهرني بيده واستدار فألحيت عليه قائلا: لئن لم تعطني إجابة لأبقين هنا طيلة الليل فأفسد عزلتك وأحرمك ساعات بكائك بل إني سأستمر بتكرار السؤال حتى تتحدث. فاستقام وعاد لرشده ولمح في نبرتي جِدًا لم يعهده من قبل فأنشأ يقول:
"كنا أربعة ... أنا وزوجتي وابنتين وكان القصف كثيفا عنيفا حتى اعتدنا صوته، سويت المنازل المجاورة لمنزلنا بالتراب وترجتني زوجتي أكثر من مرة أن نغادر صوب أحد المخيمات خوفا على البنات لكنني أبيت أن أفر من منزلي وأتركه لشخص غريب يستوطن جدرانه، ثم إن المخيمات لم تكن أكثر أمنا. وسمعت يوم خميس أن شاحنة قمح ستصل المدينة بعد الظهر فخرجت صباحا والجميع نيام قاصدا مكان وصول الحمولة لعلي أظفر بكيس يسد رمقنا أياما معدودات لا يعلمها إلا الله وانتظرت مثل انتظار كل السكان حتى زلزلت الأرض تحت أقدامنا بقصف عنيف فاختبت ولمحت على يميني دخانا يتصاعد من مكان مألوف و أدركت بعد لحظة أن القصف قد ضرب المنطقة التي وقف فيها منزلي يتيما بين الحطام فهرعت كالمجنون أدفع الأجساد وأصرخ باسم زوجتي لكنها لم تكن هناك والمنزل لم يكن هناك و البنات لم يكنّ هناك فرحت أقلب الصخور و أدفع التراب لساعتين أو ثلاث حتى جاء عمي فأمسكني بقوة و دفعني بعيدا و هو يردد لقد رحلوا ... لقد رحلوا ...، و كان عنده شيء من المال فاستثمره في إخراجي و أرادني أن أتزوج مرة أخرى حتى لا ينقطع النسل لكنني رفضت وأخبرته أنني عائد لا محالة حتى لو اخرجني بالقوة عازما على دفن زوجتي و بناتي دفنا يليق بأرواحهم و أثرهم، و إني لأخطط للعودة قريبا فلا أريد أن أختلط بالناس و لا أن أعمل عندهم بل إني عجبت لأمرهم كيف يضحكون و بلاد المسلمين ثكلى، كيف يأكلون و إخوانهم جوعى، كيف ينسون و إخوانهم يموتون، فكما ترى إني أبكي على تعنتي الذي قتل رفيقة دربي و فلذات كبدي لكنني أبكي أيضا على إسلامنا، على عروبتنا، على أسلحتنا الموضوعة حتى أكلها الصدأ، على كلمات واهية واهنة تُشترى بها بعض الضمائر و تُخرس بها بعض الأفواه، عجبا ألا يرون الموت والظلم والتنكيل والكذب والتلفيق، عجبا لهم ... عجبا ... عجبا ...".
وظل يردد تلك العبارة حتى فقد وعيه و جاء الطبيب فأمر بأخذه للمشفى وكانت تلك آخر مرة أراه فيها وقد سمعت من ألسنة الناس أنه قد عاد لبلده ليوفي بوعده لروح زوجته و بناته فعجبت أنا من قوته ولم أجد حد كتابتي هذه السطور وصفا يوفيه حقه فإنه أقوى من السباع وأكثر صبرا من الجمال وأكثر أصالة من الخيول، لقد رأيت في ذلك الشاب شعبا، رأيت فيه لمحة من إسلامنا الحق، رأيت فيه قول: "والله إني أتيتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة". رحلت عن قريتي حاملا معي تلك الذكرى، متأملا تفاهة الحياة، فلا خير فينا إن نسينا ولا خير فينا إن تناسينا ولا خير فينا إن تغاضينا.
حالة الموضوع
مرحباً , لم تكن هناك مشاركة في هذا الموضوع لأكثر من 90 يوم.
قد يستغرق الأمر وقتًا طويلاً للحصول على رد جديد من أحد الأعضاء على مشاركتك.
قد يستغرق الأمر وقتًا طويلاً للحصول على رد جديد من أحد الأعضاء على مشاركتك.
الأخ العزيز @تقي الدين, شكراً لك الروح الصادقة والمعنويات المرتفعة في ما يتعلق بالمحتوى العربي وقضيتنا الفلسطينية.
يأسفني ان بعض المواضيع المشاركة في المسابقة قد تمت صناعتها بواسطة الذكاء الاصطناعي. لكن لن يمر ذالك مرور الكرام. نمتلك البرامج التي من شأنها كشف المحتوى المسروق والمصنوع بواسطة الذكاء الإصطناعي.
كل الأحترام والتقدير لجهودك.
يأسفني ان بعض المواضيع المشاركة في المسابقة قد تمت صناعتها بواسطة الذكاء الاصطناعي. لكن لن يمر ذالك مرور الكرام. نمتلك البرامج التي من شأنها كشف المحتوى المسروق والمصنوع بواسطة الذكاء الإصطناعي.
كل الأحترام والتقدير لجهودك.
يجب عليك تسجيل الدخول أو حساب جديد لمشاهدة المحتوى